السنة والشيعة، تاريخ من الافتراق والتشاحن السياسي والعقدي، ثنائية إسلامية خالصة، ولدت من رحم التجربة التاريخية وشكلت واقع المسلمين إلى اليوم، وخلقت إشكاليات عديدة ملأت كتب التاريخ وشحذت أقلام منسوبي كل طرف للهجوم والجدال.
وهيمن عليها طابع العداء وقليل من التعايش، لكنها تعرضت للنقاش حينما واجهت خطرًا واحدًا تمثل في الصدمة الحضارية والعسكرية التي هددت العالم الإسلامي منذ القرن التاسع عشر، واشتدت في القرن العشرين وما تلاه. وما تبع ذلك من التجارب السياسية الدستورية والمطالب القومية، والصراع العلماني – الديني، فيما عُرف بعصر النهضة العربية.
وردًا على هذه التحديات ظهرت حركات فكرية وإصلاحية في العالم الإسلامي، كان أبرزها حركة الإصلاح الإسلامي التي نعرفها بأسماء مثل؛ المصلح العابر للمذهبية جمال الدين الأفغاني، ومن العالم السنّي؛ محمد عبده، ورشيد رضا، وعبد الرحمن الكواكبي، وجمال الدين القاسمي. وعند الشيعة لمعت أسماء؛ الملا الشيرازي، والآخوند الخراساني، ومحمد سعيد الحبوبي، ومحسن الأمين. واحتل سؤال العلاقة بين السنة والشيعة حيزًا كبيرًا في تجربة الإصلاح، في ظل وحدة المخاطر والأماني؛ فطرحوا دعوات التقريب بين المذهبين، فما هو مسارها؟ وما هي مآلاتها؟ وكيف تفاعل الطرفان في دعوة الإصلاح؟
تفاعل إصلاحي سني – شيعي
وترتبط دعوة الإصلاح الإسلامي باسم الأفغاني وتلامذته في التاريخ الإسلامي الحديث، الذي اُتفق على تحديده بالحملة الفرنسية على مصر عام 1798، إلا أنّ الشيعة كانوا أسبق في الإصلاح الديني؛ حينما ساد التيار الأصولي (الداعم للاجتهاد) على التيار الإخباري (المتمسك بالنصوص الحرفية) في الوسط الديني، مما عكس انتصار الفقه المرن المناسب لعالم متغير على حساب الجمود.
وأدت وحدة التحديات إلى تأثر السنة والشيعة بما يحدث لأي منهما؛ بدايةً مع الأفغاني ذي النشأة الشيعية، الذي كان العالم السني محط دعوته بشكل أساسي. وتأثرت النخبة العراقية بدعوة الإصلاح التي بدأت في مصر ثم سوريا. وقُرأت مجلة العروة الوثقى على نطاق واسع نسبيًا في العراق، وكذلك المقطّم والهلال، ومجلتا العرفان والمقتبس الشاميتان.
وأقام الأفغاني صلات مباشرة مع النخبة العراقية خلال إقامته في بغداد عام 1891، وكان ممن تأثر بدعوته عبد المحسن الكاظمي، ومحمد سعيد الحبوبي، اللذان حثهما على ضرورة مقارعة الاستبداد بأنواعه، وتبني سبل الإصلاح، وتطوير وسائل التعليم، والتصدي للنفوذ الأوروبي.
وتأثر هبة الدين الشهرستاني بدعوة الشيخ محمد عبده الإصلاحية في الاقتصاد، التي طالب فيها المسلمين بالاستثمار في المصارف المصرية، وأطلق الشهرستاني دعوة شبيهة، ومنها أخذ الفائدة من صناديق التوفير. كما تأثر الشيخ محمد حسين النائني بدعوة الكواكبي إلى محاربة الاستبداد، وألف كتابه “تنبيه الأمة وتنزيه الملة”، نظّر فيه فقهيًا للدستور، ودعا إلى وجود حكم إسلامي في ظل غيبة الإمام يلتزم بالدستور.
وفي جبل عامل (جنوب لبنان) واجه الشيعة نفس التحديات، وشاركوا في تجربة الإصلاح الإسلامي، والقومية العربية وغيرها، وتفاعلوا بقوةٍ مع الإصلاحيين السنة في دمشق والقاهرة.
الدعوة الإصلاحية في النجف
وتحتل مدينة النجف أهمية كبيرة عند المسلمين الشيعة لاحتوائها مقر المرجعية الأولى، وأهم المدارس العلمية، كما أنها مقر كبار رجال الدين. وتنبع أهمية النجف وكربلاء من نفوذهما الهائل على ملايين المسلمين الشيعة، لوجود المرجعيات. وتأثرت المدينتان بالتطورات الفكرية والسياسية التي عاشها العالم الإسلامي؛ ومنها الثورة الدستورية في إيران والدستور العثماني.
