“نحن في كل مكان” كان شعار المثلية الذي رفع في عهد الرئيس الأسبق جيمي كارتر للولايات المتحدة الأمريكية ما بين 2 نوفمبر 1976 إلى 20 يناير 1977، كما ابتُكر علم قوس قزح كرمز للهوية المثلية في عام 1978 من الفنان والناشط الأميركي جيلبر بيكر باستخدام ثمانية ألوان كرمزية لتعدد الأطياف، ثم خفض العلم إلى ستة ألوان المعروفة اليوم.
على الرغم من ظهور ما يعرف بحقوق المثليين حديثًا، إلا إنه طوال التاريخ في كل مجتمع بشري تواجد مثلّيون، كما سيوجد مثليون في المستقبل أيضًا. انتشرت المثلية تاريخيًا في مجتمعات الساموراي في اليابان، ومصر القديمة واليونان وفارس وبلاد العرب قبل الإسلام، وحتى في ظل حكمه كخلافة؛ ما يعني أن المثلية ظاهرة قديمة ومستمرة، ليست من صنعة الحداثة الغربية.
المثلية، قضية هامشية، هل ذلك صحيح؟
في أربعينيات القرن الماضي قدم الدكتور كينزي دراسته الشهيرة التي لاحظت أن المثلية المطلقة [نسبة من قالوا إنهم يميلون فقط- للجنس الآخر] لا تتجاوز ٢% لدى السيدات، و٤% لدى الرجال. أي أولئك الذين يعرفون أنفسهم بأنهم يميلون فقط للجنس نفسه.
أسيء فهم واستخدام دراسة ماكينزي، كما دار حولها الكثير من الجدل لعدّة عقود على الصعيدين الأكاديمي والسياسي.
واستخدم التيار المحافظ جزءً من دراسة كينزي التي قالت إن واحدًا من كل عشرة في المجتمع قالوا إنهم كانوا مثليين بصورة شبه حصرية في السنوات الثلاث الماضية، وتلك مسألة تختلف عن المثلية المطلقة.
وحدث خلط بين المثلية والتجارب المثلية؛ فالذين قالوا إنهم خاضوا في الماضي تجارب مثلية مرّة أو أكثر تجاوزوا عُشر الـمُستطلَعين، جاءت مسوح أخرى مطلع التسعينيات لتضع المثلية المطلقة بين واحد واثنين في المائة، وهو ما عزّز خطاب المحافظين أكثر على القول إنها ظاهرة هامشية.
على الجهة الأخرى في الدراسة نفسها، قال ٥% إنهم يميلون فقط لنفس الجنس، أي مثليون على نحو مطلق، والنسبة المتبقية هي منطقة رمادية.
هناك ما يقرب من ٣٠% من البشر ما بين الغيرية والمثلية في المنطقة الرمادية، طبقًا لـ Statista
اعتبارات مثل حصر المثلية في كونها اختيارًا شخصيًا، أو فعلًا ينشأ بحكم العادة وأثر الإعلام، اعتبارات ليست دقيقة، لأنها تهمل الجانب الجيني والسبب العلمي للظاهرة، بغرض مهاجمة الظاهرة لأغراض يمينية متشددة.
وبما أن ظاهرة المثلية قديمة قدم الإنسان والمجتمعات البشرية، وبما أنها ليست بالظاهرة الجديدة؛ فكان لها تاريخ طويل ممتد مع الديانات الإبراهيمية، مثل جميع ديانات وشرائع العالم القديم.
