في الثالث والعشرين من سبتمبر الماضي، كان الطفل إسماعيل الخولاني في طريقه لتلقي بعض الفحوصات التي اعتادها طوال الخمس السنوات الماضية، جراء إصابته بمرض اللوكيميا “سرطان الدم”. وبمسافة طويلةٍ يقطعها للسفر رفقة والده من محافظة “إبّ” إلى محافظة صنعاء، يصل إسماعيل لتلقي الأدوية في مركز علاج أطفال اللوكيميا في مستشفى الكويت، كجزءٍ من المرحلة الأخيرة من علاجه بعد صراعٍ دام خمس سنواتٍ مع المرض. وبعد إجرائه مجموعةً من الفحوصات التي أكدت تحسن صحته وفق رواية والده لمواطن، طلب الأطباء تلقي إسماعيل جرعة من دواء الـ “methotrexate”.
عقب تلقي إسماعيل الجرعة، عاد ووالده مسافرين لمحافظة “إب”، وفي طريق السفر عانى إسماعيل من التقيؤ والصداع والألم الذي لم توقفه المهدئات حتى وصوله مدينة “إب”، ليتواصل والده بطبيبته المختصة في مركز الأورام بمستشفى الكويت التي طمأنته قائلةً: “لا تخافوا، كتبت له مهدئًا ومضادًا حيويًا”.
في اليوم التالي كانت الأعراض تزداد حدة، فتواصل والد الطفل إسماعيل بطبيبته التي أوصت بنقله لأقرب مركز صحي. في اليوم الثالث في المركز الصحي كانت حالة إسماعيل تزداد تدهوراً، لتطلب طبيبته إسعافه للعاصمة صنعاء. في السادس والعشرين من سبتمبر وصل العاصمة صنعاء وهو يفقد الذاكرة وفقاً لرواية والده، لينقل مجدداً لمستشفى آخر بغرض إدخاله العناية المركزة. في صباح السابع والعشرين من سبتمبر تم إبلاغ أسرة الضحية بوفاته في العناية المركزة الساعة التاسعة صباحاً.
يقول محمد الخولاني والد الطفل إسماعيل، واصفاً ما حدث له لمواطن: “طوال الخمس سنوات الماضية قضينا أنا وأسرتي أيامنا واحنا في المستشفيات، لا يهمنا راحتنا ولا راحة أولادنا غير راحة إسماعيل، حتى وصل للتماثل للشفاء ويأتي من لا يخاف الله ويقتل فرحته وفرحتنا بشفائه.. أين العدالة فيهم؟”.
إسماعيل واحد من 11 طفلاً مصاباً باللوكيميا قضوا في ذات الأسبوع بعد تلقيهم جرعة الـ “methotrexate” التي اتضح لاحقاً بأنها كانت جرعةً فاسدة أودت بحياتهم، وأدخلت 30 آخرين العناية المركزة دون معلومات أخرى عن حالتهم.

تعتيم ومسؤولية
طوال أكثر من أسبوعين منذ وفاة الأطفال الضحايا وبقاء البقية في العناية المركزة، تحفظت وزارة الصحة في حكومة سلطات الأمر الواقع في صنعاء على الحادثة دون القيام بأي إجراءات بالتحقيق والمحاسبة، حتى تسرب الخبر لوسائل الإعلام في الثاني عشر من أكتوبر الماضي. في الثالث عشر من أكتوبر أصدرت وزارة صحة حكومة سلطات الأمر الواقع في صنعاء بياناً حملت التحالف العربي مسؤولية وفاة أطفال اللوكيميا، مشيرةً إلى أنه السبب في منع دخول الأدوية لليمن.
لاقى البيان استنكاراً على وسائل التواصل الاجتماعي، لتضطر الوزارة لإحالة رئيس الهيئة العليا للأدوية ومجموعة من المسؤولين للتحقيق، دون نتيجةٍ حتى اللحظة.