وظهر في النجف تياران؛ الأول عُرف باسم تيار المشروطة الذي كان يدعو إلى نشر الدستور وتفعيله، ويناهض الحكم الاستبدادي، وتزعم هذا التيار رجل الدين، محمد كاظم الخراساني (الآخوند)، وانضم إليه الميرزا حسين الخليلي والشيخ محمد حسين النانئي والشيخ فتح الله شيخ الشريعة الأصفهاني، والسيد هبة الدين الشهرستاني وغيرهم.
ونال هؤلاء تأييد معظم مثقفي النجف من دعاة الإصلاح، وشكلوا لجنة سميت بـ (هيئة المجتهدين) برئاسة الشيخ الخراساني، كانت مهمتها مراقبة تطورات إعلان الدستور في إيران، وتقديم كل مساعدة ممكنة.
أما التيار الثاني فهو تيار المستبدة، ويعارض الدستور، والإصلاح السياسي، وتزعمه المرجع محمد كاظم اليزدي الذي قال: “إن مصلحة الدولة يجب أن تكون بيد شخص مسؤول عنها لا يشاركه مشارك ويحتج برأيه “، ويتشابه ذلك مع فكر آية الله الخميني ونظام الحكم في إيران اليوم.
وجاء صدور الصحف في النجف كأحد ثمرات الإصلاح؛ فصدرت مجلة الغري باللغة الفارسية عام 1909، وهي مجلة إصلاحية تعني بالنظم الدستورية، وتحديث المجتمع الإسلامي، وصدرت أول مجلة بالعربية وهي مجلة العلم، وحملت بين طياتها الأفكار الإصلاحية التحديثية، وكان صاحب الامتياز ورئيس التحرير محمد علي الشهرستاني.
وعرفت مكتبات النجف الكتب الصادرة في مصر وسوريا، ولاقت هذه الكتب إقبالًا كبيرًا من القراء، وشهدت النجف افتتاح مدارس حديثة تعني بتدريس اللغات الأجنبية، وحازت على دعم رجال الدين الإصلاحيين، وعلى رأسهم الملا الآخوند، الذي أجاز صرف الحقوق الشرعية على أمثال هذه المدارس.
وتأسست أول مطبعة في المدينة عام 1907، وافتُتحت العديد من الجمعيات العلمية والإصلاحية؛ منها نقابة الإصلاح العلمي 1905، وجمعية العلم 1908 التي اهتمت بنشر العلوم والقيم الإصلاحية.
ثنائية الإحياء والتغريب
وشهد العراق الصراع الثنائي بين الإصلاحيين الإسلاميين من جهة، ودعاة التغريب من جهة أخرى، وفي مصر حاز دعاة التغريب مكانةً كبيرة، وأصدروا مجلات عديدة حملت أفكارهم، وكان من بينها مجلتا المقتطف والهلال، اللتان نشرتا نظرية التطور، وغيرها من المواد التي أثارت نقاشًا واسعًا بين التيارين.
واشتبك الإصلاحيون العراقيون؛ شيعةً وسنةً في النقاش الفكري الكبير مع نظرائهم التغريبيين من العراقيين والعرب، وجمع كل تيار مفكرين من الطرفين، فقد كان المفكر الإصلاحي السني نعمان الآلوسي والمفكر الشيعي محمد جواد البلاغي والشيخ آغا رضا الأصفهاني ممن تصدوا للرد على مقالات شبلي الشميل عن نظرية التطور.
شهدت الساحة الشيعية أيضًا الصراع بين دعاة القومية العربية ودعاة الوحدة الإسلامية، وهو الصراع الذي شهده العالم السني، ومن دعاة الوحدة في العالم السنّي
والتقى الإصلاحيون السنة والشيعة في المطالبة بالإصلاحات القانونية والدستورية، والتصدي للغزو الاستعماري، في إطار بقاء الدولة العثمانية كتجربة سياسية إسلامية، وعلى مستوى المنهج اشترك فريق الإصلاحيين في رفض السلفية اللا منطقية، وكذلك التقليد الأعمى للغرب، وعملوا على إحياء التراث الإسلامي وفق الأساليب التربوية الحديثة.
وشهدت الساحة الشيعية أيضًا الصراع بين دعاة القومية العربية ودعاة الوحدة الإسلامية، وهو الصراع الذي شهده العالم السني، ومن دعاة الوحدة في العالم السنّي؛ مثّل الأفغاني ورشيد رضا والألوسي وشكيب أرسلان وأبي الهدى الصيادي، بينما نادى أغلب المفكرين العرب في سوريا الكبرى والهاشميين في الحجاز بالعروبة.
