ما يميز اللغة العربية الفصحى كلغة إعلامية رسمية هي أنها أشبه بلسانٍ جامعٍ لشعوب المنطقة المتحدثة بالعربية على اختلاف لهجاتها التي لا تعبر حدودها الجغرافية في التواصل إلى حدٍ ما. ما ساهم في هذا التعميم لما نسميه في ثقافتنا العربية بالفصحى يرجع بشكلٍ أساسي لكونها اللغة التي تمارس بها الطقوس الدينية الإسلامية وخطابها الأسبوعي ونصوصها، لكنها تبقى على الرغم من ذلك لهجةً فصيحة أصعب في التعبير، من حيث ضبطها النحوي وبعد مفرداتها عن واقع التواصل اليومي الذي يعايشه المتحدث العربي، بلهجاته أو كما يعترض البعض ويسميها لغاته المحلية، فهل يمكن أن تتخلص اللهجات أو ما يسمى باللغات المحلية الأيسر استعمالاً والأكثر حضوراً في حياة المتحدث العربي والتي لا تشعره بالضيق والتكلف في عملية التعبير، من هيمنة العربية الفصحى؟.
تفكير مزدوج وعجزٌ عن التعبير
على شاشة التلفاز، تطالعنا المذيعة بلغتها العربية التي تتحرى الرصانة، صحة النطق، النظم، النحو، والتمكن منها، تتحدث ما اعتدنا على تسميتها بالعربية الفصحى. في المقابل، ضيوف المذيعة، المتحدثون السياسيون، الزعماء والقادة، الناس العاديون، يظهرون مترددين متلعثمين عند الحديث بلغة المذيعة. على الأغلب، العيب هنا ليس في مدى إحاطتهم بالفكرة التي يتحدثون عنها، بقدر ما هي المحاولة للحديث والتعبير بلغةٍ لا يستعملونها في أحاديثهم العادية وعملية تواصلهم اليومية.
في أحد حلقات تنوين بودكاست، يتناول الكاتب الفلسطيني، عارف حجاوي، مشكلةً من مشاكل اللغة العربية التقليدية كلغة الخطاب والحديث الرسمي في وسائل الإعلام، ويصف النحو العربي بالمعيق للمتحدث من التواصل بشكلٍ أفضل، إذ تتحول عملية التواصل لدى المتحدث في تفكير مزدوج يشتت الفكرة ويعيق القدرة على التعبير عنها، حيث يذهب تفكير المتحدث من جهةٍ لاستدعاء الفكرة، ومن جهةٍ لضبطها نحوياً في التعبير عنها في نفس الوقت.
اللهجة (اللغة المحلية).. لغةٌ مشتركة وقوة الناعمة
على الرغم من غيابها عن حاضر الشارع العربي، تفرض اللغة العربية الفصحى نفسها كلغةٍ جامعةٍ توصل بين هذه الشعوب المختلفة اللهجات أو اللغات القومية لشعوب المنطقة العربية، حاضرةً كلغةٍ تربط بين شعوب المنطقة في الوقت التي تزعم عدم قدرة اللغات المحلية أن تكون وسيلة تواصل مشتركة كما الفصحى، لكن ما مدى صحة ذلك؟.
في عشرينيات القرن الماضي، بدأت مصر صناعتها السينمائية، وفي النصف الثاني كانت قد وصلت الصدارة العربية كمركزيةٍ ثقافية وسينمائية شغلت دور السينما العربية التي كانت قد بدأت الانتشار في دول التحولات الجمهورية مثل سوريا، لبنان، العراق، واليمن. النصف الثاني من القرن الماضي شهد تحولاً في إطلاق البث التلفزيوني المحلي، ونقل الأفلام السينمائية من شاشة العرض المدفوعة لصندوق الألوان المنزلي، وبالتأكيد كدولة الانتاج السينمائي الأولى في العالم العربي، كانت السينما المصرية هي الأكثر حضوراً على شاشات التلفزة.
إلى جانب تجارب الإنتاج السينمائي والتلفزيوني المصري، كانت التجارب السورية واللبنانية هي الأخرى تحقق انتشارها. هذا الانتشار تحول لقوةٍ ناعمة استطاعت أن تجعل من اللهجات المحلية لهذه البلدان بمثابة لغاتٍ مفهومة ومتشاركة، عدا عن أنها استطاعت إدخال مفردات من اللهجة المصرية للهجات المحلية الأخرى.
لعل أهم أثرٍ خلفته السينما المصرية كان كسر تابو الهيمنة اللغوية للفصحى كلغةٍ مشتركة، إذ أثبتت بانتشارها قدرة اللغة القومية أن تكون لغةً تواصل مشتركة، مؤكدةً على دور القوة الناعمة في هيمنة لغةٍ ما في التواصل على الآخرى. لكن التساؤل الحالي في المقابل، هل ما زالت اللهجة المصرية تملك هذا التأثير، أو أن بإمكانها المحافظة عليه؟ لعل الجواب يكمن في التأثير السينمائي والثقافي الذي لا زالت قادرةً على إحداثه وفرصها في الانتشار أمام منافسة منتجات السينما الإقليمية والدولية.
