تميز القرن العشرين بظهور عدة فلسفات وضعت اللغة كحجر أساس للمعرفة، من بينها التحليلية والبنيوية التي أفضنا فيها الحديث من قبل على مواطن، واليوم سنناقش فلسفة جديدة مختصة بهذا الفرع؛ وهو “اللغة” ظهرت على يد الفيلسوف الفرنسي “جاك دريدا” (1930 – 2004م) الذي عمل في سياق ما بعد البنيوية الذي كان من رواده الفيلسوف الفرنسي “رولان بارت” Roland Barthes (1915 – 1980 م) والفيلسوفة الفرنسية البلغارية “جوليا كريستفا” وغيرهم..
وأهم ملامح هذا التيار بعد البنيوي التشكيك في إمكانية المعرفة التي جاء بها رواد البنيوية من أمثال “ليفي شتراوس” و “فرديناند دي سوسير” فتقسيم المعارف إلى بنيات ومحاولة العلم بعلاقة أجزاء تلك البنيات ببعضها كمقدمة للعلم بتلك البنية ليس كافيًا للعلم من عدة نواحي؛ منها أن العلاقات بين “الدالّ والمدلول والدلالة”، وبين “الكلمة والمعنى” أعقد بكثير مما يتصورها البنيويون، وأن الغموض الكامن في النص واسع جدًا بأشكال مختلفة؛ منها العجز في التعبير أو الجهل ببعض المعاني والاستعاضة فيها بمعانٍ أخرى لا تناسب النص، أو بحسب تعبير د. إمام عبد الفتاح في رصد نشاط هذا التيار بعد البنيوي، كانوا يعملون على اكتشاف “نسبة التفويت” في المعنى (أقدم لك الفلسفة صـ 165)
ولمحاولة تصور ذلك في الفكر الإسلامي؛ فلا يمكن فهم كلام الأئمة والأدباء وكتب التراث دون افتراض خطأ هؤلاء في التعبير، وهو ما يعني استحالة العلم بمذاهب هؤلاء الحقيقية. على افتراض آخر، وهو صدق تمثيل واقع هؤلاء في كتاباتهم؛ وهو اتجاه آخر بنيوي لم يهتم به مفكرو ما بعد البنيوية، لأن البحث في صدقية تمثيل هؤلاء لواقعهم ليس مبحثًا خاصًا لما بعد البنيوية؛ بل هو مبحث تحليلي بنيوي تميز به معظم فلاسفة اللغة في القرن العشرين، وهو الاتجاه الثوري الذي أحدث القفزة العلمية مؤخرًا بعد الشك في الموروثات البشرية وتاريخهم والاستنتاج بأنه لا يمكن العلم الحقيقي بالتاريخ سوى بمناظرة نصوصه الموروثة بالأدلة الحسية الأركيولوجية واعتماد الدليل الحسي في الأخير، وقبول الموروث التاريخي في حال لم يتعارض فقط مع دليل حسي آخر.
من هنا ظهرت التفكيكية للشك في المعرفة وضرب أهم أسس البنيوية وهي إمكانية المعرفة من داخل الأنساق أو البنيات، ويصفها د. إمام عبد الفتاح ببضعة أسطر؛ حيث قال: ” كانت استراتيجية دريدا هي التفكيك، وهو ليس منهجًا، لكنه يشبه كثيرًا العلاج بالمعنى الذي استخدم فيه فتنجنشتاين هذا اللفظ؛ فهو لا يسعى للمعنى الحقيقي إلى الوحدة؛ بل الكشف عن المعاني المتعددة التي هي في حرب لا شعورية بعضها مع بعض في النص، وما يُعرض على أنه لا شعوري هو الأقطاب الثنائية التي تدعم الافتراضات الميتافيزيقية” (أقدم لك الفلسفة صـ 167)
ولشرح كلام دكتور إمام في تعريف التفكيكية أن “لا شعور” الإنسان يتحكم في كتاباته بحيث يصبح أسيرًا للأقطاب والأَضداد التي تدعم الخيال الميتافيزيقي الداعم للأديان والإيمان، كثنائيات مثلا (النور والظلمة – الرجل والمرأة – العقل والعاطفة – الحضور والغياب)؛ فوفقًا لتعبير د. إمام أن كل هذه ثنائيات تشكل أقطابًا وأضدادًا داخل النفس البشرية تتصارع مع بعضها البعض، ويفوز دائمًا كل قطب فيهم على الآخر لا شعوريًا، ثم يترجم هذا الفوز على شكل نصوص أدبية، وبالتالي صارت وظيفة الناقد أو الفيلسوف هي قراءة ذلك اللاشعور وهذه الصراعات النفسية داخل الإنسان قبل قراءة نصوصه ، ومن ثم فأي نتيجة يصل إليها الباحث سوف تضرب الإيمان الميتافيزيقي مباشرة أو خيال الإنسان بشكل عام ، الذي هو قائم على صراع تلك الأَضداد بالأساس، مما يعني أن الفيلسوف التفكيكي هنا مضطر لاستخدام الديالكتيك كوسيلة للعلم في ظل فقدان المعلومات عن ذلك اللاشعور.
