إن أول نموذج يسترعي الانتباه نحو العمارة الدينية في الإمارات، هو مسجد الشيخ زايد الكبير الكائن بالعاصمة إمارة أبو ظبي؛ وهو يستحق أن يكون رمزًا بالفعل للإمارت العربية المتحدة، رمزًا لها في تلك الآونة الحديثة، حيث يعبر عن مفهوم الدولة في تصدير نموذج معماري ضخم وقوي بتفاصيل جذابة للزائرين؛ فالمسجد يحتل المرتبة السادسة في المساحة بين مساجد العالم، فضلًا عن قبابه المتعددة والمرتفعة والتي تسيطر على المجال العام للداخل نحو ساحة المسجد، ناهيك عن التفاصيل الأخرى الخاصة به؛ مثل أن سجادة المسجد الرئيسية أكبر سجادة في العالم، كل هذا يعبر بطبيعة الحال عن رؤية دولة الإمارات في تصدير نوع معين من العمارة كي يتوافق مع طبيعتها السياحية، لكن ربما علينا أن ننظر بعمق أكبر للأطراف والمدن القديمة بالإمارات، كي يتسنى لنا أن نرى تراثها وعمارتها التقليدية قبل الحديث عن مسجد الشيخ زايد.
أقدم المساجد
على أطراف الإمارات العربية المتحدة، وتحديدًا في إمارة الفجيرة، في بلدة قديمة يطلق عليها البدية، في القرن الخامس عشر الميلادي، تحدى رجل من أهل تلك القرية النائية التي قامت على الزراعة والصيد والتي سجلها ابن بطوطة ضمن رحلته الطويلة حول العالم أن يبني مسجدًا من أربعة قباب تقوم على عمود واحد في المنتصف، لكنهم لم يصدقوه وطالبوه بتحقيق ادعائه، قام ساعتها فعلًا ببناء المسجد كما تصور، وبعيدًا عن صحة تلك الواقعة التي تتردد على ألسنة الناس في تلك البلدة القديمة، فإن فحواها حقيقي؛ حيث إن المسجد على صغر مساحته فريد من نوعه فعلًا وتحدٍ كبيرٌ للمعماريين التقليديين القدماء في تلك المنطقة. يرجع تاريخ البناء، كما تقر إدارة التراث والآثار بالإمارة بناءً على بحث أجروه على مواد عضوية اكتشوفها أسفل المسجد، إلى سنة 1446م.
يعد هذا المسجد أقدم المساجد الأثرية الباقية في دولة الإمارات، وبطبيعة الحال لم يكن المسجد الأول الذي تم تأسيسه في المنطقة؛ حيث دخلت تلك المنطقة الإسلام مبكرا، ويطل المسجد على ربوة عالية نسبيًا، بشكل استثنائي؛ فهو جزء من الجبل الذي أسس عليه حيث يطل بأربع قباب رئيسية مدرجة وزعت على شكل مربع.
المبهر في المدخل من الداخل وربما هذا يفسر تلك الأسطورة التي صاحبت بناءه هو هذا العمود الرئيسي الذي يربط القباب الأربع بعضها ببعض، فضلًا عن التراكيب الهندسية التي شكلت تصميم القبة من الداخل، أما محرابه فقد جاء بسيطًا، عبارة عن تجويف داخل جدار القبلة يجاوره منبر من ثلاث درجات. لا يبرز المسجد وحده قيمة تلك المنطقة التاريخية؛ بل يظهر في الجوار أبراج مراقبة يرجع تاريخها إلى القرن السادس عشر الميلادي، وهي من أعمال البرتغاليين؛ حيث مروا من تلك المنطقة وأقاموا فيها بعض الأبراج العسكرية التي تؤمن عليهم تجارتهم، فضلًا عن وجود آبار مياه بطبيعة الحال تلبي رغبة السكان المحيطين بالمنطقة.
ربما نتحدث عن فترة طويلة؛ فراغ أثري قائم من تاريخ بناء هذا المسجد حتى تاريخ بناء مساجد أخرى داخل الدولة، إلا أن الإمارات لم تخل على طول الخط من مساجد بالفعل، لكنها لم تعد قائمة؛ حيث تبقت منها فقط بعض الأطلال، لكن بقيت بعض المساجد التي تحيي ذكر تاريخ الناس في الإمارات مثل مسجد العقروبي الذي يزيد عمره عن قرن كامل؛ إذ تم بناؤه في عام 1904 على شاطئ منطقة الخان، فضلًا عن مسجد الدليل الكائن بالقرب من السوق القديم للشارقة، ويبرز قيمة تلك المنطقة التاريخية كسوق اجتماعي وميناء تجاري واسع بالقرب من خور الشارقة الاستراتيجي، مبان تعكس الظروف الاجتماعية والسياسية الخاصة بدولة الإمارات، يتضح هذا أكثر في دبي وتحديدًا في منطقة الشندغة.