ووُجد بين الاتجاه العروبي في العراق شيعةً مثل؛ محمد رضا ومحمد باقر الشبيبي وعبد المحسن الكاظمي وجعفر أبو التمن، وسنةً؛ مثل يوسف السويدي وابنه توفيق، بينما كان هبة الله الشهرستاني بعيدًا عن الاتجاه العروبي، وكذلك ناجي السويدي.
دعوة التقريب بين الفريقين
وتميزت الحركة الإصلاحية الإسلامية بالدعوة إلى التقريب بين السنة والشيعة، والتعايش السلمي بين الأديان، وجمع الفرقاء في هدف واحد وهو مواجهة الاستبداد والاستعمار. وعمل الإصلاحيون الشيعة على كسر الجمود مع السنة، وقطع الطريق على الدول الأوروبية لاستغلال الانقسام السني-الشيعي لتفتيت العراق، ورسم المجدد الميرزا حسن الشيرازي (1814-1895)، مفجر ثورة التنباك في إيران عام 1890 سياسة التقريب، وسار على نهجها خلفاؤه الإصلاحيون.
وقدم الشيرازي مثالًا على دعوته خلال انتقاله للإقامة في مدينة سامراء، ذات الأغلبية السنية، عام 1874. وحينما شرع في بناء مدرسته العلمية قام السنة ببناء مدرسة لمواجهته، بدعم من الوالي العثماني، إلا أن نقص التمويل لم يُمكنهم من إتمام العمل. ولجأ السنّة إلى السيد الشيرازي طلبًا للمساعدة فمد يده إليهم على الفور.
وحادث ثاني من حياة الشيرازي عكس إخلاصه لدعوة التقريب وقع عام 1893، وفيه تعرض شخصه إلى اعتداء من مجموعة من الغوغاء السنّة، ممن وقعوا ضحية الحشد السنّي المدعوم عثمانيًا ضد الشيرازي في سامراء، واتخذت بريطانيا من الحادثة ذريعةً للتدخل في الشأن العراقي، وبعثت قنصلها إلى سامراء لدعم الشيخ، إلا أنه رفض مقابلته، ورفض تحويل الحادث إلى صراع طائفي، قائلًا: “ما حدث كان نتيجة الصدفة، ولا أرى حاجة لدس أنف بريطانيا في هذا الأمر الذي لا يعنيها، لأنني والحكومة العثمانية على دين واحد، وقبلة واحدة، وقرآن واحد”.
تميزت الحركة الإصلاحية الإسلامية بالدعوة إلى التقريب بين السنة والشيعة، والتعايش السلمي بين الأديان، وجمع الفرقاء في هدف واحد وهو مواجهة الاستبداد والاستعمار.
وترجم الإصلاحيون دعوتهم للوحدة إلى حقيقة عندما تعرضت البلاد الإسلامية إلى خطر الغزو، مثلما حدث عام 1911 حين تعرض شمال إيران إلى غزو الروس، واحتل الطليان ليبيا، فقد صدرت دعوات إسلامية سنية/ شيعية لجهاد المحتلين، وصدرت الفتاوى عن المرجعية الدينية في النجف وكربلاء بالجهاد ضد الروس والطليان، واحتشد المجاهدون للمسير، وفي الحالتين حدثت ظروف غير مواتية أجلت المسيرات.
وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى شارك 15 ألف مجاهد شيعي – بناء على فتوى المرجعية – في معارك الشعبية وغيرها مع العثمانيين ضد بريطانيا.
برزت أسماء عدة بين الفريقين دعت إلى الوحدة، من أبرزهم رشيد رضا، الذي كرس صفحات عديدة من مجلة المنار لدعوات التقريب، وأيضًا لمقالات جدالية. كما دعم الإمام محمد عبده الشاعر العراقي المصلح الكاظمي بعد أن انتقل إلى القاهرة هربًا من تضييق دعاة الجمود والتقليد.
ودعا المفكر الشيعي الحبوبي (1849-1915) إلى المعرفة العلمية والعقلانية، وإلى الوحدة بين الشيعة والسنة، وكان من أبرز دعاة الوحدة، وبعد وفاته انقسم أتباعه إلى مدرستين: القوميين العرب، ومنهم الأَخَوان؛ محمد رضا ومحمد باقر الشبيبي، وعلى الشرقي وجعفر أبو التمن، والمدرسة الثانية كانت مدرسة الإصلاح الديني، وأبرز عناصرها كان هبة الدين الشهرستاني الذي أصدر مجلة العلم، والتي دافع فيها عن عدم وجود تناقض بين الإسلام والعلم.
