علاقة الإنسان بالإنسان الآخر، علاقة يشوبها، دائما، الكثير من الريبة والتوجس والخوف والقلق، ولهذه النظرة، أسباب ومسببات معرفية وتاريخية وسياسية ودينية واجتماعية وحتى اقتصادية. فالإنسان منذ تواجده على الأرض، بصيغ تطورية مختلفة، نزع إلى التريث في إقامة العلاقات والصداقات مع الآخر البعيد، إلا فيما ندر، بينما في الدائرة القريبة منه، يكون أكثر انفتاحا ووثوقا وانصهارا، وهذا يرجع إلى ما يسميه علم النفس الاجتماعي بمبدأ الألفة، وهو ما يشير إلى ازالة الفوارق والحدود بين عدة أو مجموعة من الأفراد، يصبحون فيما بعد مجموعة متجانسة في التفكير والطاعة والديمومة.
وربما، ونتكلم هنا، منذ بدايات العصر الحديث، كانت الحروب، والطبقية، وصراع العبيد مع الحريات، وانتشار المعتقدات الدينية، كانت أكثرها سببا في ازدراء الإنسان للإنسان الآخر، وبمعنى مقرب أكثر، كانت هذه المحددات التاريخية، السبب جله، إن لم يكن كله، في أن يتحيز الإنسان، لمجموعته، أو هويته، أو تاريخه، أو دينه، وبالتالي ينظر إلى الإنسان الآخر بنظرة يكتنفها الكثير من الغموض والعداء والانتظار لما يسفر عنه من تحركات قد تكون خطيرة ضده أو ضد افكاره وهويته.
لكن، ومنذ انبثاق مواثيق حقوق الإنسان، والدساتير العلمانية والديمقراطية، وثورات التنوير والنهضة الصناعية، وانتصار الفكر الحداثي على ترهات الماضي وتاريخ العبودية والخضوع للثوابت وإلى يقينيات والمسلمات، أخذت النظرة إلى الإنسان تختلف. أخذت في النضج والعقلنة والفهم والتفلسف، حتى وصلت إلى الأنسنة والاحترام المتبادل بعد أن فهم الإنسان العاقل أن لاجدوى من الحروب، ولا فائدة من الأديان في تمزيقها للعلاقات الإنسانية.
ولا يمكن أن تكون الهويات بديلا عن الوطن والقانون والحريات والإبداع والمستقبل. فهم الإنسان أن نظرته إلى المختلف، إلى الآخر هي تماما ما يجب أن تكون كما ينظر الإنسان العقلاني إلى نفسه، بدون تحيز، او تعصب، او ازدراء على خلفيات اثنية او عرقية او جنسية الخ. لقد فهم الإنسان المعاصر، بعد أن قدم التضحيات، ومارس بدوره، بكل جدارة، العنصرية والظلم والبطش والاستبداد ضد الشعوب المختلفة وضد الأقوام الأخرى، أن كل هذه البشاعة، هي سلوكيات الإنسان البدائي، إنسان ما قبل الدولة، وما قبل الحضارة، وما قبل العقل والعلم والأخلاق.
لقد تغير الإنسان كظاهرة حداثية، أصبح أكثر اهتماما بالحياة، وشغفا بالعلم والفلسفة والقراءة والفن والحب والحياة والمستقبل.
أصبح يتحدى الطبيعة والمعجزات، أصبح يعمل ويفكر وينتج ويبدع، بل أصبحت سعادته في تقديم أقصى طاقات البذل والإنتاج والتميز، لأنه يعلم في النهاية، أن عمله وجهده، قد يثمر عن فائدة، عن طفرة تقدمية، عن ميزة إبداعية، عن فائدة لكل البشر في شتى بقاع العالم.
بينما في عالم مواز، يقبع في الشرق الأوسط، حيث تمر عليه نفس الأيام والسنين والساعات والثواني، حيث يتبدل الليل مع الصباح، وتمر فصول السنة عليهم مثل غيرهم. إلا أنهم يعيشون في كهوف مظلمة، في حفر عميقة وداكنة ولا قاع لها، فهم يسقطون ويسقطون منذ عشرات السنين، بعد أن قطعوا الحبل الذي يصلهم بالعلم والفلسفة والعقل والتفكير، بعد أن حرقوا كتب ابن رشد وكفروا معظم مفكري عصرهم، بعد أن رموهم بالحجارة وقطعوا أوصالهم واحرقوهم بالنار والحديد، بعد أن اتهموهم بالجنون والزندقة والكفر والمس الشيطاني.
في هذا الشرق الأوسط التعيس، يقبع العقل العربي والإنسان العربي في دهإلىز الماضي، وقبور الموتى، وصفحات كتب التراث والسلف والتلف والخلف. يعيش الإنسان العربي بلا هوية، بلا ذاكرة، بلا تاريخ صنعه ويفتخر به، بلا مناطق آمنة للحب والحياة والسكنى. يعيش العربي، في دائرة أنت معي أو ضدي، أنت مؤمن أو كافر، أنت وطني أو عميل، أنت مع القطيع أو ذلك المجنون الخارج منه، أنت مع الجماعة أم عليك اللعنة والسباب والشتائم.