القفز على عقدة الفصحى
هيكتور فهمي، مترجمٌ مصري قدّم عملين ترجمهما مباشرةً من الفرنسية إلى المصرية متجاوزاً عقدة المرور بالعربية الفصحى للوصول للقارئ العادي في العالم العربي. يحكي هيكتور فهمي في حديثه مع مواطن بأن أعماله التي ترجمها ليست الأعمال الأولى التي يتم ترجمتها مباشرةً للغة المصرية: “فيه مترجمين كبار سبقوني بتجاربهم، زي ترجمة د. مصطفى صفوان لرائعة شكسبير “عطيل”، واللي ترجمها في تسعينات القرن اللي فات. وفيه كمان ترجمة أ. عبد الرحيم يوسف لمسرحية تانية من مسرحيات شكسبير وهي “حلم ف ليلة نص الصيف” واللي نشرتها دار صفصافة في سنة ٢٠١٦. وكمان ترجمة رواية “لبن نمرة” إللي ترجمها من الألماني أ. محمود حسنين سنة ٢٠١٨ ونشرتها دار خان“.
من جهةٍ أخرى، يرى هيكتور بأن ما يحدث في هذه الحالة هو نفسه ما يمكن أن نسميه بتجربة عاشتها العديد من اللغات الأجنبية مثل اللغات اللاتينية “الفرنسية، الإيطالية، الإسبانية..” التي كانت تواجه هيمنة اللاتينية عليها، يقول فهمي: ” بالنسبة للغات التانية إللي حصل فيها تجارب مشابهة، فلازم نعرف إن ده حصل مع كل اللغات الرومانسية إللي هي الإيطالي والفرنساوي والأسباني والبرتغالي. كل اللغات دول كانوا في الأصل بيعتبروا مجرد لهجات عامية من اللغة اللاتينية vulgar Latin) ) قبل ما يتحولوا ويبقوا لغات رسمية معترف بيهم. والتحول هنا ماكانش تغيير حصل في اللغة نفسها، لكن كان تغيير في نظرة الناس للغات دي مش أكتر”.
لغة أم لهجة
نحن لا نبتكر اللغة، نصنع لها قواعد ثم ننتجها، فبالتأكيد هناك آلية ذهنية تشكل اللغة في عقولنا، والقواعد اللغوية هي قوانين العلم الآلي في تحدث اللغة وتركيب مفرداتها وتصريفها للدلالة اللغوية، وهي في كل الأحوال موجودةٌ لدى متحدثها الأصلي دون حاجته لمعرفتها تفكيكياً.
هذه القواعد في علم النحو أو الصرف أو الدلالة هي بمثابة قواعد توصيفية للغة، وليست موجهةً للمتحدث الأصلي لتعلم الحديث بها سوى للمتحدث المكتسب لهذه اللغة. أي أن اللغة تكون لغةً حتى وإن لم يكن هناك توصيفٌ آلي لطريقة عملها، كما هو الحال عليه مع ما نعرفه اليوم عن ما نسميها بالعربية الفصحى التي لم يتم توصيف آليتها إلا في القرنين الأول والثاني الهجري وعلى مدى قرون تلت. فهل يمكن أن نقول عن اللغة القومية بأنها ليست لغاتٍ لأنه لم يتم توصيف آلية الحديث بها بعد؟.
من العربية القديمة للغات القومية
رسالة الغفران، رائعة المعري وكوميديته الإلهية، بألفاظها ولغتها الأدبية التقليدية في سرد خطابي شديد الانضباط للغة العصر الذي عاشه المعري، والقالب واللغة الشعرية لذلك العصر، هل يمكن للقارئ العادي المعاصر مفتقراً للخبرة اللغوية في المفردات العربية وأسلوبها القديم أن يتفاعل معها بذات القدرة مع قطعةٍ أدبية معاصرة؟. ماذا إذا قرأناها اليوم بلهجاتنا المحلية متجاوزين رتابة العربية الفصحى التي تبعد عنا قراء اليوم أكثر من ذي قبل؟.
العملية هنا ليست ترجمةً من لغات أخرى مختلفة، ولكنها ترجمة من اللغة العربية القديمة للغة القومية التي نتحدثها في عملية التواصل. المترجمة المصرية ناريمان الشاملي بدأت هذه التجربة في ترجمتها لرسالة الغفران ونقلها من العربية الفصحى للمصرية العام 2016، وهي خطوةٌ يرى الكثير من أنصار اللغات القومية بأنها تعطي اللغات القومية اعتبارها وتتجاوز عقدة الفصحى، عدا عن أنها تسهل عملية المعرفة للقارئ العادي الذي يقرأ بلغته التي يتحدثها.
