هذا مثلي، وذاك مايع، وغيره لا يصلي ولا يصوم، وهؤلاء لا يحترمون خصوصية العادات والتقاليد الدينية، وتلك تلبس لباسًا فاضحًا، وغيرها تنادي بالاختلاط والنسوية، وغيرهم يركضون بملابس غير محتشمة، وبعضهم يتكلمون دون رادع عن الحرية والنقد والشك.. هكذا هي مشاكل وأزمات الكويت في القرن الحديث، هكذا هو مستوى التفكير وعقلية الغالبية، ومستوى التطور البشري والعقلي مع الاعتذار لداروين ونظريته.
هكذا مستوى مخرجات تعليم الكويت، ومستوى ثقافة غالبية شعبها ودرجة أخلاق المجتمع، ونتيجة توغل دينهم بينهم. هكذا يفكر بعض، وربما أغلب نوائب الأمة في كيفية مواجهة الفساد والقضاء على التراجع والتخلف، وتنمية مصادر الدخل وزيادة الاستثمار، وهكذا يرى بعض رجال الدين والفقهاء نساء ورجال الكويت، وهكذا تخرس الحكومة تمامًا عن مواجهة، أو على الأقل رفض دعوات الإسلام السياسي بأسلمة الكويت وجرها إلى مستنقعات قندهار وطالبان وداعش وبقية العصابات المتاجرة بالدين والأخلاق والتقاليد والتراث.
تمنع حكومة الكويت بسهولة، كل دعوة للفرح، وكل مناشدة بالسعادة والغناء والحب، وكل احتفال ماراثوني رياضي صحي، وكل شعار ينادي بالحب في المطاعم والساحات والشعارات، وكل ذلك من أجل عيون ورضى بعض أعضاء مجلس الأمة، الملتحين منهم والمنافقين، حتى لا يغضبهم شعر امرأة خارج الحجاب والنقاب، وسيقان رجل وصدر فتاة.
تمنع حكومة الكويت، أي تمظهر حضاري وأي شكل علماني وأي دعوة للحريات والسلام والاختلاف، حتى لا تخسر صوت هؤلاء التيارات المتشددة، ودعمها المواقف الحكومية في البرلمان والشارع وكل مكان.
وصلت الكويت، كدولة ومجتمع، إلى فرض مثل هذه الوصاية الدينية المقيتة على الشعب رغمًا عن أنفه، بعد أن تراخت الحكومات المتعاقبة، وأسرة الحكم في غالب الأوقات، في تمكين الوجه الدستوري الكويتي الحضاري على الدولة؛ فالكويت نشأت على الاختلاف والانفتاح والتنوع وحب الحياة كتأسيس تاريخي وهوياتي.
وكما هو معروف؛ للوطن هوية وشكل وثقافة لا يمكن تغييرها بسهولة أو تجييره لمصالح أخرى حزبية أو ذات هويات اصطفافية وعقائدية ومذهبية؛ فمثل هذا التحول -إن حدث-، وهو ما يحدث اليوم بشكل فج ووقح جدًا (قد بدأ منذ فترة ما بعد التحرير)، يقتل التطور ويقسم المجتمع ويجعل من الشعب أدوات صراع للهوية والمتاجرة والانقسام، ناهيك عن تخلف وتراجع الدولة بكل مستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية.
ما دفع الكويت كدولة ومجتمع إلى السكوت وغض النظر عن توحش الإسلام السياسي، وبطش التيارات الإسلامية ورجعية الأفكار والفتاوى وعنف القوانين والتشريعات الفقهية، هو استلام الإسلام السياسي وزارات الدولة، وخاصة التعليم، وتغلغل أتباعهم في المناصب الإشرافية والوسطى والقيادية بدعم وتراخٍ وسكوت، وربما قبول ورضى ومباركة من الحكومات الكويتية المتعاقبة.
تشكل الواسطة أغلب مؤشرات الفساد في دعم وجودهم، حتى شكل هؤلاء وجه الكويت الجديد، وجه غائب عن الواقع، وجه شاحب لا حياة فيه، وجه يعاني من الفساد والتخلف والعنف والكراهية والتطرف، وجه يرتعد من الحرية، ويعادي العلمانية ويكره المرأة، ويحاسب على كل كلمة ورأي ونقد يخرج منتقدًا سمومهم الفكرية.
