يبدو المشهد قاتمًا في إيران، بعد مظاهر احتجاجية مناهضة للحكومة واشتباكاتٍ مع قواتِ الأمنِ راحَ ضحيتها العديد من المدنيين، وذلكَ على خلفيةِ اعتقال الشابة الكردية مهيسا أمجد أميني (22 عامًا) من قبل ما تُدعى بـ “شرطة الأخلاق“، والتي تُعرف محليًا بـــ “غشتي إرشاد” وانتهى بها المطاف ميتةً بمشفى (قصري) جرَّاء التعذيب، لكنّ الشرطة علّقت بأن مهيسا لم تكن مُلتزِمة بـ “معايير اِرتداءِ الحِجاب”. أعاد هذا الحادث جدلًا قديمًا جديدًا بشأن الحجاب إلى الواجهة في إيران، كما أعطاه مُقدِمات مُشجِعة لاِحتجاجاتٍ حرَّكت الشارع الإيراني، ومعها تمَ ابتكار وسائل تأثير وضغط كبيرين على النِّظام داخليًا وخارجيًا، وبذلك -ربما- تكون المرأة الإيرانية هي السّباقة لإحداث تغيير في نظامٍ ثيوقراطيٍ حكمَ البلاد منذ أكثر من أربعين عامًا، وتكونُ مهيسا نسخةً نسويةً عن الشابِ التونسي بو عزيزي الذَّي أَشعلَ ما سُمّيَ بــ “ثورات الربيع العربي” منذُ عقدٍ مضى تقريبًا.
تاريخيًا في الجمهورية الإيرانية، أصبحَ الحجاب فرضًا منذ قيام الثورة الإسلامية 1979م، والتي أطاحت بحكم الشاه محمَّد رِضا بهلوي بعد أن منعه في ظل حكمه، وحظرَهُ حظرًا شاملًا من خلال إقرار قانون في العام 1936م يُلزم الإيرانيات بخلعِهِ، معتبرًا أنه من مظاهر التّخلف، بل إن جنوده كانوا يزيلونه بالقوة عن رؤوس النساء اللواتي يرتدينه في الأماكن العامة، وتمَّ منع المحجبات من العملِ، وارتياد المطاعم والمسارح والحدائق. وبعد بضعة عُقود اِنقلبت تلك السياسات بالكامل وعادَ الحجابُ إلى الواجهة السياسية مجددًا، بعدَ صدورِ تعليمات قائِدِ الثَّورةِ الخميني المُلزِمة للنساء بارتداء الحجاب الشرعي خارج بيوتهن. وأصبحت إيران – ولا تزال- الدولة الوحيدة في العالم تقريبًا التي يتوجب على النساء فيها -قانونًا- تغطية شعرهن؛ لأن الحجاب فيها ليس قضيةً اجتماعيةً أو دينيةً فحسب، بل يتخذُ طابعًا سياسيًا مثيرًا للجدلِ.
وهذا ما يُفسر وجهة نظر النظام الإيراني في الحجاب، التي تعدُّ تغطية شعر المرأة والتزامها باللباس المحتشم أساسًا لتقوية النظام؛ لأن النظام الإيراني منذ نشأته أسسَ شرعيتهُ بالاعتماد على أمرين أساسيين، أولهما: الخطاب العدائي لأَمريكا وإسرائيل، وثانيهما: تطبيق قواعد الشريعة الإسلامية -من وجهة نظرهم-؛ ومن ثمَ فإن أي تراجع في شأنِ هذين الأمرين سيجعلُ النِّظام القائِم لا يختلفُ عن نظام البهلوي الذي كان مدعومًا من أَمريكا. وهذا ما يؤيده عدد من السياسات في هذا الاِتجاه، آخِرها المرسوم الذي وقعه الرئيس الإيراني -قبل أسابيع قليلة من مقتل مهيسا- في أغسطس 2022 الذي يُلزِمُ التَّشدد في لباس النساء، وينص على فرض عقوبات قاسية على كل من يخرِق القانون، سواءً علنًا في الشوارع أو حتى عبر الإنترنت.