وبالتالي فالتفكيكية هي منهج يغلب عليه الطابع الجدلي العقلي لرصد تكوّن أي ثقافة في المهد، لأن الثقافات الشائعة عند جاك دريدا هي مجرد استنتاج خاطئ لعلاقة “الكلمة بالمعنى”، وهذا تفكير قديم ميّز العصر الشمولي الذي ثارت عليه “فلسفات اللغة”، ومن ثم صار البحث من جديد عن علاقة الكلمة بالمعنى هو الشغل الشاغل له؛ فالمعتقد القديم بأن الكلمات توصل المعنى وأنها حاضرة في الذهن بلا غموض أو التباس هو معتقد خاطئ أدى في نظر دريدا لانشقاق البشر في تأويل النصوص لدرجة العداء وعدم إمكانية التفاهم؛ فالبشر يتحاربون – وفقًا لدريدا – على معانٍ راسخة في أنفسهم وليس على كلمات وألفاظ في الواقع، لأن تلك المعاني التي يتحاربون عليها وضعوها للتقييم وفقا لعقائدهم السياسية والأيدلوجية وأعرافهم الاجتماعية السائدة، فأصبح تقييم الإنسان لتلك المعاني هو الذي هيمن عليها وضيقها عن سعتها الافتراضية التي هي مرتبطة بالتأكيد بمعانٍ أخرى في ذهن الآخر.
التفكيكية منهج يغلب عليه الطابع الجدلي العقلي لرصد تكوّن أي ثقافة في المهد، لأن الثقافات الشائعة عند جاك دريدا هي مجرد استنتا
ولتوضيح مقصد دريدا – من وجهة نظري – أضرب مثالًا على ذلك في الفكر الإسلامي، وهو أن المذاهب الإسلامية كانت كثيرة وراسخة جدا قبل القرن 19 م؛ فكل من يتدين هو يفعل ذلك بناء على مذهب ضيق وليس على الإسلام الواسع، والسبب الذي رآه دريدا أن النصوص المقدسة والمتداولة لها معانٍ متباينة بشدة ومختلفة بالنفوس، ويحكمون عليها لا شعوريًا وفقًا لأعرافهم الاجتماعية والسياسية وثقافتهم السائدة؛ فالمعنى الذي يفترض أنه مرتبط باللفظ وفقًا لأفهامهم (غير موجود أو وهمي)، والكلمة التي ينطقونها صوتيًا أو يهمسون بها في القراءة لا علاقة لها بالمعاني المتخيلة في أذهانهم أيضًا، ومن ثم حدث الانشقاق المذهبي لدرجة تكفير المذاهب لبعضها البعض.