أفاد محمد الخولاني، والد أحد الضحايا لمواطن أنه وفقاً لطلب الأطباء في المركز، قام بشراء الجرعة كغيره من أهالي الضحايا من صيدلية نيوفارما بشارع الزبيري بالعاصمة صنعاء، ثم قام بعرضه عليهم ليؤكدوا عليه بأنها جيدة وفق حديثه. يقول محمد: “لم أعلم بأن الدواء كان فاسداً حتى وصولي في اليوم الثالث للمضاعفات للعاصمة صنعاء وإخباري في المستشفى بأن الجرعة كانت منتهية”.
"لم أعلم بأن الدواء كان فاسداً حتى وصولي في اليوم الثالث للمضاعفات للعاصمة صنعاء وإخباري في المستشفى بأن الجرعة كانت منتهية".
محمد الخولاني- والد أحد الأطفال الضحايا Tweet
وفق مصدر في وزارة الصحة، تتحمل وزارة الصحة والمؤسسة الوطنية لمكافحة السرطان وصندوق مكافحة السرطان مسؤولية توفير أدوية الأورام للمرضى، وتخصص لها ميزانيات سنوية لتغطية الاحتياج، وهو دورٌ بدأته وزارة الصحة منذ سنين في التراجع عن أدائه. محمد أحمد، اسم مستعار، والد أحد الأطفال الذين يتلقون علاجهم في مركز الأورام بمستشفى الكويت، أفاد بأن معظم الأدوية تقوم إدارة مركز معالجة أطفال اللوكيميا بتوفيره وخصوصاً جرعات الكيماوي.
يضيف أحمد شهادته عن الرعاية الجيدة التي يتلقاها طفله في المركز، ويقول بأنه لم يشك ولا مرةً بتلقي طفله لجرعة فاسدة أو تسبب المركز بأضرار صحية له. ويشير إلى أن الأطباء في حالة عدم توفر بعض الجرع أو الأدوية يطلبون شراءها من خارج المركز، لكن عملية فحصها غير آمنة. يقول أحمد: “يقوم الأطباء أحياناً بفحص العلاجات التي نشتريها من حيث كون الدواء أصلياً أم لا، والتحقق من تاريخ انتهائه. وبالنسبة للجرعات الكيمياوية يتأكدون من تاريخ صلاحيتها، أما فحصها مخبرياً فأظن أن ذلك صعب وليس من اختصاص الطبيب نفسه”.
الجرعة المهربة الفاسدة
بيان وزارة الصحة أفاد بأن الجرعة التي تنتجها شركة “Celon Labs” الهندية كانت مهربة وفاسدة، ولكنه لم يمنع تداولها أو يوجه بفحص أصنافها المتوافرة في السوق، وإنما ألغى استخدام تشغيلة الدواء أو بيعها في اليمن كلياً. أي سحب الترخيص الدوائي لهذا الصنف المنتج من شركة “سيلون لابز” من هيئة الأدوية.
مواطن قامت بالتواصل مع الشركة الهندية المصنعة للدواء، للاستفسار حول تواجد منتجاتهم في اليمن ومسؤوليتهم تجاه بيعها للمهربين وآليات بيع منتجاتهم للوكلاء، ولكن لم نتلق رداً حتى ساعة نشر التحقيق. السفير اليمني في الهند “يحيى غوبر” هو الآخر لم يرد على أسئلتنا بخصوص الإجراءات التي قامت السفارة باتباعها بعد كارثة الجرعة الفاسدة مع الشركة المصنعة والجهات المختصة في الهند والإجراءات التي تتبعها السفارة في مواجهة تهريب الدواء.