والمُلاحظ أن النظام الإِيراني يعملُ وبِشكلٍ دائِم على تعزيزِ عددٍ من الاستراتيجيات المتبعة لنشر ثقافة العفاف –حسب ما يزعمون-، ومنها ما يُدعى بشرطة الأخلاق التّي تأسست في العام 2005، وهي قوة منوطٌ بها فرض قوانين اللِّباس الإسلامي على النِّساء والفتيات في الأماكن العامة. وبِهذا فإنه يُصبحُ مألوفًا مشاهدة دوريات هذه الشرطة وهي تجوب شوارع الجمهورية، وتقتاد النِّساء إلى شاحناتها، وتعرضهن للضرب المبرح والإهانات، على الرغم من زعم الحكومة بأن دور هذه الشرطة لا يتعدى نقل المخالفات إلى مركزٍ للشّرطةِ أَو منشأةٍ إصلاحيةٍ تُسمى بــ (مركز التعليم والإرشاد)؛ لتستمع إلى دروسٍ إلزاميةٍ عن الحِجاب والقيم الإسلاميّة، ثمّ يُطلق سراحهن في نفسِ اليوم -عادةً- بعدَ حضور أحد أفراد العائلة، والذي غالبًا ما يكون ذكرًا. الجدير بالذكر بأن عددًا كبيرًا من الإيرانيين يعبرون على منصات التواصُل الاِجتماعي عن غضبهم إزاء شرطة الأخلاق، ويصفونها بـــ “دوريات القتل”.
ويتفقُ كثيرٌ من المراقبين أن مقتل مهيسا سلّطَ الضوء أكثر على التّشريعات التي تفرضها الحكومة لتضييق الخناق على الحُريات، في وقتٍ تُعاني فيه الجمهورية -خلال السّنوات الخمس الأخيرة- من موجاتٍ متعددة من الاحتجاجات التَّي تندلِعُ؛ إِمَّا لسوء الوضع الاقتصادي أَو ارتفاع الأسعار أَو لتضييق الطيف السِّياسي، أَو لزيادة الحد من الحُريّات، أو المُعارِضة لاستمرار الفساد والقمع وسوء الإدارة. إلا أن الفارق في احتجاجات هذه المرَّة هو أن المرأة هي التي تقود الشارِع مُتجاوِزةً الانقسامات العرقية الضّيقة، ولذا فقد خرجَ خلفها عشرات الآلاف من الإيرانيين إلى نحوِ 31 محافظةً إيرانيّة، وأكثر من 80 مدينةً ابتداءً بالعاصِمة طهران ومرورًا بمدنٍ أخرى ذات أغلبية كُردية وهم يحملونَ شعارات بدا لافتًا أن أغلبها تنادي بــ “سقوط وموت الديكتاتور” في إشارةٍ إلى مرشد الجمهورية الخامنئي. وفي المقابل دعا مجلس صيانة الدستور بالبلاد القضاء إلى التَّعامُل بحسمٍ مع المسؤولين عن قتل وإصابة الأبرياء وقوات الأمن. كما أعطى مُرشد الجمهُوريَّة الضوء الأخضر لقوات الأمن بقمع التظاهرات، وممارسة مزيدًا من العنف والقُوَّةِ لإنهاء الاحتجاجات، التي وصفها بأنها “أعمال شغب”.
