كالعادة وقبل الخوض في الجدل التقليدي، فإن المقصود من الهاشمية السياسية هو الانتماء السياسي للعرق، وليس الانتماء العرقي نفسه. وهو أيضًا ما يمكن أن نطلقه على أي عصبوية عرقية لأهداف سياسية ذات حامل أيديولوجي، كما في الهاشمية السياسية أو دون حاملٍ أيديولوجي كما في الحاشدية السياسية، تخدم طموحات الجماعة العصبوية تحت عناوين حاملها الأيديولوجي الديني للوصول للسلطة والحكم واحتكارها بصورٍ غير مشروعة ومخالفة للعقد الاجتماعي.
هذا المقال لا يحمل إساءةً لأي هويةٍ عرقية أو طائفية، بقدر ما ينتقد الفكرة ويقدم لها رؤيةً توصيفية موضوعية يمكن لها أن تساعد في فهم المرحلة وكارثية المشاريع العرقية، ومخاطر التحرك السياسي العصبوي على النسيج الاجتماعي، والأهم فهم الآخر.
في القرن الثالث الهجري، كانت اليمن على موعدٍ مع تحولٍ تاريخي سينقل الصراع السياسي في شكله العرقي المؤلف للمجتمع اليمني لشكلٍ آخر من النزاعات العرقية ذات الصبغة الدينية، التي ستبقى تتحكم في تحولاته حتى اللحظة. دخل الإمام الهادي يحيى بن الحسين المنتمي للسلالة العلوية بنسخته الخاصة من المذهب الزيدي ليؤسس دولته الأولى من مدينة صعدة شمال اليمن، وبنظرية الاصطفاء الإلهي في الإسلام لحكم السلالة الهاشمية من البطنين “سلالة الحسن والحسين بن علي”، بدأ حكمه الذي سيستمر في الظهور في الخفوت طوال القرون التالية في صراعاتٍ بين السكان الأصليين والمستوطنين الجدد.
النظرية السياسية الزيدية
على العكس من المذهبين -الاثنا عشري والإسماعيلي الشيعية-، كانت الزيدية الهادوية قد وضعت منصب الحاكم “الإمام” موضع الانتصاب، ملغيةً بذلك شرط النص والجعل في بقية المذاهب الشيعية. احتكر المذهب الاثناعشري الإمامة في اثني عشر إمام؛ ثمانية منهم من سلالة الحسين بن علي، أما الحسن بن علي فلا إمامة في أولاده. الإمامة في قالبها الذي أصبح فيما بعد تسمى الاثنا عشرية أو الجعفرية، قسمت البيت العلوي على نفسه، وأنتجت صراعاتٍ بين أبناء وأحفاد الحسين والحسن بن علي؛ الذين استمروا في محاولاتهم الثورية على الحكم الأموي، والتي انتهت جميعها لثوراتٍ فاشلة كلفت أبناء الحسن بن علي أرواحهم.
محملًا بتاريخٍ من الهزائم والثورات الانتحارية الفاشلة، جاء الهادي يحيى بن الحسين لليمن ينشد إقامة دولته وفق مذهبه الشيعي الذي يفتح الباب أمام قاعدةٍ واسعةٍ من الهاشميين من أبناء الحسن والحسين للحكم، وبضوابط وشروط خاصة، اتسعت وضاقت بينه وبين أئمة المذهب من بعده.
وضع الهادي تسعة شروطٍ للإمامة في البداية، ثم زادها الأئمة بعده حتى بلغت أربعة عشر شرطًا؛ تتمثل أولها في أن يكون الإمام ذكرًا فاطميًا من نسل الحسن والحسين إلى جانب شروط “العلم، الفضل، الشجاعة، السخاء، الورع، البلوغ، التكليف، الحرية، سلامة الحواس والأطراف، السبق في الدعوة، جودة الرأي، العدالة.
مشكلة النظرية السياسية الزيدية
ما غفل عنه الهادي يحيى بن الحسين، هو أن وضعه شروط الإمامة وفتحها على مصراعيها أمام الطامحين من السلالة العلوية من البطنين، والتحلل من إمامة النص والتوريث التي تسنها بقية المذاهب الشيعية، هو أنها لن تكون نظام عدالةٍ ضيقٍ داخل السلالة المصطفاة، وإنما ستكون عاملًا أساسيًا لنشوب الصراعات على الحكم داخل البيت الهاشمي التي ستشغل مستقبل الدولة التي قام بتأسيسها وتنهيها في أحيانٍ آخرى.