فكيف تعاملت كل من اليهودية والمسيحية والإسلام مع قضية المثليين؟
اليهودية.. تاريخ موغل من المثلية، انتهاءً بسدوم
هُناك أسباب بيولوجية، تربوية، ثقافية، وتاريخية تساعد في خلق ذلك المجتمع على الدوام، وحين نتوغل في التاريخ البشري نجد المثلية بارزة أو متخفية في كل فقراته؛ إذ نقرأ في سفر الملوك الأول: “وكان هنُاك مأبونون في الأرض، اقترفوا أرجاس الأمم الذين طردهم الرب من أمام بني إسرائيل”[١٤:٢٤]. يشير سفر الملوك هنا إلى سدوم وعمورة، بلدة النبي لوط، ومنها نُحتت المفردة الإنجليزية Sodomite، أي المثلي/اللوطي.
يتجاهل سفر الملوك تحديد زمن قوم لوط، غير أن العهد الجديد يقول إن عمورة كانت بلدة في زمن الملك ريهوبوم، أي في القرن العاشر قبل الميلاد. سنلاحظ أدنا، أن الكشوف العلمية وجدت آثار سدوم في زمن سابق بكثير لما حدده الإنجيل، والنصّ المقتبس أعلاه يذهب بالمسألة المثلية بعيدًا؛ حيث أممٌ غابرة لا زمن لها ساد فيها ذلك “الرجس” واستحقت غضب الرب الذي طردها من أمام بني إسرائيل، أي أخفاها من الوجود. إنها ظاهرة، وفقًا للعهد القديم، موغلة في التاريخ. وكأن قصة سدوم ليست سوى آخر العِبر في ذلك الشأن.
يأتي العهد القديم في كتب عديدة، على المسألة المثلية أحيانًا بوصفها رجسًا، وتارة كحكاية من عاديات الحياة. استطاع إيلون غيلاد، المحرر في هاآرتس، أن يقدم تاريخًا موجزًا للمثلية في المجتمع اليهودي. صعد بالحكاية إلى نبي اليهود “داوود/ ديفيد” الذي جلس يبكي رفيقه يوناثان قائلًا: “كم حزنت عليك يا أخي يوناثان، كنت حلوًا لي جدًا، أحببتك أكثر مما أحببت النساء”. علاقة ديفيد بيوناثان، كما في نصوص العهد القديم، أثارت جدلًا بين مؤرخي الديانة اليهودية حول ميوله الجنسية، وبالضرورة تولدَ نقاش حول مكانة المثلية لدى أقدم مجتمع “ديني – سماوي”.
في كتابه “إسرائيل الجسدية”؛ يذهب المؤرخ اليهودي بوريان إلى القول إن المثلية كانت في العصور القديمة المتأخرة، قد غدت طقسًا شائعًا. أما جاوزف كارو، مؤرخ يهودي توفي سنة ١٥٧٥م، فيلاحظ انتعاشا واضحًا للثيمة المثلية لدى شعراء اليهود الذين عاشوا داخل المجتمع المسلم في أسبانيا، مقارنة بمن عاشوا داخل الحضارة الرومانية.
في عالم أسبانيا الـمُسلم نشأت أجيال “مليئة بالفجور، وكان على المرء أن يتجنب النوم مع الذكر”، بحسب كارو. تقودُ فرضية كارو إلى القول إن انخراط الشعراء اليهود في صناعة الأدب المثلي، وكانوا من مواطني الإمبراطورية الإسلامية، يعطي انطباعًا عن مدى حضور تلك الظاهرة في حياة المسلمين وآدابهم.
كان العهد القديم حاسمًا في حكمه على من يسميهم أحيانًا المأبونين، وتارة مضاجعي الرجال. ففي سفر اللاويين جاء: “وإذا اضطجع رجلٌ مع ذكر اضطجاع امرأة؛ فقد فعل كلاهما رجسًا. إنهما يقتلان. دمهما عليهما”. الحرب الشعواء تلك تتجلى في العهد الحديث عند المسيحية، كما في رسائل بولس الرسول إلى أهل رومية، أهل كورنثوس، وأهل تيموثاوس.