وعلى وقع اتساع رقعة هذه الاحتجاجات التي تُعدُّ الأكبر في إيران منذ تظاهرات رفع أسعار الوقود في تشرين الثاني/نوفمبر 2019؛ فقد سارعَ النِّظام بنشرِ تعزيزاتٍ أمنية لقمع المتظاهرين، قابله عرض غير مسبوق ولافِت في إيران تمثل في قيام عدد من المحتجات بخلع الأوشحةِ عن رؤوسِهن وإلقائها وسط نيرانٍ أُشعِلت في الشَّوارعِ، بينما عمدت أخريات إلى قصّ شعورهن في تحركٍ رمزيٍ. وخلعت مجموعة أخرى الحجاب في جنازةِ مهيسا التي دُفنت في مسقط رأسها مدينة سَقّز بمحافظة كردستان الغربية -شمال غرب إيران- تحت مراقبة عناصر الأمن وبمشاركة آلاف المشيعين، بل انتقلت هذه الاحتجاجات إلى منصات التَّواصُل الاِجتماعي عندما أطلقت العديد من المحجبات الإيرانيات وسم (أنا محجبة وأعارض دوريات الأخلاق).
الواضح أن هذه الاحتجاجات المتصاعِدة قد أوصلت رسالتها على المستويين الداخلي والخارجي، وليس أدل من ذلك قيام الرئيس الإيراني بنفسه بالاتصال بعائلة مهيسا وتعزيتها، كما غرد عبر حسابه في تويتر مُعبِرًا عن ألمه وتعاطفه، مُختتِمًا تدوينته بوسم #مهيسا_أمیني، وكلفَ وزير داخليته أحمد وحيدي شخصيًا بالتحقيق باهتمام خاص وعاجل في الحادث، فيما أعلن القضاء الإيراني عن تشكيل فريق عملٍ خاص للتحقيق في هذه القضية أيضًا. وتنوعت أشكال الدعمِ العالمي الأخرى للمتظاهرين والمُحتجِين ما بينَ تحركاتٍ في كثيرٍ من دولِ العالمِ، إلى تقارير المنظمات الدولية حول قمع النظام الإيراني والمطالبة بمحاسبته. وأَكدَ الأمين العام للأمم المتحدة على وجودِ دعوةٍ إلى تأسيس آليةٍ أمميةٍ للتحقيق في الأحداث الداخلية ومساءلة طهران عما حدث. وعبرت هيئة الأمم المتحدة للمرأة بأن ما حصل لمهيسا: “مأساة تفوق كل الأبعاد، وأكدت أن الأسباب والظروف المحددة لوفاتها غير واضحة، وأنها تعرّضت لاحتجاز ومعاملة انتهكت فيها أبسط حقوقها كإنسان”. فيما دعا المبعوث الأمريكي الخاص لإيران روبرت مالي إيران إلى “إنهاء عنفها غير اللائق ضد النساء لممارستهم حقوقهم الأساسية”.
ومعَ كُل هذا فإِنه من غير المرجح أن تحصل المرأة الإيرانية على كامل الحقوق والحريات التي تنشدها، وربما تخفت مشاهد مطاردة النساء في الشوارع، إلا أن تلك الاحتجاجات ستظلُ باقيةً -إن استمرّت بنفس الزّخم الذي اشتعلت به- على العكس من الاحتجاجات التي تندلعُ لأي أسبابٍ أخرى. فقد يستطيع النظام الإيراني في حال تم رفع العقوبات أن يشعر المواطن ببعض التحسن الطفيف في الاقتصاد، أو أن يقدم دعمًا للفئات محدودة الدخل، لكنه لن يقوم بتوسيع هامش حرية المرأة، ومن ثم يتوقع استمرار هذه الحركات الاحتجاجية العفوية المرتبطة بحقوق النساء وحرياتهن التي حتمًا ستكون بمرور الوقت أكثرَ صُعوبةً في إدارتها. وبالتالي فإنه قد تتسع وتتشابك مجموع هذه التحركات الاحتجاجية وتُطالب بتغيير النظام السياسي بأكمله. وهُنا يمكننا القول بأن إيران باتت (مأزومة)، فهل سيصمد النظام الإِيراني أمام كل هذه المتغيرات؟
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.