منذ القرن الثامن عشر، سعت الكثير من بلدان العالم إلى تحديث الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية على النمط الأوروبي، واستنسخت ملامح الحياة الغربية من المؤسسات العامة إلى مظاهر الحياة الفردية، بُغْية تحقيق التقدم؛ إذ احتوت الحضارة الغربية آنذاك جميع العناصر التي جذبت الكثير من البلدان غير الغربية إلى النظر إليها كأنموذج للنجاح، حتى صار كل ما له علاقة بالغرب-الأوروبي، (الولايات المتحدة الأمريكية لاحقًا) أمرًا ضروريًا ومطلوبًا للتقدم.
مسيرة التحديث والتغريب
في بداية القرن الثامن عشر، حملت رحلة الملك بطرس إلى الغرب تغييرًا جذريًا لروسيا؛ من إعادة بناء الجيش واستقدام خبراء التسليح وبناء السفن والتقنيات والإدارة البيروقراطية، إلى الملبس، وكان أول شيء يقوم به بعد عودته إلى موسكو هو حلق لحى النبلاء وحظر ثيابهم الطويلة وقبعاتهم المخروطية. مع بداية القرن التاسع عشر، افتتنت اليابان في الأساليب الفنية والممارسات والمؤسسات الغربية في عهد “الإصلاح الميجي” ، وبدؤوا تحديث المجتمع الياباني مع الحفاظ على أساسيات الثقافة التقليدية. وتوسّلت الصين المفاهيم الغربية من الماركسية إلى الليبرالية إلى الاشتراكية.
مع مجيء القرن العشرين، جرت تعديلات واسعة في المجتمعات العربية والإسلامية. في تركيا، شمل التغيير جميع تفاصيل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع صعود كمال أتاتورك؛ إذ عمل على إعادة خلق هوية تركيا؛ فقام ببناء البرلمان والجيش، ومنع الطرابيش التركية واقترح القبعة ضمن عملية أوربة تركيا. الشيء نفسه في إيران الشاهنشاهية، حيث استُحدثت مؤسسات الدولة والحياة الاجتماعية، ومُنع ارتداء الحجاب
إذا ما عرف المسلم الهزيمة فلا بد أنه كان فاتر الهمة ومهملًا للواجبات التي فرضها عليه الخالق
في المجتمعات العربية، ودون الخوض في خصوصية كل تجربة من التجارب التحديثية الدولوية، اتسمت كل من مصر، تونس، العراق، سوريا، المغرب، جنوب اليمن، بتجربتها المختلفة، وأيدولوجيتها الخاصة، في استيعاب الحداثة.
التغريب الإسلامي.. سبب أم نتيجة للانحطاط؟
في كتاب أوهام الإسلام السياسي، يورد المفكر التونسي عبدالوهاب المؤدب من كتاب “المواقف” للأمير “عبدالقادر الجزائري” ، لقاءً في إحدى جلسات الأمير؛ حيث سأله أحد أصحابه القلقين على أثر الهزيمة على المسلمين، إذ “كانوا هؤلاء قد بدؤوا باستحسان النصارى (الغربيين) ويقتدون بهم في عوائدهم وألبستهم وكيفية أكلهم وشربهم وركبوهم؛ بل وفي جميع حركاتهم وسكناتهم وأحكامهم وشريعتهم. وباختصار، كانت هناك حالة من التساؤل المبكر عن المثاقفة التي كانت تشهدها البلدان الإسلامية بعدما دخل العالم مرحلة التغريب. لم ينم جواب الأمير عن أيّ حقد ولا رغبة في الانتقام؛ فبعدما قدم حجة فقهية معهودة (إذا ما عرف المسلم الهزيمة فلا بد أنه كان فاتر الهمة ومهملًا للواجبات التي فرضها عليه الخالق)، ثم بعد حجة نفسانية نابعة من حس سليم (من سنة البشر أن بسبب الإعجاب يقتدي المغلوبُ الغالبَ وقد يصل به الأمر حدَّ التكلم بلُغته ولسانه)”.
ويستكمل عبد الوهاب المؤدب بالقول: “منذ أن أدرك المسلم العُقم الذي يعيشه بات مفجوعًا بفقدان غَلَبته؛ ومن ثم فإن هذه الظروف لا تعود إلى الحقبة الاستعمارية كما في الاعتقاد السائد؛ فالهيمنة الإمبريالية التي خضعت لها معظم البلدان الإسلامية ليست سببًا لانحطاط المسلمين بقدر ما هي نتيجة له؛ فالمسلم لم يعد منذ قرون خلًاقًا في المجال العلمي، كما أنه لم يعد يسيطر على التطور التقني، وقد استغرقه الأمر قرنًا كاملًا حتى يصل إلى التحكم في التقنيات التي وصلته في مرحلة ما بعد الاستعمار، مرحلة أمركة العالم، وقد أباحت له هذا الإتقان المصنف في خانة الاستهلاك والتشغيل؛ لا في باب الإنتاج والاختراع”.