منذ القرن 19 بدأت تختفي أو تضعف هذه المذاهب لحدث هام جدًا جدًا وهو (الثورة الصناعية)؛ فالآلة التي دخلت في حياة الإنسان (وحّدت الإدراك) بشكل كبير، وأدت لتصور واحد لضرورة إمكانية التعامل مع تلك الآلات؛ فالسبب في اندثار المذاهب الإسلامية (المالكي والحنفي والشافعي والحنبلي كمثال)، أو عدم التعصب لها كما كان يحدث في السابق هو دور الآلة الصناعية الذي سيطر على إدراك المسلم وأدى لتقريب المعاني ، هنا نجد أن عنصرًا ماديًا هو الذي وحّد الإنسان وأدى لخفض حماسه لمعتقداته القديمة مما يصحح كثيرًا من فلسفة كارل ماركس ورأيه المشهور في أسبقية البناء التحتي المادي على البناء الفوقي المثالي، ولم يعد المسلم في حاجة لاكتشاف معانٍ لا شعورية متصارعة كي يفهم علاقتها بالكلمة الأم؛ فالأولى حدثت بفضل السياسيين الذين أنجزوا هذه الثورة الصناعية، بينما الثانية كانت علاجًا طرحه جاك دريدا لتقريب وجهات النظر والكشف عن المعاني الخفية للكلمات.
إن ما يميز الفلسفة التفكيكية هي “البحث النفسي”؛ فهي لا تعطي اعتبارًا كبيرًا للمادة في الحس كي نحكم عليها بناء على تصور ظاهري؛ بل هي تطعن في صدقية ذلك التصور عن طريق محاكمته والبحث في دوافعه الخفية، وهنا أعاد التفكيكيون اعتبار الفلسفات الغنوصية ومذاهب الإشراق التي كانت تقف على مركزية الروح، وترى أن تمثيل الآلهة والكون يبدأ في الروح أولًا، وبالتالي إذا ما كان علينا فهم الكون والإله عليه أن نفهم أرواحنا أولا، ومن تلك الزاوية أتذكر تنبؤات المفكر العراقي “خزعل الماجدي” أن المستقبل للإنسان سيكون مع الفلسفات الباطنية والغنوصية، وأن الأديان ستتعرض لموجات من التجريف العقلي عن طريق إخضاع كافة ظواهرها للبحث العقلي الروحاني والتأمل السلوكي (محاضرته مع أحمد سعد زايد على يوتيوب عن أساطير الأديان عام 2020) شيء أشبه بما عليه البوذيون والهندوس في شرق آسيا ، وما عليه الغنوصيون والأرواحيون في الشرق الأوسط وأفريقيا وأمريكا اللاتينية..
وبهذا الصدد كتب “أيان ألموند” دراسته في مقارنة فكر الإمام “محي الدين ابن عربي” بالفيلسوف “جاك دريدا” بعنوان (التصوف والتفكيك دراسة مقارنة بين جاك دريدا ومحي الدين ابن عربي)، ويتناول عدة أبواب منها موقف ابن عربي وجاك دريدا من العقل والقول باللامتناهي، وفهمت من كتاب ألموند- الشيق – بعض الأشياء منها أن التأويل الإسلامي الذي جاء به ابن عربي موافق لحد كبير ويثبت فلسفة جاك دريدا من جهة (تكاثر المعنى)، وأن اللفظ بحياله لا يمكن أن يكون مجردًا أو مفهومًا معياريًا كونه يدفع الباحث للتعصب إلى أحد تلك المعاني وترك الأخرى وإهمال فكرة التكاثر نفسها، وإنكار أي استنباط للمعنى يحدث من جهة خصومه أو معارضيه، أو حتى من هم على رأيه لكن يرون وجاهة تأويل اللفظ بشكل مختلف.