مسجد الشيوخ
كان هذا الاسم هو اسم المسجد الكائن بدبي وتحديدًا في منطقة الشندغة، وسمي بهذا الاسم نسبة إلى شيوخ آل مكتوم الذين كانوا يقيمون في تلك المنطقة وتلتف بيوتهم من حوله، يعود تاريخ هذا المسجد إلى سنة 1914 ميلاديًا، بناه الشيخ مكتوم بن حشر آل مكتوم ، يبرز المسجد التاريخ المعماري لدبي أحد أهم الإمارات في الدولة؛ حيث لا مآذن، وهو عبارة عن مساحة شبه مستطيلة، لكنه بني بالمواد المتوفرة في البيئة فضلًا عن امتلاكه نوافذ طويلة فتحت في جدار القبلة لتسهل من حركة مرور الهواء كي تلطف الجو، كذلك بالإضافة إلى سهولة الوصول إلى السطح؛ فقد كان الناس يصلون على السطح الصلوات الليلية (المغرب – العشاء – الفجر) حيث الجو المناسب، تشابه هذا المسجد مع مساجد المنطقة المحيطة به؛ مثل مسجد الملا ومسجد المر بن حريز ومسجد بن زايد كذلك، لكنه كان أكثر أناقة، تدخل إلى المسجد عبر سلم بسيط مرورًا ببائكة ظللت بعوارض خشبية، ثم إلى بيت الصلاة داخل المسجد التي تم تظليله عبر ألواح خشبية، أعمدة أنيقة مربعة مكسوة بالملاط الأبيض كانت هي الحاملة لسقف المسجد، فضلًا عن المحراب المبهر الذي زين صدره وهو عبارة عن تجويف كبير وواسع اتخذ من هيكل المسجد ذاته.
كما سبق كانت تلك المنطقة محط شيوخ آل مكتوم، لذا كان منزل الشيخ سعيد بن مكتوم آل مكتوم نفسه حاضرًا بالقرب من مسجده، وهو أحد أهم البيوت التراثية القائمة داخل الإمارات المتحدة العربية، يطل علينا بملاقف الهواء التي ميزته والمسماة بالبراجيل؛ كان الهدف منها ترطيب الجو داخل أروقة المنزل من خلال دخول تيار هواء بين ثناياها المتفوحة، وببنائه المعقد نسبيًا عاكسًا تراكماته التاريخية والحضارية على مر سنوات حكم الشيخ داخل إمارة دبي الحيوية، فضلًا عن موقعه الذي يرتكز على مدخل خور دبي كي يتحكم في حركة مرور المراكب والقوارب داخل الخور الاستراتيجي
بني هذا المنزل سنة 1898 ميلاديًا، ولم يكن هذا البيت الحيوي والذي شكل رأس الحكم في إمارة دبي قائمًا منفردًا في حي الشندغة الحيوي والاستراتيجي؛ بل التف من حوله عدد من البيوت المختلفة لشيوخ آل مكتوم؛ مثل بيت الشيخ جمعة والشيخ حشر والشيخة موزة، الذي بني في فترات تاريخية مختلفة عن تاريخ بناء بيت الشيخ سعيد؛ أقدم البيوت وأكبرها مساحة، روعي في بناء المنزل أن يكون في اتجاه الهواء الآتي من الخليج التقاءً بملاقف الهواء لتتيح فرصة لطيفة للهواء، كان بناء البيت في البداية بسيطًا متوافقًا مع تطلعات الشيخ ومهامه، ومع الوقت استدرك البناء عليه حتى زيد وعقد بشكل كبير، مثل زيادة الغرف والمضايف، احتوى المنزل على أربعة أجنحة؛ كل نجاح منها اشتمل على ملامح معمارية مختلفة نسبيًا عن الأجنحة الأخرى، لكنه في النهاية راعى مفهوم البيئة الواضح في إمارة دبي، استمر عمل هذا المنزل طوال فترة حكم الشيخ سعيد والتي استمرت لمدة 46 عامًا كاملة، لا زال المنزل قائمًا بعد ترميمه شاهدًا عن تاريخ الإمارات المعماري في تلك المنطقة الحيوية التي حكمت دبي.