وافتتح الشهرستاني مكتبة عامة ليتيح للجمهور الاطلاع على التيارات الجديدة في مصر وسوريا، وألف كتابًا حاول أن يُوفق فيه بين الإسلام والعلوم الحديثة والأساليب الجديدة في التفكير والمنطق، وأسس حلقة دراسية في جامع الطوسي في النجف الأشرف؛ درّس فيها العلوم الحديثة التي استمدها من المجلات والكتب المصرية.
وعمل محسن الأمين على تطبيق دعوته إلى التقريب، وبعد انتقاله للإقامة في دمشق، اهتم بحل الخلافات بين الفريقين وإزالة أسباب النزاع، ومن ذلك أنه جعل الأذان في مدرسته وجامعه بالأذان السني، وعين مؤذنًا سنيًا. وكان عبد الحسين شرف الدين صديقًا لرشيد رضا، وأحد أقوى الدعاة إلى التقريب.
المنار والعرفان .. جدل سني – شيعي
وكانت دعوة الإصلاح الشيعي في جبل عامل على اتصال أوثق بنظيرتها السّنية بحكم الموقع الجغرافي والاتصال الأوثق لغويًا ومصيريًا، وبرزت بينها عدة أسماء دعت إلى التقريب بين السّنة والشيعة، من أقدمهم زمنًا موسى شرارة ت 1886. واعتمد شرارة على تقريب وجهات النظر في المسائل الخلافية بين النخب من الفريقين، وعلى دربه سار حسن يوسف مكي.
واستفزت محاولات التقريب العديد من رجال الدين في الفريقين؛ فنشأ جدال بينهما حول القضايا المختلف عليها، وحدث تراشق بين مجلة العرفان كصحيفة للنخب الشيعية، مقابل المنار السنية، جذب الجدال دعاة التقريب أيضًا. وكتب رشيد رضا – جزئيًا – وجمال الدين القاسمي وعبد القادر المغربي ومحمد بهجت البيطار وشكري الآلوسي مقالات هجومية على العقيدة الشيعية، ورد حمد حسين آل كاشف الغطاء عليهم في العرفان، واشترك محسن الأمين في الجدل وعبد الحسين نور الدين وغيرهم.
تبنى رواد التقريب الدعوة إلى الوحدة السياسية مع بقاء الاختلافات العقدية، شريطة ألا يستفز أي طرف الآخر.
وشكلت مسائل الإمامة، وزواج المتعة، والموقف من الصحابة، مواطن الخلاف بين الطرفين؛ فدعا بعض السنة إلى تخلي الشيعة عن هذه المسائل، لكن الشيعة ردوا بأن ذلك يعني إلغاء أسس المذهب. وشكك عددٌ من الباحثين في دعوة التقريب بسبب انشغالها بالهم السياسي؛ فقد تبنى رواد التقريب الدعوة إلى الوحدة السياسية مع بقاء الاختلافات العقدية، شريطة ألا يستفز أي طرف الآخر.
إلا أنّ الجهود العديدة التي قام بها دعاة الإصلاح العامليّون الذين عاصروا سقوط الدولة العثمانية، وانخرطوا في نهج العروبة ثم نهج الوطنية، مناضلين في وجه الانتداب الفرنسي، قد جنوا ثمارها شيئًا فشيئًا مع قيام دولة لبنان، والاعتراف بالطائفة الجعفرية عام 1926.
ومنذ ذلك الوقت توطدت الصلات بين الشيعة والسنة، وعملوا في مشاريع ثقافية وسياسية مشتركة، واستمرت دعوة التقريب على يد كثيرين؛ من أهمهم محسن الأمين وعبد الحسين شرف الدين، وقويت على يد محمد جواد مغنية. وعلى صعيد آخر كان الهم السياسي سببًا في مشاكل التقريب، ففي إحصاء لبنان عام 1932 حث علماء السنة نظراءهم الشيعة والدروز على التسجيل بصفتهم مسلمين ليكونوا كتلة كبيرة مقابل الكتل المسيحية، إلا أن الشيعة بزعامة عبد الحسين شرف الدين – أهم دعاة التقريب سابقًا – رفضوا.
وإلى اليوم ما زالت دعوة التقريب تنبع من هموم سياسية، دون محاولات جادة لتنظير عقدي وفقهي يخلق بيئة للتعايش وتقبل الاختلاف، مما يفتح الباب على الصراعات السياسية للحشد الطائفي مثلما يحدث في العراق وسوريا اليوم.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.