لم تكن مها تدرك أن أحلامًا بسيطة مثل الزواج بحبيبها ذي صلة القرابة بوالدتها غير الأردنية سيصبح مستحيلاً. مها التي عانت من قبلها أختها سمر ويلات الزواج من غير أردني بعد أن توفاه الله، اضطرت أن تطلق رصاصة الرحمة على قصة حبها التي امتدت خمس سنوات، بقناعة تامة مشوبة بضغط عائلي وقلب محطم.
شاهدت مها أختها الكبرى وهي تعاني من آثار الزواج بغير أردني، عايشت معها سنوات العذاب الطويلة، خصوصًا بعد اندلاع الحرب في بلاد الزوج واضطرارها للعيش في الأردن مع أبنائها، كانت الأمور في منتهى الصعوبة، في البداية لعدم وجود أي تسهيلات مالية لأبناء الأردنية؛ فتكاليف التعليم والصحة عبئ تتحمله الأرملة المسكينة ومن يساندها من أهلها المنهكين بالأعباء الحياتية اليومية، ثم تحسنت الأمور قليلاً بسبب بعض التعديلات في الوضع القانوني الذي أعطى أبناءها بعض الامتيازات لتعود وتتأزم من جديد، بعد أن كبر الأولاد وتجاوزوا سن الثامنة عشرة، أصبح السفر والتعليم والعمل والتملك والصحة تحديات تضاف لصعوبات أخرى يعانيها البيت الذي فقد العائل منذ سنوات، وتحول بيت أختها إلى مصدر قلق دائم للعائلة التي قررت عدم تكرار التجربة الأليمة في أي زواج آخر من بنات العائلة.
الغريب أن سمر كانت متزوجة رجلاً من بلد والدتها التي حصلت على الجنسية الأردنية بكل سهولة بعد زواجها من أبيها ولم تواجه مشكلة، ليظهر التمييز بين الجنسين بكل وضوح، الأب يملك الخيار الحر في الزواج بلا تبعات قانونية مجحفة، والبنت تُحدد لها خياراتها بجعل حياتها في منتهى الصعوبة إذا ما اختارت من غير بلدها، الأب تمتع أبناؤه بالجنسية الأردنية والبنت، حرم أبناؤها من جنسية والدتهم فعانت ويلات هذا الحرمان .
هكذا أسدلت مها الستار على خيار الزواج من “غير أردني”، ولم تكن وحدها، بل معها بنات العائلة وكل من رأى وعايش تجربة أختها المؤلمة. تذكرت قصة مها عندما قرأت بعض التعليقات على مقالة سابقة لي عن حق الأردنية في إعطاء جنسيتها لأولادها، من التعليقات التي أثارت غضبي ما كتبه بعض المعلقين الرجال من تعليقات تحمل في طياتها شماتة، كتب أحدهم: “من تتزوج من غير بلدها فلتتحمل آثار ذلك”، وكتب آخر متسائلاً: “لم يعجبها أحد من بلدها حتى ذهبت للغريب؟ ” وكأن المطلوب هو تعذيب المرأة وتربيتها وجعلها عبرة لغيرها حتى تنصاع وتحد من خياراتها.
نحن في مجتمع يلغي خيارات النساء، يشهر أمامها أسلحة الشرع والقوانين والعرف، ويتركها في حالة انتظار دائمة، بخيارات قليلة بائسة
في مشهد آخر، شهدت سفارة الأردن في رومانيا قبل شهور مراسم تزويج أردني من أوكرانية تركت بلدها بسبب الحرب التي اندلعت فيها، فانتشرت التعليقات المبهجة والمهنئة للرجل بالزواج الميمون له ولزوجته التي ستصبح أردنية بكل سهولة، حتى وإن كانت لا تعرف شيئًا عن لغة البلد وعاداته وقيمه، لن تعاني الأوكرانية على أبواب الدوائر الحكومية كما فعلت سمر، هي ستجد الملجأ من الحروب الدائرة في بلدها، بينما أولاد سمر الأردنية سيدفعون ثمن الحرب الدائرة في بلد أبيهم من حياتهم ومعيشتهم اليومية، وهكذا تصبح سمر درسًا لكل أردنية بأن ترضى بالخيارات الموجودة والمتوفرة، فهي ليست برجل حتى تنطلق وتوسع دائرة خياراتها.
تُغلق أبواب الزواج الحر أمام النساء، كما أغلقت أبواب أخرى جعلت خياراتهن محدودة في التعليم والعمل؛ فسفر المرأة من أجل التعليم والعمل ما زال محصورًا بالعوائل المتحررة نسبيًا، ممنوعًا على النساء من الأسر المحافظة، والنتيجة إما امرأة مقاتلة لا تبكي يائسة أمام الأبواب المقفلة، فتحاول وتستخدم كل الطرق لكي تثبت نفسها وقد تخسر في مشوارها دعم العائلة المشروط بالطاعة، وإما أن تستسلم كأغلبية النساء وتعيش حياتها منتظرة خلف الأبواب المسموحة، وتقبل بكل ما يقبع خلفها لعدم وجود خيارات أخرى.
ولهذا فأن جملة “الفتاة اختارت” في العالم العربي هي جملة غير صحيحة وخادعة، الفتاة لا تختار وإن بدا لها عكس ذلك، الفتاة توضع في بيئة معينة تفرض عليها خيارات معينة، ولو سمح لها بالتواجد في بيئات أخرى منفتحة بدون عواقب الاختيار الموجودة في العالم العربي لوجدنا المرأة وقد اختلفت قراراتها وتوجهاتها.
نحن في مجتمع يلغي خيارات النساء، يشهر أمامها أسلحة الشرع والقوانين والعرف، ويتركها في حالة انتظار دائمة، بخيارات قليلة بائسة، يصنع لها الأزمات، ويضع حلولاً تناسبه وتنتهك المزيد من الكرامة المتبقية لها، وإن لم تقبل بخياراته وصفها بقليلة العقل والحكمة، وقد يصفها بالأنانية ويحملها مسؤولية ما يعرف بـ “العنوسة “.
بات الرجل اليوم يرى تهديدًا في كل امرأة تخرج عن خياراته، وتنطلق في الفضاء لا تحدها قوانينه؛ فنرى الكثير من النساء العربيات اللواتي سافرن للعمل أو العلم وقد اخترن الزواج بأجنبي يحمل جنسية قوية تؤهل أبناءها للعيش بكرامة في دول شتى، كما تسلحت المرأة نفسها بأسلحة العلم والعمل التي تؤهلها للوقوف في مواجهة غدر الزمن وحيدة وإن تخلى عنها وطنها.
يجب على المرأة أن تدرك أبعاد قرارات التمييز الموجودة في بلدها، يجب عليها الوقوف بحزم أمام كل قانون يميز بين المرأة والرجل ويعتبر المرأة نصف مواطن؛ فهذه إهانة لكيانها وإنسانيتها باعتبارها في درجة متدنية عن الرجل، وأولها القانون الذي يميز بين الرجل والمرأة في منح الجنسية للأبناء في حال الزواج من غير مواطن / مواطنة؛ فهذا القانون يهدف إلى خنق المرأة في حيز ضيق من الخيارات وحرمانها من حقها في الاختيار الحر أسوة بالرجل.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.