مع غياب مؤسسةٍ تختار الإمام، أو وجود إمام منصوص لوراثة الحكم، كانت شروط الهادي في الإمامة بداية صراعات تنشب مع رحيل إمام ووصول آخر لسدة الحكم؛ إذ بدأت هذه الانقسامات في الصراعات التي قادها أبناؤه بين بعضهم وأحفاده أبناء الإمام الناصر الثلاثة، الذين أعلنوا إمامتهم معًا وبدأوا صراعًا في مهد الدولة الزيدية في اليمن على الحكم. استمرت هذه الصراعات بين الأسر الهاشمية الطامحة في الحكم مع رحيل كل إمام وخلافة آخر، وبالتأكيد بصراعات دموية كانت تستمر لسنوات.
ترفض شروط الإمامة الزيدية ولاية العهد، ولكنها لا تمانع التوريث حال توافر الشروط، أو عدم قيام إمامٍ آخر يغلب الإمام المدعي. ولذا كان من الصعب تأمين استقرارٍ سياسيٍ على المدى الطويل. الصراعات التي خلفها الهادي بطريقة اختيار الحاكم، أظهرت فشل النظرية السياسية للزيدية، التي تستمد شرعيتها بالأسطورة اللاهوتية، مفتقرة للإجماع الشعبي أو وجود كيانٍ معنويٍ ثابت ينظم عملية انتقال السلطة، لذا فشلت في ذلك في أغلب تجاربها التي كانت فيها الغلبة والنصب هي الوسيلة الأكثر استقرارًا في عملية الانتقال.
على الرغم من فشل النظرية السياسية منذ مهد قيام دولتها في اليمن، بقيت الدولة الزيدية كما هي دون تغير في ذلك؛ سوى محاولاتٍ أسرية داخل القبيلة الهاشمية في توريث السلطة من الأب للأبناء، وخلق سلطةٍ ملكية تحتفظ بالهوية الزيدية وأسطورتها في النظرية السياسية، كما كان في آخر صورها في عهد المملكة المتوكلية في النصف الأول من القرن العشرين، والتي أيضًا فشلت حتى في إقناع أبناء وأقارب الإمام أنفسهم بالانتقال للتوريث ونظام ولاية العهد الذي أعلنه المتوكل يحيى حميد الدين.
مع وفاة الإمام أحمد حميد الدين متأثرًا بمرضه من إصابته على يد الثوار العام 1962، كانت الفرصة مواتيةً للثورة في ظل انقسام البيت الهاشمي الزيدي على نفسه، بعد توريث الحكم بنظام ولاية العهد المخالف للنظرية السياسية في المذهب الزيدي، لقيام الثورة الجمهورية الأولى في اليمن وإنهاء ما يزيد عن الألف عام من حكم القبيلة الهاشمية وصراعاتها الداخلية التي لا تنتهي.
التجربة الخمينية
في المذهب الشيعي الاثني عشري، تمضي الإمامة وفق التقديم الشيعي لسرديتها بالنص على الإمامة من الإمام السابق لخلفه، منهيةً بذلك المطامح في السلطة -وإن كانت قد وجدت إلى نحوٍ ما في ادعاءات الإمامة والنص، إلا أنها لم تختبر في سياق القوة والسلطة-، لكن انحصار الإمامة في اثني عشر إمامًا تركت المذهب دون أية آمال بالحكم، وقيدته من اقتناص أي فرصةٍ تمنح القبيلة الهاشمية أو المؤسسة الدينية للمذهب كرسي الحكم.
كان رجال الدين المجتهدون وفق الفقه الشيعي هم علماء المذهب والمفتون الشرعيون للناس الذين يجب اتباعهم، وليس أي رجل دين عادي. هذا النظام الفقهي التراتبي سمح بتنظيم سلطةٍ دينية مؤثرة ومنظمة تحت المراجع الدينية (المجتهدين) كنواب شرعيين للإمام في غيابه، وهو الادعاء الذي أقام بها الخميني نظريته السياسية “ولاية الفقيه”.
وفق هذه النيابة التي يحتلها المرجع الديني المجتهد في المذهب الشيعي، استطاع الخميني أن يضع الخطوط العريضة لنظرية ولاية الفقيه وحكم رجل الدين بصلاحيات كاملةٍ تُمنح للإمام الغائب ونائبه حال غيابه، والتي تفرض الطاعة المطلقة له. وفي تجربة الدولة، استطاع أن يحفظ قيام كيانٍ معنويٍ يتمثل في “مجلس الخبراء”، المكون من رجال دين منتخبين؛ مهمتهم تعيين الولي الفقيه أو عزله بتوافر أسبابٍ مقنعة. هنا استطاع إلى حدٍ كبير ضمان انتقال سلس لسلطة الولي الفقيه، بالإضافة إلى حقه الروحي في اقتراح خليفةٍ له قبل الوفاة وترك الفصل في ذلك للمجلس.