ولا عجب أن التفكيكية هنا تنتقد ظاهرة الاستعمار من وراء وراء؛ نظرًا لرفع المستعمرين شعارات عصر الأنوار العقلية التي تتميز بوحدة الأنساق والبنيات والقول بإمكانية فهمها بشكل مجرد، فلم أر لفلاسفة التفكيك موقفًا واضحًا وحازمًا منه مثلما رأينا لفلاسفة التحليل، ولكن نقد التفكيكيين لمنتجات الاستعمار ومآلاته كان واضحًا في ضرب المنهج العقلي الذي قامت عليه كثير من فلسفات الأنوار، منها المبدأ الديكارتي الشهير “أنا أفكر إذن أنا موجود”؛ فالفكر المستنير تحول وفقًا لفلاسفة ما بعد الحداثة إلى سلاح يضربون به الخصوم ويسحقون به الضعيف ويحتلون به أراضي الغير، ويستعبدون شعوب هذه الأرض ويحتكرون به المفاهيم ، حتى ظهرت ألفاظ وكلمات تعبر عن المجتمع البشري في الظاهر، لكنها في الجوهر والمضمون تعبر فقط عن مصالح أوروبا الغربية، وأنقل هنا نصًا من صديقي د أشرف منصور، أستاذ الفلسفة بكلية الآداب جامعة الإسكندرية في مقاله على الفيس بوك بتاريخ 29 نوفمبر الماضي ليحكي معالم هذا الصراع:
“إذا كان علم الاجتماع يدرس “المجتمع”، فإن تيار ما بعد الحداثة يرفض كل التصورات الكلية المجردة، بما فيها تصور “المجتمع”. يقف هذا التيار الفكري (الذي يتمثل في أعمال كثير من المفكرين؛ ومنهم فوكو ودريدا وليوتار وبودريار) ضد كل التصورات الكليانية holistic، أي التصورات العامة والمجردة والتي تختزل التنوع والاختلاف، وتخفي التناقضات والانشقاقات، ويهتم بكل ما هو عيني وجزئي وملموس، في سبيل تصور مجرد عن “الكل”. ولذلك مثَّل هذا التيار تهديدًا خطيرًا لعلم الاجتماع، لكونه يطعن في الشرعية العلمية والمنهجية لمقولة “المجتمع”. انتهى.
والمعنى من كلام د. منصور أن البشرية بحاجة لثورة جديدة تؤمن بالتنوع والاختلاف، وحرية الانشقاق دون عقاب أو احتكار مفاهيمي. مثلما تنشق بعض الدول عن مصالح أوروبا الغربية فتصبح متهمة أنها منشقة عن المجتمع الدولي، وهكذا جرى اختزال المجتمع الدولي والإنساني بمصالح حكام أوروبا الغربية والولايات المتحدة، ولو أن الدكتور منصور لم يصرح بهذا الرأي، لكن شرحه لمعالم عصر ما بعد الحداثة أقدم فيه على اختصار رؤية جاك دريدا للعالم، والتي من أجلها ثار السؤال: هل الحداثة أدت إلى التحرر فعلاً أم إلى عبودية بشكل آخر؟ وهنا أطرح الجواب على لسان الدكتور إمام عبدالفتاح وهو يحكي نظرة الفيلسوف الفرنسي “جان فرانسوا ليوتار” (1924- 1998م) لعالم ما بعد الحداثة:
إذا كان علم الاجتماع يدرس "المجتمع"، فإن تيار ما بعد الحداثة يرفض كل التصورات الكلية المجردة، بما فيها تصور "المجتمع
“إن جان فرانسوا يُقوّض أسطورة أساسية حاسمة؛ وهي فكرة التقدم التي سادت منذ عصر التنوير؛ فقد ورثت الحداثة في القرن العشرين بسذاجة وبطريقة مشؤومة إيمان عصر التنوير وحكاياته العظيمة عن التحرر وثراء الخلق والحقيقة الكلية، ويذهب ليوتار في كتابه “وضع ما بعد الحداثة” عام 1979م إلى أن هذه الحكايات العظيمة عن تنظيم المجتمع عقليًا قد انهارت؛ فقد عانينا من الفاشية ثم رأينا نهاية الشيوعية، ونشاهد الآن أساليب المافيا في الاقتصاد وجشع السوق الحرة والكوارث البيئية على اتساع هائل، فإذا كانت هذه هي النتائج النهائية للعقل الموضوعي فلابد أن يكون هناك شيء خطأ” (أقدم لك الفلسفة صـ 169).