لقد انحدرت الكويت؛ بل تم اغتصابها حرفيًا من قبل الإسلام السياسي دون أن ترفع صوتها بالشكوى والصراخ أو حتى الرفض؛ فالرفض معناه أن ترفض حكم الشريعة الإسلامية، والمواجهة تعني أن تقف في وجه الله وليس في وجه من امتهنوا السياسة فوصلوا إلى البرلمان لكي يشوهوا المظهر الحضاري للدولة، وكل ذلك باسم الحفاظ على المجتمع وقيم الشعب وهوية الوطن.
هم في الحقيقة يحافظون على أرصدتهم البنكية ووجودهم ونفوذهم في مفاصل الدولة، وحكم الكويت بنسختها القندهارية بعد أن رفضتهم دول الخليج وحاربتهم وقلمت أظافرهم، إلا في الكويت؛ استطاعوا التوطين، بغفلة وحسن نية مرة، ومرات بتزوير وجودهم وجنسياتهم وأوراقهم الثبوتية.
ولم تتوقف الوصاية الدينية التي ينادي بها البعض، ويريد أن يفرضها كحكومة خفية، أو حكومة تنفذ ما يطلب منها، لم تتوقف حتى وصلت إلى فرض ما يكتب على ملابس بائعي وبائعات المطاعم، فكل كلمة حب ممنوعة، وكل لون غير الأسود حرام، وكل ضحكة وابتسامة تجلب التحقيق وإغلاق المطعم.
وهو ما حصل فعلاً بعد أن تم التحقيق مع أحد المطاعم المحلية لعبارة مكتوبة على ملابس -تي شيرت- البائعين. ولك أن تتخيل عزيزي القارئ أين سوف تصل الكويت بعد كل هذا الجهل والقمع والرقابة على الحريات والسلوك الإنساني الطبيعي المنادي بالمحبة والاختلاف والتعايش.
إن الوصاية الدينية التي يمارسها الإسلام السياسي في الكويت، إن لم يتم مواجهتها، فلن تكون الأمور القادمة إلا أسوأ منها، لن تكون الكويت، إلا ساحة للحروب الطائفية التي سوف تنتقل إليها من البلدان المجاورة والدول العربية التي تكتوي حاليًا بنار الطائفية، فلم يحذر التاريخ بقوة إلا من الانقسام الأهلي وفرض الوصاية، والاستحكام العقائدي والمذهبي، ومنع الاختلاف والتعايش والمواطنة.
لم تكن الكويت هكذا، لكنهم امتلكوا القوة والسلطة والمال لكي يجعلوها هكذا. لم تكن الكويت عبوسًا حزينة كهلة، مفتقدة للإبداع والمغامرة والحب، لكنهم جعلوا من الحزن والخوف والسكون والتواري خلف الأبواب المغلقة هو السبيل إلى الحياة، وهو من كمال الإيمان وحسن الاخلاق.
ولم يكن لهذا الحال أن يستمر لولا أن الساحة المدنية الكويتية عاجزة وقاصرة عن ولادة تيارات علمانية ديمقراطية عقلانية، عاجزة عن توحيد الصف الليبرالي، عاجزة عن استلهام تجارب التنوير الأوروبي.
لولا أن الساحة المدنية الكويتية عاجزة عن ولادة نخب مثقفة ثورية عضوية، عاجزة أن توضح للحكومات الكويتية أن لا مجال لمحاباة التيارات الإسلامية، وأن الدين لله والوطن للجميع، عاجزة عن توحيد الرجال والنساء ضد الرجعية والتطرف.
لولا أن الساحة المدنية الكويتية عاجزة عن إدراك أن اللحظة الحاسمة لا يمكن أن تتأخر، وأن المسؤوليات كبيرة ولا مجال للتراجع أو الخوف أو الاستكانة، عاجزة عن فهم واستيعاب وإدراك أن أفضل دستور حكم هو العلمانية التي تحمي الفرد والمجتمع من تغول التيارات الإسلامية خصوصًا، ومن كل متاجر بالشعارات والأديان والمذاهب والقوميات.