ففي رسالة بولس إلى أهل تيموثاوس نجده يضع المأبونين ومضاجعي الذكور في منزلة عبدة الأوثان: “الظالمون لا يرثون ملكوت الله. لا تضلّوا: لا زناة، ولا عبدة أوثان، ولا فاسقون، ولا مأبونون، ولا مضاجعو ذكور” [الآية التاسعة].
عند بولس يقف الزنا واللواط في منزلة واحدة، وهما رذيلتان تذهبان بملكوت الله: “ألستم تعلمون أن أجسادكم هي أعضاء المسيح؟ أفآخذُ أعضاء المسيح وأجعلها أعضاء زانية؟ حاشا”، تقول الآية 15 من رسالة بولس.
المثلية والإسلام
تسلل الحكم بقتل المأبونين ومضاجعي الذكور إلى الشريعة الإسلامية هابطًا من الشريعة اليهودية، وكان أبرز المتحمّسين له علي بن أبي طالب. كما تحمّس ابن تيمية في فتاواه لتلك العقوبة معلّلًا موقفه بأنه يستند إلى “إجماع الصحابة”، وهو إجماع مزعوم لا يستند إلى دليل قطعي واحد كما سنبيّن أدناه.
ذكر القرطبي في تفسير سورة الأعراف أن أبا بكر الصديق أحرق رجلًا “مثليًّا” يقال له الفجاءة نزولًا عند مشورة علي بن أبي طالب. لم يكن لدى أبي بكر -وهو الخليفة- وأكثر رجل صحب النبي، أي فكرة عن حكم الشرع في أمر كهذا. عن عليّ، وعن ابن عبّاس، سيخرج الحكم الشرعي في المثلية، ويصير إلى موقف نهائي، وهو حكم بالغ الوحشية لم يأت به القرآن، وما من أثر عنه لدى الشيخين. الطّهرانية الهاشمية التي عبّر عنها الرجلان، تحدثت نيابة عن الخالق ونبيه هذه المرّة، وفي مرّات أخرى.
كمثل الكتاب المقدّس؛ أتى القرآن على قصة قرية سدوم [قرية النبي لوط] زهاء ٧٦ مرّة في تسع سور من القرآن. إتيان القرآن على تلك القصّة جاء في سياقات مختلفة، ليس فيها مشهد واحد شبيه بما نقرؤه في العهدين القديم والحديث: اضطجاع الرجلين، طوعيًّا، لممارسة الجنس. في سياقات الحكي القرآني العديدة، نجد اللواط فعلًا مرتبطًا بالجريمة وقطع السبيل، لا بالمعاشرة المثلية الرغبوية، الاختيارية.
ليس هناك في السردية القرآنية، من مجتمع مستقر يضطجع فيه الرجال إلى جوار الرجال، ونتيجة لذلك تحل على البلدة نازلة من السماء؛ ثمّة في سدوم، وهذا ما يديرُ القرآنُ الحديثَ حوله، حالة عامة من الجريمة والخوف: “تقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر”، كما في سورة العنكبوت ٢٩.
خارج قصّة قوم لوط لم يأت القرآن على مسألة “نكاح الذكور”، لم يشر إليها، ولم يقرر إزاءها عقوبة. لنستمع إلى قول الطبري حول الآية الآنفة من سورة العنكبوت: “كان المسافر إذا مرّ بهم، وهو ابن السبيل، قَطَعوا به وعملوا به ذلك العمل الخبيث”.
وعن المنكر الذي كانوا يأتونه في نواديهم ينقل الطبري عن أم هانئ عن رسول الله، قال: “كانوا يجلسون بالطريق فيحذفون أبناء السبيل، ويسخرون منهم”. في سورة الحجر، آية ٧٠، يقول أهل القرية للنبي لوط “أو لم ننهك عن العالمين؟”، أي عن استضافة الأغراب كما يذهب الطبري في تفسيره. تأكيد آخر على أن أهل تلك البلدة كانوا يرفضون أن يطأ أبناء السبيل الغرباء ومن تقطعت بهم السبل.