هكذا الإنسان الحائر برغم إنجاز الحداثة الهائل والتاريخي وغير المسبوق؛ إلا أن مشاكلها لم تصمد أمام سؤالاته، وتحديات البقاء هي العامل الأبرز لنقد الحداثة ليس كفرًا بإنجازها الصناعي والعلمي والحضاري الهائل، ولكن لمآلات هذه الحداثة التي خلصت إلى سيطرة فئة محدودة على العالم، وشيوع الجهل بتاريخ الشعوب مقابل تقديم الأولوية للعلم التجريبي المادي. وهو الذي أثار حفيظة مفكري التفكيك الذين أعادوا الاعتبار للنفس البشرية مرة أخرى، ونادوا بضرورة عدم إهمال العقل لصالح العلم، لأن منظومة العلم لن تستمر دون نظام عقلي، وسيظل العلم مهددًا أو يصبح سلاحًا لفناء البشرية إذا غاب العقل واضمحلت الروح، ولم يُعَد النظر في تصورات الأخلاق والأدب مرة أخرى.
وهنا لفتة هامة في نقد فلاسفة التنوير المعاصر من أنصار ما بعد الحداثة للحداثة خدم الإسلام السياسي في الشرق الأوسط وآسيا بشكل كبير؛ فقد اعتمدوا على نقود هؤلاء للحداثة الغربية ورفضهم لأشكال الظلم والاستعمار والاحتكار الذي ميّز الغربيين، ولم يقولوا لأنصارهم إن هذه الانتقادات كانت عند أصحابها (نسبية)، أما الإسلام السياسي فهو مطلق الفكر؛ وبالتالي هو يراها نقودات (مطلقة) نزعوها من سياقها الجزئي الذي لم يعترف بحضارة غيرها على الكوكب إلى رأي آخر وهمي خدعوا به العرب والمسلمين. إن الغرب يعترف بهزيمته، وأن زوال حضارته في القريب العاجل أمر حتمي، وهكذا منّى الإسلاميون أنفسهم بقرب زوال الحضارة وليس هذا إلا استجداءً لرغباتهم وأمنياتهم في حكم العالم وعدم الاعتراف بقوة عالمية أخرى منافسة لتلك الجماعات.
وهنا الفارق بين النسبي والمطلق؛ فالحضارة جاءت بنسبية التفكير وحصرت جهود الإنسان في رصد الحواس والتجارب، ورفضت الإطلاقية الفكرية التي كانت تعني البرهنة النظرية على المعتقدات وفقًا لأساليب كلامية وفلسفية؛ فالمطلق مرتبط بشكل وثيق بالميتافيزيقي وعالم ما وراء الطبيعة، وهو عارض أساسي للتفكير الديني، بينما النسبي مرتبط بشكل وثيق بالفيزيقي التجريبي ومظاهر الأشياء وعلاقة تلك المظاهر ببعضها البعض، وهنا الفلسفة التفكيكية تتبع النسبي لا المطلق، فهي تحاكم التفكير البشري المطلق بالأساس وتطعن في إمكانية المعرفة بمجرد الادعاء والظنون أو القول بتمييز الأنساق والبنيات، وتبحث بملكات الفلاسفة الأدبية في تمثيل الواقع الحسي للنصوص وصدقية اللاشعور في مسؤوليته الجوهرية عن النص. المطلق أيضًا يبحث فيما يجب أن يكون؛ بينما النسبي يبحث فيما هو كائن بالفعل أو كان بالماضي لعلاقته بهذا الحاضر المتجسد، المطلق يبحث عن حقيقة ثابتة عبر الزمان والمكان لا تتغير؛ بينما النسبي لا توجد لديه حقيقة ثابتة في الزمان والمكان، وكل شيء عرضة للصيرورة والتغير الدائم.
وبرغم أن نقد التفكيكيين للحداثة نفع التيارات الإسلاموية المعادية للحضارة الغربية، إلا أن النخبة الفكرية لهذا التيار كانت ترى الفكر التفكيكي (عدميًا يُقوّض المعرفة)، وهذا الوصف أطلقه د. عبد الوهاب المسيري على منهج جاك دريدا بقوله: ” بدلًا من العقلانية المادية والاستنارة المنيرة ظهرت اللاعقلانية المادية والاستنارة المظلمة، وظهور التفكيكية (التقويضية) هو تعبير عن هذا الوضع؛ فكل شيء نسبي لا يمكن الوصول إليه، فهو غير محدَّد ومُرجأ؛ فكأن اللوجوس، بدل أن يتجسَّد في كل شيء على طريقة الحلولية الكمونية الواحدية، انسحب منه تمامًا وغاب واختفى (مات الإله) على حد قول نيتشه، ولكن ما يجمع الاثنين هو الصورة المجازية الأساسية للتجسد: فإما حلولية عضوية كاملة نتيجة التجسد الكامل، أو تشظ آلي كامل نتيجة لغياب التجسد”. (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية 1/ 310).