حضور شيعي
لا تقف مساجد السنة وحدها في الإمارات؛ بل يوجد حضور شيعي قوي كذلك، انعكس على طبيعة العمارة وشكلها المميز والنمطي؛ ففي إمارة دبي وتحديدًا في بر دبي، يقوم مسجد الإمام علي المعروف بمأتم الكراشية أو حسينية الكراشية بلونه الأزرق الجذاب وزخارفه الدقيقة والكثيفة على النمط الفارسي الذي انتشر في إيران إبان الفترة الصفوية والقاجارية، حتى بات علامة ملازمة للعمارة الفارسية الشيعية، لا يوجد تاريخ معلوم لبناء تلك الحسينية، لكنها سميت على اسم الكراشيين المنسبوين إلى مدينة كراش التابعة لمحافظة لرستان الإيرانية؛ حيث نزحوا من الساحل الشرقي للخليج العربي، فضلًا عن مسجد وحسينية الزهراء التي تعد أحد أقدم الحسينيات في الإمارات العربية وموقعهما الشارقة، يطلق على مجموعة تلك المساجد اسم واحد تقريبًا؛ وهو اسم المسجد الإيراني، وذلك للتقارب الفني والمعماري الكبير بينهم وبين العمارة في إيران؛ فالمسجد الإيراني في حي السطوة والذي يطلق عليه اسم مسجد الإمام الحسين من تأسيس الجالية الإيرانية في الأساس، وهو نسخة شبيه جدًا بالحسينيات والمساجد في طهران وتبريز ذاتها، بفنهما الرفيع الذي يهتم بأدق التفاصيل، وبالرسم النباتي والهندسي على الواجهات والمداخل. بطبيعة الحال لم تكن تلك المساجد تاريخية؛ فمعظمها يرجع تاريخه إلى القرن العشرين وأحيانًا فترات متأخرة أكثر من ذلك، إلا أنه يبرز تنوعًا اجتماعيًا وبيئيًا كبيرًا في دولة الإمارات العربية المتحدة.
مساجد تواكب الحدث
كما سبقت الإشارة؛ فإن أول ما يذكر في مساجد الإمارات الحديثة هو مسجد الشيخ زايد الكبير، والذي احتل بالفعل مكانة مرموقة بين مساجد العالم لرعاية الدولة له واهتمامها بتصديره كرمز للإمارات، لكن لم يكن هذا هو المسجد الوحيد الذي عكس اهتمام الدولة، فمسجد الشارقة الجامع الذي بني على النمط العثماني تمامًا كنموذج مشابه لمسجد السلطان أحمد في اسطنبول، جاء هو الآخر معبرًا عن اهتمام إمارة الشارقة نفسها، حيث قام بافتتاحه حاكم الشارقة الشيخ سلطان القاسمي، بالإضافة إلى كونه أصبح رمزًا معبرًا عن ثقافة وهوية الإمارة، يظهر المسجد بشكل جذاب بمئذنتين عرفتا اصطلاحيًا بنمط القلم الرصاص، بالإضافة إلى عدد هائل من القباب الصغيرة والتي تلتف حول القبة المركزية بالنمط العثماني المشهور والمعروف، وليس انتهاءً بالنقوش الكتابية والزخرفية التي تزين أرجاء المدخل من الداخل والخارج، ليس هذا فحسب؛ بل أصبح المسجد مركزًا ثقافيًا مكتملًا في إمارة الشارقة من حيث المنشآت المكونة له.
كنا نهدف إلى خلق ملاذ وإحساس بالهدوء وسط الفوضى المرئية والضوضاء في منطقة القوز الصناعية
المهندسة المعمارية سمية الدباغ Tweet
في دبي مرة أخرى، يظهر مسجد أنيق المظهر مبتكر التمصيم تمامًا يعرف بمسجد قرقاش، نسبة للعائلة التي قامت بتمويل بناء المسجد في إمارة دبي، يظهر المسجد بالفعل مبتكرًا بلون أبيض اعتيدت رؤيته على المساجد الساحلية في الخليج العربي، قامت بتصميمه المهندسة سمية الدباغ، لكنها لم تستند إلى نموذج قديم؛ بل أعادت إنتاجه مرة أخرى أو حاولت جذب نموذج لا يتوافق مع البيئة في الإمارات، أنتجت نموذجًا جديرًا للاحترام بالفعل؛ حيث اللون الأبيض الأنيق الذي يكسوه كتابات قرآنية من خط الثلث، فضلًا عن مئذنة دائرية منفصلة عن بناء المسجد، وليس انتهاءً بتلك القبة التي تزين سقف المسجد، جاء المسجد في صورته النهائية جميلًا بالفعل غير نمطي، أصبحت تلك النماذج من المساجد رائجة في الإمارات في الآونة الأخيرة لتعبر عن ثورة في عمارة المساجد الخليجية تحديدًا والعربية عمومًا، ومسجد آمنة العزيز في عجمان ليس بعيدًا عن تلك الرؤية، خاصة في مئذنته المربعة والتي تزين بالخط الكوفي الهندسي المميز.
لم تسر العمارة في الإمارات على نمط واحد؛ بل أنماط مختلفة، ورؤى متبانية، لكنها في النهاية عبرت بشكل أو بآخر على تطلعات أصحابها وأهدافهم، صحيح أن الإمارات لا تمتلك نماذج تراثية كثيرة لتستنبط منها نماذج حديثة، لكنها كانت قادرة على إظهار نماذج عرفت وتميزت بها.