يأخذنا الطبري، وسواه من المفسرين، إلى مشاهدة غاية في الأهمية: كان رجال القرية يلجأون إلى “تلك الفاحشة” فقط مع أبناء السبيل. لم يكن المجتمع، إذن، يضاجع نفسه كما هي الصورة الشعبية عن قرية لوط.
إن قطع السبيل يعني، بالنسبة لذلك الزمان، الموت المؤكد للكثيرين على أبواب البلدة. حاول لوط أن ينتهك قانون تلك البلدة وأن يفتح داره للغرباء والمسافرين، لتزويدهم بالماء والزاد كما يُتوقع. نهاه كبار القوم، كما تؤكد سورة الحجر، ووضعوا جواسيس تراقب فعله.
يتفق القرآن مع العهد القديم في أجزاء كبيرة من القصّة: يعلم أهل البلدة بوجود ضيوف في بيت لوط، فيداهمون منزله، هُناك يقررون إهانة ضيوفه في منزله، أن يصير فعل لوط مع أبناء السبيل عبرة لأي رجل آخر سيحاول انتهاك قانون البلدة. سياق الحادثة بعيد عن المثليّة، ثمة محاولة لاغتصاب رجال يُعتقد أنهم ضلوا سبيلهم إلى بيت لوط. المثلية شيء آخر: أن يضطجع الرجل للرجل – أو المرأة للمرأة- عن رغبة ورضا كاملين.
ارتكب أهل البلدة جريمة مركّبة، تقول النصوص الدينية. تبدو الجريمة في سياقها التاريخي كما لو أنها غير مسبوقة. يعود الطبري، مرّة أخرى، ليقدم تصوّرًا عمليًّا لتلك الفاحشة “أي: تقطعون المسافرين عليكم بفعلكم الخبيث. وذلك أنهم فيما ذُكر عَنْهم كانوا يفعلون ذلك الفعل الخبيث بمن مرّ عليهم من المسافرين، ممن ورد بلادهم من الغرباء”.
تأخذ الفاحشة هنا شكلًا لا علاقة له بالمرّة، بالمثلية التي هي الجنس مع نفس النوع بالتراضي. كان أهل تلك البلاد يعاقبون المسافرين الذين يقتربون من قريتهم باغتصابهم كي يجعلوا منهم عبرة للآخرين؛ فقد كانوا عازمين على أن يبقوا ثروتهم بعيدًا عن متناول الصحراويين والجيران.
في سياق مشابه ترد قصة سدوم في العهد القديم، كان اغتصاب ابن السبيل، بغية حماية بلدتهم من الدخلاء، هو الوسيلة التي طوّرها الرجال، وفيما يبدو فلم تكن بالمسبوقة. وصف القرآن ما كان يجري هُناك بأنها فاحشة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، كما في سورة الأعراف على لسان لوط.
من غير الممكن أن القرآن يحاول تقديم حقيقة علمية تقول إن المثلية نشأت في سدوم قرية لوط، وأن أحدًا من العالمين لم يسبقهم إليها. استيعاب القصة القرآنية على هذا النحو هو تأويل يجعل القرآن في مصادمة خاسرة مع العلوم.
فالبحوث الأثرية التي عثر عليها في سقارة تأخذنا بعيدًا في التاريخ لنرى آثارًا للمثلية في حياة الأسرتين الفرعونيتين الخامسة والسادسة، أي في القرن الخامس والعشرين قبل الميلاد [قبل حوالي ٤٥٠٠ عام من الآن]؛ وهو زمن سابق لزمن سدوم وعمورة، والبحوث الأركيولوجية التي قام بها عالم الآثار بونش مع فريقه في تل الحمّام غرب الأردن، حددت زمن سدوم بالعام ١٦٥٠ قبل الميلاد.