وفقاً لتعليمات شركة فايزر الأميركية حول ظروف نقل وتخزين دواء الـ “methotrexate” يوصى بحفظ الدواء في درجة حرارة 15 – 25 درجة مئوية، والتجميد 2-8 درجات مئوية بعد الفتح، وضرورة نقلها محفوظةً بعيدًا عن الضوء والرطوبة. تنوه الشركة أيضاً بحساسية الدواء؛ حيث توصي بعدم استخدامه إذا ما شك بتسرب أو تضرر كرتونة الدواء أو فتحها للحساسية الشديدة للدواء تجاه الضوء، وضرورة بقائه في الكرتون حتى وقت الاستخدام. الأمر الذي يعني أن ظروف النقل في عملية التهريب غير الآمنة البتة مع دواء من هذا النوع يجعل وزارة الصحة وهيئة الأدوية مسؤولةً بشكلٍ مباشر عن توفير الدواء بصورةٍ رسمية وآمنة ومنع تهريبه، بالإضافة لضرورة التحقق من جودته قبل تناول المرضى له، وهو الأمر الذي لم تقم به الكوادر الصحية في مركز معالجة أطفال اللوكيميا.
لماذا التهريب؟
منذ نهاية العام 2015، غادرت الكثير من شركات الأدوية العالمية السوق اليمنية، فيما أوقفت معظمها تصدير أدويتها لليمن؛ الأمر الذي خلق فجوةً كبيرة في حجم العرض في سوق الأدوية وفتح الباب أمام توسع أنشطة تهريب الأدوية لتوفيرها للمستهلك، وأرجعت وزارة الصحة في بيانها سبب مغادرة الشركات لقيود التحالف العربي في اليمن.
مصدر خاصٌ لمواطن في قطاع استيراد الأدوية أنكر مزاعم وزارة الصحة حول أسباب خروج شركات الأدوية العالمية ووجود قيود على استيراد الدواء، وأرجع أسباب الخروج للجبايات والرسوم التي تفرضها سلطات الصراع المتفرقة في خطوط النقل والمنافذ اليمنية مع دول الجوار والصعوبات التي فرضتها خارطة الصراع على عملية نقل الأدوية. ويضيف: "الأدوية المرتفع سعرها لا يتم استيرادها؛ حيث يلجأ المهربون لتهريبها للداخل؛ فجرعة الميثوتركسيت يصل سعرها لسبعين دولاراً للجرعة الواحدة".
يرجح المصدر أن الجرعة المهربة كما هو متعارف في سوق الدواء دخل عبر ميناء عدن، العاصمة المؤقتة للحكومة المعترف بها دولياً جنوب اليمن. مضيفاً أن سياسات الجبايات تشكل السبب الرئيسي في مغادرة شركات الأدوية العالمية التي كانت تعمل على توفير هذه الأدوية ووصولها بطريقةٍ آمنة للمستهلك.
جشع سلطات الصراع لا يستثني الدواء
منذ العام 2017، تفرض سلطات الأمر الواقع في العاصمة صنعاء رسوماً جمركية أخرى لتلك التي تفرضها الحكومة المعترف بها دولياً في المنافذ الجمركية، الأمر الذي ضاعف من تكاليف السلع المعيشية والدوائية التي لا تستثنى من عمليات الجباية المضاعفة. اشتكى تجار ومستوردو الأدوية أيضاً من تعسفات وابتزازات يتعرضون لها في المنافذ الجمركية لسلطات الحكومة المعترف بها دولياً، وتحصيل رشاوي ورسوم غير قانونية للسماح لبضائعهم بالمرور، بالإضافة للرشاوى التي تدفع طوال طرق النقل في الداخل اليمني.

سمحت السياسات الإيرادية لطرفي الصراع وتراجع الدور الرقابي على المنافذ الجمركية وسوق الدواء، بتنامي فرص التهريب من دول الجوار عبر المنافذ البرية والموانئ البحرية، فيما اضطرت شركات عالمية كفايزر واسترازينيكا مغادرة السوق اليمني وسحب أدويتها منه.
يقول الدكتور أحمد زايد، اسم مستعار، وكيل أدويةٍ محلي لمواطن، أنه وعلى عكس مزاعم وزارة الصحة بمنع التحالف الدواء من الدخول، تعود أسباب خروج شركات الأدوية بظروف النقل الداخلية التي لا تضمن وصول الدواء آمناً: “ظروف النقل الآن داخلياً سيئة جداً بسبب خارطة الصراع، شركات كبيرة مثل استرازينيكا وفايزر انسحبت من اليمن بسبب هذه الظروف التي منعت من وصول الدواء آمناً دون أن يتضرر”.
