العنف، هذه الكلمة التي ما إن قرأتها، فأحس نفسي في عالم مليء بالعتمة والوحدة، يخلو من أي مصدر للنور، كما يتسلل لي شعور بالألم بشكل غريب، فما الذي قد تفعله بالإنسان وتحديدًا روحه، عندما يعتاد عليها وتصبح أمرًا روتينيًا؟
الجواب محزن لكنه واقعي، إنه سيجعله حجرًا أصم، وهذا ما يحدث اليوم في مجتمعاتنا التي أضحت موطنًا للعنف، من خلال بث روح الكراهية والقتل، بشتى الوسائل والطرق ومن جميع الأبواب والتي جعلت مشاهد الدم والتعذيب طبيعية، بل وضرورية للحياة، ما أدت إلى موت الحضارة ودمار الثقافة، وسقوط الشباب، واضطهاد النساء.
هذا ما وجدته، عندما قرأت عنوان الكتاب ” حيونة الإنسان“، فاجتاحتني عدة تساؤلات وفرضيات تخطر في ذهني، والتي جعلتني أتعمق أكثر حول ذاتي وأبعادها النفسية وسؤال نفسي، هل حقًا يمكن أن يحدث كل هذا ويتحول الإنسان من شيء إلى آخر؟
من يبدأ الفصل الأول، لا يمكن له أن يتصور البعد العميق الذي يسرده الكاتب ممدوح عدوان في كتابه الذي جاء في حجم المتوسط في حدود المائتي والثمانون صفحة، متناولًا عشرين عنوانًا، مترابطًا بالتفاصيل الدقيقة والدراسات البحثية، يغلب عليها طابع الجدية والأسى اتجاه ما يحدث اليوم. “إنه عالم يعمل على حيونة الإنسان” كما يقول عدوان.
ما شعور المعذب تجاه السجين وماذا يحدث في دواخله؟ هل هو يتأثر أم أنه يصبح جامدًا عديم المشاعر؟
صناعة الوحش
بدأ الكاتب بعبارة مقتبسة من القصة الشهيرة “العسكري الأسود“، والتي تصنف في خانة أدب السجون، حيث يقارن بين إحساس الشخص عندما يكون حرًا وعندما يكون مقيدًا بالسلاسل لا يستطيع مواجهة الألم وآثار التعذيب إلا بالصراخات والآهات التي تنبعث من صميم جوارحه، بل إنها تهز كيانه وكرامته، حينها يتحول إلى أنقاض إنسان من نوع آخر، أي أنه يهدم من الأعلى إلى الأسفل.
يطرح عدوان تساؤلًا آخر، ما شعور المعذب اتجاه السجين وماذا يحدث في دواخله؟ هل هو يتأثر أم أنه يصبح جامدًا عديم المشاعر؟
إن للأفلام دورًا كبيرًا في الإجابة عن هذه التساؤلات، فعندما تشاهد الأفلام البوليسية والتي تتضمن العديد من المشاهد الخاصة بالسجون التعذيب واعتقال المجرمين أو حتى المشتبه بهم، تجد تسلسلًا دقيقًا في المهام، والتي توزع من قبل الضابط على ملازميه ومعاونيه، لذا فإن أغلب العناصر لا تحس أنها تقوم بعملية تعذيب بل إنها تنظر للأمر كأمر صدر من الجهات العليا.
فعلى سبيل المثال، لا أستطيع أن أنسى مشاهد الدم والديكتاتورية وصوت السياط، وندوب التعذيب في أفواه المعتقلين وصرخاتهم طوال الليل، الذي تضمنتها مشاهد مؤلمة من فيلم “balloon” لأجد نفسي حينها، أبكي بصمت مطبق وحزين، غير مصدقة أن هناك بشر بهذه الوحشية، متناسين حق الأخوة الإنسانية في هذا الكوكب.
كما تناول موضوع صناعة الوحش الذي بداخل الإنسان، مشيرًا إلى ما قاله عالم النفس إيريك فروم :”الإنسان يختلف عن الحيوان في حقيقة كونه قاتلًا، لأنه الحيوان الوحيد الذي يقتل أفرادًا من بني جنسه ويعذّبهم، دونما سبب بيولوجي أو اقتصادي، ويحس بالرضى التام من فعل ذلك”، ما يعني أن الحيوان لا يجهز على خصمه، بل يدعه يلفظ أنفاسه الأخيرة بمفرده لأنه يملك رادعًا غريزيا، بينما الإنسان عندما يمسك سلاحًا ويستلذ بقتله لإنسان آخر فإنه يجهز عليه، هذا ما يعني أنه يهدم ذاته في الدرجة الأولى بدون أن يحس لذلك، وهذا أسوء ما يصل له الإنسان.
إلى ذلك، يقسم فروم السلوك العدواني إلى ثلاثة أقسام: عنف للدفاع عن النفس، عنف لإكمال جريمة كالسرقة، عنف للاستماع وهو أمر مرضي، يعوضه الكثير من البشر عن طريق مشاهدة الأفلام العنيفة والمقاطع الدموية في المسلسلات والأفلام.