قبل عقد من الزمن قدم الأسقف الأميركي جين روبينسون مقاربة تاريخية لحادثة عمورة كما يوردها العهد القديم. بحسب روبينسون، وهو أسقف مثلي واسع الشهرة، فقد خرق أهل عمورة قانون السلام المعمول به في ذلك العصر، والمعتمد على “حسن الضيافة”. لم يكن حسن الضيافة مجرد عرف؛ بل قانونًا يترتب عليه حياة أو موت.
كانت عمورة واسعة الثراء، اتخذ أهلها قرارًا بمنع خيراتها عن الآخرين، وقاموا بقطع السبيل. ومن أجل أن يدفعوا الناس بعيدًا عن بلادهم كانوا يغتصبون كل من ضلّ سبيله إلى المدينة. يتفق الأسقف روبنسون، في حوار مع المركز الأميركي للتقدم ٢٠١٠م، مع الطبري في شرحه لفاحشة سدوم غير المسبوقة.
وهي فعل استحق العقاب الذي أخبر به القرآن والعهد القديم. ثمّة نصان مقدّسان يعززان من هذه المقاربة، ويفتحان الباب أمام تأويل واسع يرى في سدوم مشهدًا آخر لا علاقة له بالمثلية. الأولى هي قصة الجنتين اللتين أهلكتا في ساعة من الليل، كما في سورة القلم.
ذلك أن الورثة اتخذوا قرارًا، بعد موت الأب، بحجبهما عن الفقراء وأبناء السبيل [فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون، فأصبحت كالصريم]. الثانية من إنجيل ماثيو، يقول يسوع لتلامذته وهو يرسلهم إلى المدينة: “وإذا لم يستقبلكم أي شخص أو لم يستمع إلى كلامكم ، فانفضوا الغبار عن أقدامكم وغادروا البلدة. الحق أقول لكم، سينزل بتلك البلدة عقاب أشد بأسًا مما حل بسدوم وعمورة”. يقرر القرآن والإنجيل معًا أن قطع السبيل والأرزاق كان سببًا لإهلاك الـمُدن في الماضي.
بينما حسم العهد القديم موقفه من المثلية، كما في سفر اللاويين، بقي الإسلام على الحياد. لنقل: تجاهل القرآن تلك الظاهرة، لم يأت عليها خارج قصة لوط، ولم يفرض عليها عقوبة كما يفعل عادة مع المسائل الكبيرة. اشتهرت أحاديث ثلاثة حول “حد اللواط” لرواتها الثلاثة: أبي هريرة، جابر بن عبد الله، وابن عبّاس.
نصّت الأحاديث الثلاثة، بصياغات مختلفة، على قتل الفاعل والمفعول به. غير أن تلك النصوص، وليس منها حديث واحد لدى البخاري والمسلم، ليست محل اتفاق؛ فالألباني يردّ حديثي أبي هريرة وجابر، وكذلك فعل الحافظ ابن حجر العسقلاني. يُبقي الألباني على حديث ابن عبّاس، رافعًا إياه إلى درجة الحديث الصحيح.
يقول الحديث “عن ابن عبّاس قال سمعتُ رسول الله يقول من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به، ومن وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوا البهيمة”. وهو حديث استنكره النسائي وابن حزم، كما رفضه أبو حنيفة وآخرون. في نهاية المطاف لا يتوفر الفقه الإسلامي على نصّ واحد قطعي الثبوت حول حد المثليّة.
ما أورده الترمذي وأبو داوود، مضافًا إلى تلك الرواية: “فقيل لابن عباس ما شأن البهيمة؟ قال ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيئًا، ولكن أرى رسول الله كره أن يؤكل من لحمها أو ينتفع بها وقد عمل بها ذلك العمل”. في الرواية هذه يتشكك ابن عبّاس من روايته السابقة، ثم يضع تقديره الشخصي للمسألة كما لو أنه حكم صدر عن النبي. بل يقول إنه لم يسمع من رسول الله ما سبق أن قال إنه سمعه من رسول الله.