"تحرص شركات الدواء العالمية مثل فايزر واسترازينيكا على التحقق من جودة الدواء طوال عملية الشحن والنقل حتى وصوله لنقطة البيع الأخيرة لدى الوكيل المحلي؛ حيث تعتمد على إرفاق جهاز "Data Logger" بالبضاعة التي يتم نقلها والطلب من الوكيل أو المستورد المحلي تحميل بيانات الجهاز على الانترنت لتستطيع الشركة التحقق من جودة الدواء وظروف النقل التي نقل بها، وهنا يستطيعون معرفة أن أدويتهم مرت بظروف غير ملائمة ويمكن أن تفسد هذه الأدوية، ولذا تقرر سحب هذه الأدوية، إلى أن انسحبت أخيراً من السوق اليمنية".
وكيل أدوية محلي Tweet
وفقاً للدكتور أحمد زايد، تمر الأدوية برحلة طويلة وعمليات احتجاز تستمر لأشهر في المنافذ الجمركية، من العاصمة المؤقتة عدن ثم في منطقة عفار بمحافظة البيضاء، المنطقة التي يتحصل فيها الحوثيون رسومهم الجمركية مرةً أخرى. يذكر أيضاً أن شحنة أدوية لأحد الشركات المستوردة قادمة من الإمارات بقيت محتجزةً تسعة أشهر في صحراء الجوف، المنفذ التحصيلي الثاني لسلطات الأمر الواقع للبضائع المارة بمنفذ الوديعة البري مع الحدود السعودية، حتى رضوخ المستورد للمبلغ المطلوب منه وقيامه بدفعه.

من المسؤول؟
بين السياسات الإيرادية الانفصالية بين حكومتين، وتضاعف الضرائب والجمارك والزكاة على شركات الأدوية المحلية، يتحول الاهتمام صوب تهريب الأدوية وتوفرها بأسعار أرخص من تلك التي تدخل البلاد بطريقة رسمية، فيما تتخلف الجهات المعنية كهيئة الدواء ووزارة الصحة في الرقابة على سوق الدواء وأسعاره، ويعاني المرضى والمستهلكون اليمنيون من تبعات سياسات أطراف الصراع ويتجرعون الداء في علب الدواء.
تبدأ سلسلةٌ طويلةً بغياب الرقابة وفساد الجهات المعنية في وزارة الصحة ومهربي الأدوية، إلى جشع الجبايات التي لا تستثني منها حتى الدواء، تاركةً اليمنيين يدفعون الضرائب والجمارك لحكومتين ودولتين، انتهاءً بالقطاع الصحي المنهار والمسؤولية التقصيرية في استخدام أدويةٍ مهربة شديدة الحساسية وتتطلب ظروفاً خاصة للحفظ والنقل كهذه التي تلقاها أطفال اللوكيميا دون تحقق مسبق من جودتها.
لينتهي الأمر بمسؤولية تتعلق بالإجراءات التي تتبعها الشركات العالمية في بيع منتجاتها وانتقالها دولياً للتحقق من مدى صلاحيتها أثناء عملية الشحن والانتقال حتى وصولها للوكلاء المحليين، الأمر الذي قد يترك المسؤولية على الشركة المنتجة من جهة؛ بتتبع آليات بيع منتجاتها واستهلاكها، والسطات اليمنية ووزارة الصحة في حكومة سلطات الأمر الواقع من جهة أخرى في التداعيات التي تعاني منها سوق الدواء جراء السياسات الإيرادية التعسفية وغير القانونية التي تفتح المجال أمام التهريب، وغياب الرقابة على سوق الدواء، وأخيراً على إدارة المستشفى والمركز في تقديم أدوية مهربة دون التحقيق من مدى صلاحية تلقي المرضى لها. وحتى الآن تغيب نتائج تحقيقات سلطات الأمر الواقع. فهل سينال أطفال اللوكيميا العدالة؟