يعيش العربي، في الغالب، مع أحكامه الثابتة والموقنة والمقدسة، فهو ينطلق منها، ويتاجر بها، ويضرب بها ويجلد بها ويقتلك من أجلها. يعيش العربي رافعا لشعارات الأخلاق وهو فاسد، مناديا بالإيمان وهو داعر، مدافعا عن الحجاب والصلاة وهو لا يعرفها إلا في إجبار أهل بيته، بينما في الخارج، وفي أماكن لا يوجد بها رقابة إلهية، كما يتصور، فهو زير نساء وداعي لحقوق المرأة والمثلية والنسوية، فهو ذلك العنتر الذي يخوض أصعب المعارك من أجل حضن امرأة وكأس من الخمرة وتصفيق من السكارى في حانات آخر الليل.
يعيش العربي، مصنفا كل الناس إلا نفسه، يحتقر العرق والفخذ والهوية والمذهب والدين الذي يخالف ما ورثه، يزدري كل مختلف، ويرفض كل دعوة للتسامح والاختلاف والتحاور، ويحتقر كل رأي مختلف، وكل دعوة لاستخدام العقل، فهو يرتفع نشوة حين يهزم غيره كلاميا، حين يتنمر على من يختلف عنه، حين يعمل لديه العبيد وهو سيدهم الذي يحمل السوط ويضربهم في حال مخالفة الأوامر.
يعيش المواطن العربي، دون أن يقرأ التاريخ، دون أن يعي المتغيرات والأحداث والعصر الجديد. يعيش وهو مقتنع تماما بأن الأندلس ستعود، وأن الخلافة قادمة، وأن التاريخ الذهبي، وعصر الغزوات والسبايا سينتصر على أساطين العلم والتكنولوجيا والحضارة والتقدم.
يعيش العربي وهو يملك نظرة معيبة إلى الإنسان المختلف لا تتجاوز تراثه، لا تنفصم عن موروثاته، لا تبتعد عن هويته وتعليمه وشعاراته الغاطسة في النمذجة والتقليد والتلقين.
وحتى نجيب على السؤال المطروح دائما، أو نتنبأ بالإجابات النموذجية على مثل هذه النقاشات والكتابات التى تقول ومتى سينتهي هذا البؤس والتردي؟، متى سنكون على سكة القطار الذاهب إلى المستقبل؟. متى يفيق العرب من سباتهم وخمولهم وكسلهم وادعاءاتهم الفارغة بالانتصار والمجد والتفوق؟.
نقول لهم، أن الأمم الأخرى، كما قلنا في البداية، مارست أبشع الجرائم، لكنها استفاقت ووعت واعترفت، مارست ظلم الإنسان للإنسان، لكنها قدمت دساتير تقدس حرية ووجود ومكانة الإنسان، استعبدت الإنسان لخدمة الإنسان لكنها قطعت كل قيد ورمت كل سوط وبشرت بالعصر الإنساني، عصر العلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة والمساواة. بينما مازال العربي، ونقول في الغالب حتى لا يتم اتهامنا بالتعميم، العربي لا يزال يمارس أبشع الجرائم ضد الإنسان لكن بمسميات حداثية، كنظام الكفيل في دول الخليج، وشرف المرأة في طول وعرض الوطن العربي، والحفاظ على الخصوصية والعادات والتقاليد، وحماية المجتمع والنشء من الدعايات المغرضة والاستلاب الثقافي.
فتحت هذه المسميات يمكنك أن تقتل أختك أو زوجتك أو حتى أمك. يمكنك أن تختار عن المرأة ما تحب وتلبس وتخرج، أن تزوجها وتطلقها، أن تأخذ أو تسرق بالأحرى مالها بحجة الولاية والوصاية، يمكنك أن تلبس الطفلة الحجاب دون أن يكلمك أحد، أن تمنع تدريس الفلسفة والعلوم، أن تسجن المختلف، أن تجعل من يعارض الحكم والدين والمذهب مذنبا لمجرد مقال أو رسمة أو فن تمثيلي.
في الحقيقة، لا يزال العقل العربي يعاني من نظرة دائمة مريضة إلى المختلف، إلى المغاير، إلى من يخرج من القطيع. لا يزال بانتظار العربي مئات السنين من النقد والشك والسؤال، من إعادة التفكير والثورة على الموروث والسائد، لا يزال الطريق طويلا والرعب ساكنا والجهل متفشيا والاستبداد حاكما، لا يزال الأمل حكايا العجائز والجدات لاحفادهم قبل النوم، لا يزال المختلف في الثقافة العربية والشخصية العربية والعقل العربي هو العدو الأقرب الذي يجب تصفيته قبل العدو الأبعد.
- الآراء الواردة في المقال من حق الكاتب ولا تعبر بالضروروة عن شبكة مواطن الإعلامية