وما رواه البيهقي، ابن الجوزي، والذهبي “سئل ابن عباس ما حد اللوطي؟ قال ينظر أعلى بناء في القرية فيرمي به منكسًا ثم يتبع الحجارة”. يتجاوز ابن عبّاس هنا دوره كراو للحديث إلى مشرّع، أو منتج للحديث. ها هو يقرّر عقوبة جديدة غير تلك سبق أن قال إنه سمعها من الرسول. هذه العقوبة العبّاسية ستعرف طريقها إلى عدد كبير من كتب الفقه، وستصبح دينًا.
كان عُمرُ ابن عباس ساعة وفاة النبي ١٣ عامًا. وهو هُنا ينفرد، دونًا عن سائر الناس، بأحاديث سمعها في طفولته. وهي كما نعلم نصوصٌ تتعلق بحكم الإعدام. بعد استبعاد حديثي أبي هريرة وجابر بن عبد الله، كما فعل كبار المحدثين، فإننا هنا نسمح للطفل ابن عبّاس بأن ينفرد بحديث يتعلق بأمرين كبيرين: عقوبة الإعدام، والمثلية الجنسية.
يخبرنا المحدثون، على استحياء، أن ابن عبّاس نسب قولًا إلى النبي ثم، في موطن آخر، قال إنه لم يسمعه منه [حد ناكح البهيمة]. لو كان ابن عبّاس رجلًا آخر، غير الرجل المعروف من بني هاشم، لدفعت هذه القصة سائر المحدثين إلى وضعه في قائمة الوضّاعين ورواة المناكير، كما هو المصطلح الأثير.
في السياق نفسه وقف الفقهاء أمام مسألة أخرى: السحاق. ولأن المسألة بالغة التعقيد فقد استبعد الفقهاء النساء المثليات من أي عقوبة. يقول ابن قدامة في المغني: “وإن تدالكت امرأتان، فهما زانيتان ملعونتان، ولا حد عليهما”. رفع ابن قدامة المثلية النسوية، السحاق، إلى درجة الزنا الملعون ثم أصدر حكمًا بإسقاط حد الزنا. اتفق سائر الفقهاء على هذا الرأي، واقترحوا في أسوأ الأمور التعزير، وهو ضربٌ من اللوم والعتاب.
تناقض وجدال حول المسألة دفع مفكّرين إسلاميين عديدين إلى القول بأن كل ما تعلّق بهذه المسألة من أحكام لا قيمة له، وأن الأرجح هو إحالتها إلى السلطات الزمنية لتحديد موقف منها وفقًا لآداب وقواعد النظام العام.
هل لازال العصر يسمح بقتل الفاعل والمفعول به؟
مثلما انقسمت الكنيسة في العقود الماضية حيال المسألة المثلية، فإن الفقه الإسلامي اتخذ حيالها موقفًا غير حاسم، راهنًا صارت البيانات العلمية قادرة على أن تنبئنا بالكثير عن المجتمع الذي نعيش فيه. إن ظاهرة تضم بين جوانبها 5 في المائة من السكّان [بحجم مدينة برلين، بالنسبة لألمانيا] لا يمكن مقاربتها بأحكام على شاكلة “اقتلوا الفاعل والمفعول به”، كما ذهب العهد القديم وعدد من فقهاء الإسلام.
المجتمع كان المثلي منذ مطلع التاريخ مجتمعًا موازيًا، ساعدت سياقات تاريخية معينة على انتعاشه أو انحساره، لكنه بقي كحقيقة تنتمي إلى عالمنا البشري، وإن كان ذلك المجتمع الصغير قد استطاع أن يتحصل على مكان له في المتن، كما في دول غرب أوروبا؛ فإن بقاءه في الهامش في أماكن أخرى لا يعني أنه لا وجود له.