إذا كان التغريب قد ظهر وانتشر مع صعود الحضارة الغربية، باعتبار أن الاجتياح الثقافي ملازم لانتشار القوة، هناك مؤشر ذو زمنين يبين فيه “عبد الوهاب المؤدب” الانزلاق من الإعجاب بأوروبا إلى رفضها؛ فالشيخ رشيد رضا، تلميذ محمد عبده ووريثه الروحي، غير في آخر حياته رأيه في الوهابيين بعدما كان اعتبرهم أصحاب بدعة، “وقد كانت له الجرأة كي يُعدل عن موقفه عبر تقريظه لهم حتى قبل أن ينتصروا في الجزيرة ( ١٩٣٢) م، معتبرًا أتباع عبدالوهاب ممثلي السنة بعدما كان رأى فيهم أصحاب عقيدة منحرفة. غير أن هذا التراجع يكشف عن تطور لدى رشيد رضا في اتجاه موقف أكثر تحفظًا، بعيد عما حققه معلمه محمد عبده من اختراقات؛ خصوصًا فيما يتعلق بالغرب؛ فهو من جهته شدد مجددًا على أن من واجب المسلم أن يقاوم تأثير الغرب الأخلاقي عليه، وأن يواجهه بموقف أخلاقي يبنيه انطلاقًا من جذوره الخاصة. هذه الثغرة هي التي سيتوسع فيها في مرحلة ثانية حسن البنا (١٩٠٦-١٩٤٩م)، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين، الذي كان قد التحق في شبابه بالندوة التي عُقدت حول رشيد رضا، لدرجة أن “البنا” حاول إصدار مجلة معلمه “المنار” بعد وفاته. ويبدو من المؤكد أن رشيد رضا كان سيوافق على برنامج الإخوان السياسي (نظرًا إلى تطور عقيدته)، لكنه كان بالتأكيد سيتنصل من الطريقة العنيفة وغير الشرعية التي ذهب في اتجاهها الإخوان حين لجؤوا إلى العمل السري والاغتيالات السياسية”.
ولكي يطبق البنّا نظامه الأخلاقي الجديد، دعا في البرنامج الذي وضعه إلى التّخلي عن كل أشكال التغرب في التعليم، وطالب بأن تُلحق المدارس الابتدائية بالمساجد، كما رفض اعتماد أشكال المؤسسات الأوروبية في الحقل السياسي، رافضًا العمل الحزبي، ومتمنيًا أن يكون الموظفون من ذوي الإعداد الديني. وقد وصل به الأمر، مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، إلى حد التأكيد أن أمة الغرب هي في حالة سقوط، وأنه يرى فيها اختلاجات الاحتضار، وأن مسيرة التاريخ تقود إلى زوال الغربية، التي سيتحقق بعدها انتصار الإسلام بحسب المؤدب.
مع انتصاف القرن العشرين، تصاعدت الهويات التي تحدث عنها هنتنجتون في كتابه “صدام الحضارات”، الهويات الثقافية-العرقية والقومية والدينية والحضارية، ومع ظهور مراكز قوى جديدة أو دول مركز (بلغة هنتنجتون)، تلاشت الجاذبية الغربية وارتدت دول العالم إلى ثقافتها الخاصة. استطاعت بعض الدول الآسيوية تحقيق نهضتها؛ فأخذت تربط ثقافتها الخاصة بشروط النهضة وفقًا لهنتنجتون. ومع صعود الخميني، والحرب الأفغانية، واكتشاف النفط، انتشرت الدعوة إلى الأصل؛ إلى الدين، وشنت الجماعات الدينية في المجتمعات العربية حربًا على التغريب من أجل استعادة الهوية الإسلامية. وحسب هتنغتنون، فإن صحوة الثقافات المحلية ملازمة للنفوذ والقوة (اكتشاف النفط في الحالة العربية)؛ إلّا أن الصعود الأصولي الإسلامي لم يكن بالبساطة التي رسمها هنتنجتون في أطروحته؛ إذ تجاهل حقيقة أن الأصولية لم تظهر إلّا بمباركة أمريكية في دعمها للحرب الأفغانية.
الأصولية الإسلامية.. رِدّة سياسية أم اجتماعية؟
في الألفية الثالثة، شهدت الكثير من الدول العربية والإسلامية انقلابات إيديولوجية في المؤسسات والبنية الاجتماعية، وتناوب الاشتباك بين الفضاء الاجتماعي و والفضاء الرمزي؛ بحيث تحول نمط الحياة الانفتاحية، وهي الفترة التي وُصمت لاحقًا بالتغريب، إلى رمز للانحطاط لدى السلطة الإسلاموية، وبالشكل نفسه سيتحول النمط المتزمت للحياة الاجتماعية في عصر الأصولية إلى رمز للتبشيع في المستقبل.