ويصف المسيري أيضا فلسفة جاك دريدا بنص آخر بقوله: “الفلسفة التفكيكية (ما بعد الحداثة) فلسفة تهاجم فكرة الأساس نفسها؛ (ولذا يُطلَق عليها بالإنجليزية أنتي فونديشناليزم anti-foundationlism) أي رفض المرجعية، وهي تحاول إثبات أن النظم الفلسفية كافة تحتوي على تناقضات أساسية لا يمكن تجاوزها، ومن ثم لا تصبح هذه النظم بذاتها طريقة لتنظيم الواقع؛ وإنما علامة على عدم وجود حقيقة؛ بل مجرد مجموعة من الحقائق المتناثرة فقط، وتصبح كل الحقائق نسبية، ولا يكون ثمة قيم من أي نوع. ومثل هذا التفكيك ليس مجرد آلية في التحليل أو منهجًا في الدراسة؛ وإنما رؤية فلسفية متكاملة، وهي فلسفة يؤدي التفكيك فيها إلى تقويض ظاهرة الإنسان وأي أساس للحقيقة” (موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية 2/ 62).
وبرغم أن نقد التفكيكيين للحداثة نفع التيارات الإسلاموية المعادية للحضارة الغربية، إلا أن النخبة الفكرية لهذا التيار كانت ترى الفكر التفكيكي (عدميًا يُقوّض المعرفة)
في النص الأول وضع المسيري معتقد وحدة الوجود كنقيض آلي للفكر التفكيكي، واللوجوس وفقاً للتعبير الفلسفي يعني الحقيقة الرمزية المطلقة أو معنى الحياة الكامن ، وجرى التعبير عنه بصور مختلفة في الفكر الديني والفلسفي ليس هذا مجال عرضه، ومختصر كلام المسيري في هذا النص أنه يرى التفكيكية مؤكدة للإلحاد الفوضوي الذي نادى به نيتشة في نظريته “موت الإله”، وذلك عن طريق القول بنسبية كل شيء وعدم القدرة على إحداث اليقين أو المعرفة المطلقة بأي شكل، وبصفته مفكرًا مسلمًا يميل للتيار الإسلامي وخصمًا شهيرًا للحداثة في مجمل أعماله؛ طبيعي أن يستند لرؤى بعض فلاسفة التفكيكية وما بعد الحداثة للحداثة نفسها، وهنا ازدواجية المعايير أو الانتقائية التي تميز غالبية – أو كل – فقهاء ومفكري الإسلام السياسي أو المنتمين للتيار الأصولي السلفي بشكل عام.
أما في النص الثاني فيؤكد وصف التفكيكية بالتقويض ويتهمها بمعاداة الإنسان وكافة المرجعيات، والسبب أن المسيري يفكر بشكل مطلق؛ فحكم على جاك دريدا أنه يهاجم أي أساس ولا يعترف بأي مرجعية، وبالتالي هو خصم للإنسان، وربما يردد المسيري هنا أقوال بعض خصوم التفكيكية؛ سواء من الفلاسفة البنيويين أو مفكري الأديان والأيدولوجيات المختلفة، فالبنيويون يرون إمكانية المعرفة، وبالتالي صنع الأساس والمرجعية الفكرية بناء على فهم علاقة عدة عناصر وأجزاء داخل كل بنية معرفية أو نسق ببعضها البعض؛ بينما ينطلق مفكرو الأديان والأيدولوجيات من مرجعيات ثابتة هي لديهم مطلق، فالخلاف هنا بين (إثبات ونفي)؛ مما يعرض أصحاب المنهج التفكيكي لسؤال صعب؛ أن النفي يلزمه إثبات، وأهم هذه الضروريات التي يجب إثباتها (أنت كإنسان)؛ فما وصلت إليه كفيلسوف تفكيكي ليس مجرد نقودات متناثرة عبثية أو شكًا فوضويًا سهلاً يمكن من خلاله ضرب أي فكر؛ إنما الأساس الذي ينطلق منه التفكيكي محكوم بدوافع أخرى نفسية واجتماعية غير ظاهرة، وما يخفيه التفكيكيون أكثر مما يظهرونه؛ فلا عجب إذن أن يتعرض أي فيلسوف تفكيكي أو مفكر بذات النمط لحملات من الطعن والتخوين والتشكيك في النوايا؛ خصوصًا من طرف المتعصبين المؤدلجين.