حركة الحوثيين.. مأسسة الإمامة الجديدة
هناك في شمال اليمن، وبانبهار من التجربة الخمينية، خرج حسين الحوثي من أحد بيوت الفقه الزيدية الهاشمية مركزًا على فشل النظرية السياسية الزيدية ومكامن الخلل فيها؛ ففي حين وجود رجال دين أكثر علمًا بالمذهب وتأثيرًا منه، اختار حسين الحوثي الخروج وادعاء الإمامة سرًا والبدء بانتقاد المذهب الزيدي والتأكيد على الحق الهاشمي في السلطة.
ركز حسين الحوثي بالنص على التجربة الخمينية التي اعتبرها ملهمةً له، ورأى أن انقسام البيت الهاشمي وعدم وجود نظرية سياسية محكمة تعمل على انتقال السلطة واستقرار شأن السلطة سياسيًا داخل المذهب هو خللٌ أنهى آخر فصول الزيدية السياسية في اليمن. لذا كان الحل أن ينشئ كما في التجربة الخمينية كيانًا سياسيًا متحللًا من التعقيدات المذهبية المتفرعة في الفقه وأصول الدين في الزيدية والتركيز على هويةٍ سياسيةٍ دينيةٍ عسكرية شديدة التطرف، تكون بمثابة التنظيم الذي يحفظ استمرار الهاشمية السياسية في الحكم، وتوريث السلطة من حاكمٍ لآخر داخل القبيلة الهاشمية، أو بالأحرى أسرة الحوثي نفسه.
ثنائية النص والتسليم
لم تكن مؤسسة الإمامة وحدها هي ما استورده حسين الحوثي من تجربة الإمام الخميني؛ بل اختار أيضًا تغيير النظرة لمنصب الإمام في المذهب الزيدي؛ فمن إمام ينتصب للحكم في الزيدية وفق شروطٍ محددة ويظفر بالسلطة بالغلبة، وصف الحوثي منصب الإمامة بأنه منصب جعل واختيار كما في النص القرآني ((إني جاعلك للناس إمامًا))، كما هو الحال في المذهب الاثني عشري؛ وهي إضفاء بعدٍ آخر روحي وسياسي لمنصب الإمام الزيدي الجديد في رؤية الحوثي؛ ذلك أنها تفرض طاعةً وتسليمًا مطلقًا يرفض أي شكلٍ من المعارضة التي كان يراها بأنها كانت سببًا في فشل استقرار واستدامة الدولة الزيدية في حقب مختلفة من تاريخها.
الحوثيون إلى أين؟.. إمامة دستورية!
منذ دخوله صنعاء، وبعد تصفيته القوى المنافسة وخصومه في الداخل، استطاع الحوثي فرض نفسه كحاكمٍ زيدي مطلق الصلاحيات مستمدًا شرعيته من الأسطورة الزيدية في نسخة أخيه المؤسس لحركة الحوثيين. وبدون وجود عقد اجتماعي أو صلاحياتٍ دستورية، يحكم عبد الملك مؤسسات وسلطات الدولة الثلاث بصلاحيات ولي الفقيه، وعلى طريقة آلية الحكم في طهران.
مع ذلك، يفتقر إمام الحوثيين للإطار الدستوري الذي ينظم منصبه وصلاحياته، ويهدد قدرة منصبه على البقاء بعد توريثه لخلفه داخل البيت الهاشمي أو الأسرة الحوثية، وهي عوامل تؤخر من حدوثها ظروف الحرب ووجود فرقاء صراع، بالإضافة للحاجة لاستقرار سياسي تجعلهم يمضون في حركتهم التالية؛ وهي تأمين المستقبل السياسي للهاشمية السياسية بخلق مؤسسة دستورية تضمن انتقالًا مستقرًا لسلطة الإمام السياسية، وتثبيت قوةٍ عسكرية مستقلة تتمثل في حركة “أنصار الله” تضمن استمرار القبيلة في الحكم.
في الحقيقة، يمكن حتى احتمال حدوث ذلك أقرب من المتوقع بعد قيام الحوثيين بتحركات قانونية خاصة؛ مثل فرض قانون “الخمس” ودراسة رد الفعل الشعبي على ذلك والبدء بتطبيقه منذ عامين، وأخيرًا فرض ما أسموه بالمدونة السلوكية لموظفي الدولة التي تنص على الولاء لإمام الحوثيين كإمام مطلق واجب الطاعة الطاعة والتسليم له كأحد أولويات ومبادئ الوظيفة العامة، وتغيير المناهج الدراسية. لكن هل سيكون لليمنيين كلمةٌ آخرى؟
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.