هل صور الفتيات الأفغانيات بالتنانير القصيرة قبل طالبان أصدق صورة عن ماضيها السياسيّ؟
بالعودة إلى الماضي، ظهرت حركات التحديث في تلك المجتمعات على أنقاض حكم ما؛ حيث استلزم نموذج الحداثة المفروضة من أعلى إجراء انقلاب مسبق، والذي ترتّب عنه تفعيل الرقابة والقمع، وبالتالي نجد خلطًا واضحًا بين حرية الملبس، التي هي جزء من أوربة المجتمع كبرنامج سياسي، وبين الحرية الفرديّة؛ لأن الحرية السياسية ظلت محظورة. وحسب سبينوزا في “رسالة اللاهوت والسياسية”، فإن عافية المدن ونجاتها تكمنان في ممارسة حرية التفكير، وفي التعبير عنها ونشرها وتوزيعها. والمؤكد غياب هذه الممارسة للحرية.
الغريب أن الجماعات الإسلامية مارست نفس الشيء، ولكن مع تضييق الخناق على الحريات الاجتماعية أيضًا، وتفعيل الرقابة السياسية والاجتماعية معًا، وصولًا إلى الرقابة الذاتية على الفرد بالثواب والعقاب، وفرضت من أعلى نموذج حكم أكثر تسلطًا، واتخذت من أنقاض النظام السابق رمزًا سياسيًا، يُعرِّف بهوية الدولة الجديدة؛ بحيث صار كشف الحجاب (في إيران) أو سواقة المرأة (في حالة السعودية سابقًا) تحديًا مباشرًا للدولة.
التنورة السياسية
في أعقاب دخول حركة طالبان أفغانستان في العام ٢٠٢١، أُغرقت وسائل التواصل الاجتماعي بصور من الماضي لأفغانيات يرتدين تنانير قصيرة أمام جلببة الواقع بالسواد، وسبق أن تكرر الشيء نفسه في سوريا والعراق في أعقاب سيطرة داعش، في إشارة إلى مقدار الحرية التي كانت في الماضي وحجم الانحطاط الحالي، وهو بلا شك انحطاط اجتماعي وسياسي وثقافي وإنساني. ولكن هل كانت تلك الصور للفتيات بالتنانير القصيرة، أصدق صورة عن الماضي السياسيّ؟
في اليمن مثلًا، نستحضر دومًا صور يمنيات بتنانير قصيرة وشعر مكشوف من القرن الماضي مع كل قرار تعسّفي جديد لجماعة الحوثي ضد المرأة، على الرغم من تفشي العنف والإقصاء السياسي وحكم الحزب الواحد آنذاك؛ بحيث يتعذر الاستحضار لأنه مضلل بعض الشيء. على أن الواقع الذي يستلزم العودة إلى الماضي لفضحه وهو متخلف ومنحط، ولكن لا يمكن أن يكون زمن ارتداء التنورة القصيرة هو الفردوس المفقود؛ إذ لم تكن تقترن بالحرية التي ظلت مجهولة تمامًا؛ خصوصًا في شكلها السياسي، وبدلًا من تغيير المشهد الذي يفسح المجال أمام الانقلابات، وما يمنع عن ممارسة العقلانية حتى في زمن ازدهارها، يتحول زمن التنورة القصيرة، إلى شكل من اليوتوبيا.
إن المفاضلة نفسها بين الأنظمة السياسية في الماضي والحاضر، باستخدام رموز السلطة السياسية (الحجاب أو التنورة القصيرة)، يعكس شكل الانحطاط الحالي. ولكن تبقى أهميته بوصفه شكلاً من أشكال المعارضة والرفض لأهم رموز النظام وهويته السياسية؛ نعارض به وننشد عبره من أجل واقع أفضل لا بوصفه خلاصًا جماعيًا. وعلى كل فإن تجربة التحديث المجهضة، كما يكتب برهان غليون، “لن تموت من دون أن تخلف أثرًا، إنها سوف تترك راسبًا مهمًا، سوف يستمر في تثوير الشعوب العربية والتحكم بها في الوقت نفسه وبمصيرها، والمقصود هو الدولة الحديثة، ليس بما تمثله من قيمة أو روح أخلاقية أو برنامج سياسي؛ لكن بما هي أجهزة تقنية أو تقنيات حكم وإدارة“. ومن أجل تجنب ظهور السلطة المفروضة من أعلى، جديرٌ بنا أن ننشد الحرية في جميع أشكالها.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.