أخيرًا: يمكن وصف الخصومة بين التيار السلفي والفكر التفكيكي بأنها أكثر من اختصارها في ثنائية “الإيمان والإلحاد”؛ إنها نظرة كلية للأشياء؛ فالتفكيكيون يرون بحكم التجارب التاريخية والتراكم المعرفي وتطور الفلسفة وصيرورة العالم أن الحقيقة المطلقة ما هي إلا وهم، حتى في نطاق العلم المتغير. وبالتالي فمقولاتهم بالنسبية تصلح لأن تكون دستورًا دنيويًا عقلانيًا للحياة يُقوّض من حدة الصراعات التي هي قائمة بالأساس على “صدام المطلقات”؛ فلو آمنت الأطراف بأن ما لديها نسبي، لن تجد الدافع أو الحماسة التي تجرها للعنف أو الحروب، وسوف تتعامل مع قضايا العلم على أنها رؤى بحثية مرتبطة بالزمان والمكان وغاية ما وصل إليه الإنسان في الحِسّ ليس إلا، وأي منهج مختلف عن ذلك هو تحدٍ لقوانين الكون وغرق في مستنقع التاريخ دون مبرر، ومقاومة ساذجة للحقائق المادية ، وليس معنى قولهم بالنسبية أنه لا حقائق في هذا العالم؛ بل هي حقائق بالفعل، لكن الإنسان مجبر على الاعتراف بأن تلك الحقائق ليست نهائية وقابلة للتغير. والإنسان دون فضيلة الصدق سوف يقف ندًا لهذا الاعتراف مما يدفعه دفعًا لتكرار ما حدث في الماضي بغباء.
بينما الفكر الديني السلفي ليس مجرد خصم لهذه الرؤية التفكيكية؛ بل عدوّا لها، وتمثل الصراع بين الرؤيتين في العداء الملحوظ بين الأصوليين المسلمين وبين الحضارة الغربية ومنتجها المعرفي؛ فالسلفي يفكر بشكل مطلق ويبحث دائمًا فيما يجب أن يكون كحقيقة ثابتة نهائية لا تتغير، وطريقه – أدلته – للوصول إلى تلك الحقيقة ليست عقلية؛ بل تقليدية نقلية موروثة من أئمته في الماضي، وهنا يتسم الفكر السلفي “بالإطلاق والثبات والماضوية“، والتعصب لهذه الثلاثية دون تعديل أو إمكانية الشك، إضافة إلى انشغال السلفيين بالميتافيزيقا وما يتبعها من غيبيات تدفعهم للإيمان بصدق التنبؤات والخرافات والقصص الأسطورية، ثم القول بمعيارية كل هذه الأشياء وجعلها حَكَمًا على الوجود البشري ومعاقبة وتكفير كل من ينكرها، مما يتبدى لنا أن ما يحدث ليس مجرد صراع بين أديان في الواقع؛ بل بين بشر يعيشون بكامل وجدانهم في الماضي السحيق وبشر آخر يفكر بشكل تقدمي نسبي ويعيشون بوجدانهم في الحاضر والمستقبل، ويرون معيارية التجارب والاستدلال العلمي والعقلي واعتبار كل هذه الجوانب نسبية القول بمعياريتها ليس مطلقًا؛ بل قابلاً للتعديل حين ظهور أدلة وحقائق جديدة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
مقال رائع، ولكن يحتاج إلى تفكيك وإعادة القراءة للوقوف على حقائقه النسبية، وبغياب المرجعية يبقى كلام لا يُحكم عليه أو يُتحاكم إليه، بل فقط للاستمتاع به لحظة قراءته.