هيكتور فهمي بالإشارة لهذه التجربة يستشهد بالتجارب العالمية، حيث يقول لمواطن: “لازم نرجع للعصور الوسطى وبالتحديد للقرن الأربعتاشر، أو لزمن دانتي Dante Alighieri)) صاحب “الكوميديا الإلهية”. وفي الوقت ده، اللهجة الإيطالية كانت محتقرة من الصفوة المثقفة زيها زي كتير من اللهجات اللاتينية العامية. وكانت مجرد لهجة محلية بيتكلمها أهل فلورنسا. لكن، وعلى غير العادة، دانتي قرر بشجاعة إنه يكتب الكوميديا بتاعته بلهجته المحلية. ومسرحيته أصبحت أهم عمل أدبي إتكتب بالإيطالي في العصور الوسطى”.
يضيف فهمي أن كتابة الكوميديا الإلهية لدانتي باللغة الإيطالية القرن الرابع عشر تجاوز عقدة هيمنة اللاتينية، وجعلت من عمل دانتي نفسه مرجعاً في وضع القواعد اللغوية للإيطالية التي نعرفها اليوم، والتي جعلت الإيطاليين يتحدثون بذات القواعد اللغوية منذ سبعة قرون مضت.
"بالنسبة للموروث الثقافي العربي، أنا شايف إنه لازم يِتَّرجِم باللغات الوطنية المختلفة زيه زي الموروث الثقافي العالمي. وده عشان يبقى متاح لكل قاريء بلغته الأم. لأن اللغة العربية هي لغة بنتعلمها في المدرسة لكن مش هي لغتنا الأم. لغتنا الأم هي اللغة إللي بنعيش بيها في حياتنا اليومية. والحالة إللي بنعيشها في منطقتنا هي حالة إزدواج لغوي، ولها تأثير سلبي جدا على التعليم وعلى القراية".
هيكتور فهمي
الاستبداد اللغوي والنص المقدس
تعمل المراكز الدينية الإسلامية على ترجمة النصوص الدينية المقدسة للغات العالمية المختلفة في سياق توسيع الانتشار الثقافي الإسلامي ومنافسات الدعوات التبشيرية الدينية. في المقابل تتخذ المؤسسات الدينية موقفاً متصلباً تجاه اللهجات العامية المحلية المختلفة، وتقدم النص الديني بلغته العربية الفصحى القديمة، إذ لا تتوفر ترجمةٌ للنص الأصلي منقولةٌ للهجات العربية المحلية.
الموقف المتصلب الذي قد يرى بأنه يخلق مركزيةً ثقافية للفصحى مقترنة بالهوية الدينية لها، ليس حكراً على الموقف الإسلامي في العصر الحديث إذا ما ذهبنا لمقارنةٍ أوسع، وأقدم من واقعنا المعاصر. كانت الكنيسة الكاثوليكية تمنع ترجمة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد للغة الإنجليزية، مكتفية بالترجمة اللاتينية من اليونانية والعبرية. هذا التحريم في ترجمة النص المقدس حافظ على مركزيةٍ للغة اللاتينية في الديانة المسيحية في أوروبا، وأيضاً مركزيةً دينيةً وسياسية للكنيسة الكاثوليكية ورجال الدين في احتكارهم قراءة وفهم وتفسير الكتاب المقدس.
في تلك الفترة وحتى القرن السادس عشر، حافظت الكنيسة على هذه المركزية، لكنها بدأت خسارتها مع التحول البروتستانتي للملك هنري الثامن في النصف الأول من القرن السادس عشر. ترجمة الكتاب المقدس للغة الانجليزية كان بمثابة تحويل النص المقدس من نصٍ ثابتٍ في لغةٍ مركزية خاصة بالسلطة الدينية إلى لغةٍ كانت تُرى أنها عامية من قبل الكنيسة، منهيةً قروناً من الهيمنة للغة اللاتينية التي لا يتحدثها أحد.
“The Adventure of English” سلسلة أفلام وثائقية عن كتاب يحمل نفس العنوان للكاتب الصحفي والأديب البريطاني “ميلفن براغ” تقدم تاريخ اللغة الإنجليزية. في الحلقة الثالثة من السلسلة التي تحمل عنوان “معركة لغة الإنجيل” يتحدث الفيلم عن الصراع الديني السياسي في احتكار النص للحفاظ على المركزية اللغوية الواقفة على الأساس الديني الثابت والفاعل تأثيراً على الوعي الجمعي المسيحي، ليصبح هذا التحول عاملاً في خروج اللغات القومية من هيمنة اللغة الدينية وتشكيل هوياتها المستقلة.
ختاماً، على الرغم من عدم وجود مجتمع يستخدمها في التعبير أو التواصل، لازالت العربية تحتفظ بهيمنتها اللغوية، فهل يمكن لنا أن نستحضر التجربة اللاتينية في الكتاب المقدس في إطار منهج قياسيٍ مع الحالة في النص القرآني والإسلامي مع اللغة العربية وإسقاطها بذات الأبعاد السياسية والدينية على السلطة الدينية الإسلامية؟. هل سنصلي يوماً بلغاتنا القومية، نقرأ القرآن وباقي الكتب المقدسة بلغتنا التي نتحدث يومياً بها؟. هذه أسئلةٌ لقصةٍ أخرى ربما.