مجتمع المقموعين
يتطرق عدوان إلى تفسير العلاقة بين القامع والمقموع كما يسميهما، طارحًا تجربة قام بها عدد من المتطوعين بين معذب ومتهم، لتصور وهم التعذيب، عن طريق لعب دور المعذب باستحضار عدد من الكلمات أمام المتهم باستخدام أسلوب العنف، من أجل تنشيط الذاكرة، ووصلت النتائج أن بمجرد أن يمارس الإنسان العنف اتجاه إنسان آخر، فإنه سيطيعه بلا تردد، فقط من أجل مبدأ الطاعة التي تفرض عليه في ذلك الوقت، وحتى إن كانت غير صحيحة.
يضيف توضيحًا لنفسية الضحية، التي تزيد أيضًا من وحشية الجلاد، فهي برضوخها، تسمح بطريقة أو بأخرى بممارسة العنف عليها، إذ إن للخوف رائحة تثير الطرف الآخر وتساعده على بسط سيطرته وتنفيذ كل ما يريد، ما يعني أن غرس مفهوم الخوف منذ الصغر في نفوس الأطفال يعزز عملية التطاول، وهذا ما تستخدمه الأنظمة القعمية على المواطن غالبًا، إذا لم يكن واثقًا ومقدامًا في الدفاع عن حقوقه. فالنظام القمعي لا يهمه أن يتطور البشر بل إنه يريد أن يتحول الجميع إلى حيوانات قابلة للقتل والترويع.
بالإشارة إلى مجتمع المقموعين، فهو من يساعد في ولادة القامع أو الديكتاتور، بسلوكيات الخوف كما ذكرنا سلفًا، بالأخص في المجتمعات التي تتواجد فيها الأقليات الدينية والعرقية التي تحس أنها منتهكة الحقوق، فصوتهم لا يكاد يسمع كما يعتقدون، مثل الأكثرية. وهذا ما يعطي الضوء لتفجير أزمة طائفية في أي لحظة، لعدم وجود التعاون والتكاثف بين أفراده والتي لا تولد إلا الكراهية والتفكك.
مجتمع المقموعين يساعد في ولادة القامع أو الديكتاتور، عن طريق سلوكيات الخوف، وبالأخص المجتمعات التي تتواجد فيها الأقليات الدينية والعرقية التي تحس أنها منتهكة الحقوق، فصوتهم لا يكاد يسمع كما يعتقدون، مثل الأكثرية.
أصوات الجلادين
إلى ذلك، يفسر لنا أن العنف والإرهاب لا يظل سائدًا إلا إذا ساندته سلطة قمعية، تهيمن على المجتمع بكل ما تملك من أدوات، لكي تحمي أصوات الجلادين، وتقمع أصوات المحتجين، ومع تقدم المجتمعات، وتعقد شبكة العلاقات الاجتماعية، لازالت الحكومات المقموعة تحتفظ بتلك الأمور بصورة متطورة، وهذا لا يعني أنها دولة قوية، بل إنها ضعيفة مستمرة بهؤلاء الإرهابين.
فينتج على أثر ذلك، شعب متردٍ من الناحية الإنسانية والفكرية، منغلقٌ على نفسه، منطفئ الطموح والأحلام، عاجزُ عن تحقيق أبسط المتطلبات، وهو بداية إلى فصل جديد للإرهاب. وكما يقول آرثر سالزبورغر:” احجب المعلومات الصحيحة عن أي إنسان أو قدمها إليه مشوهة أو ناقصة أو محشوة بالدعاية والزيف، إذا فقد دمرت كل جهاز تفكيره ونزلت به إلى ما دون مستوى الإنسان”.
عندما انتهيت من هذا الكتاب، وجدت نفسي أسمع آهات السجناء، وضحكات الجلادين، وأصوات القمع بلا توقف، بين هذه الكلمات “العنف”، ” الإرهاب”، ” التعذيب” الذي كثر استخدامها فيه، لأشكر الكاتب على إيضاحه العديد من الحقائق الدفينة، وأصل لقناعة أن ما طرح هو تحليل للذات الوحشية لكل مستبد على اختلاف الزمان والمكان.
وحقًا أننا كثيرًا ما نتكلم عن المدينة الفاضلة، ونضع النظريات المثالية حولها، ولكن هل نحن قادرون فعلًا على تطبيق حرفٍ واحدٍ مما نقول؟ للأسف، لا، لأننا لا زلنا نعمل بنظام الآلة الذي يهدد كل ما فينا من مشاعر.
ولا حل فعلًا غير أن نعمل على ” فلترة” عقولنا، شاملة تصرفاتنا وأقوالنا، بالإضافة إلى صناعة مناهج تربوية تؤكد على قيم التسامح والعدالة الإنسانية، حتى نتمكن ولو بشكل بسيط للقضاء على أشكال العنف، وخلق بيئة معتدلة للحوار والرأي الآخر.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.