بحكاية امتدت لأكثر من ثلاثمئة عام، وجذور تغلغلت في شرايين الحياة، وتفاصيل تصنع الحاضر وتلون المستقبل أملًا وجمالاً وحضورًا يسلب القلب فتنة ورونقًا، يجلس الأخوان محمد وصالح عبد الرضا وابنه بهدوء بالغ على آلتهم الخشبية متقنة الصنع، والبالغ طولها ثمانية أمتار لينسجوا تاريخ منطقة ولدت الكثير من فناني النسيج على مر الزمن.
في منطقة “بني جمرة“، بين ما تبقى من ذكريات الصبية ودروس الأجداد وحزاوي الأمهات، تجد مصنعًا أسمنتيًا صغيرًا على الطراز البحريني الحديث على هيئة برستج، تحيطه مجموعة من الواجهات الزجاجية، والتي تعكس روعة ما ينتج كل صباح، مع ثلاث غرف تحمل سيرة صاحبها وخيوطه التي تتجاوز الألف وأكثر، بلمسة حانية وحكاية خاصة لكل قطعة، تحمل سرًا خاصًا لا يشبه غيره.
التقيت هناك بالحاج محمد الجمري، أكبر النساجين عمرًا، 56 عامًا، جالسًا على آلة المنوال وهو في شدة تركيزه يحيك كل خيط بمهارة فائقة في صفوف متواصلة بالغة الدقة والإتقان في سرعة عالية، خيوط تختلف في ألوانها وأنواعها بين القطن واللينن والصوف والحرير.
سألته عن بداياته في مهنة النسيج؛ فأجابني بابتسامة هادئة قائلًا:” بدأت صداقتي مع هذه الأدوات في العاشرة من عمري، كان أبي يصحبني معه لتعلم أبجديات المهنة حتى أتمكن من حفظ أسرارها في سن صغيرة، وأخلدها في ذاكرتي لأورثها، ككنز ثمين لأبنائي من بعدي، في طفولتي كانت المنطقة تعج بمصانع النسيج، والتي كانت جدرانها عبارة عن سعف وجذوع النخيل، تطورت بعد ذلك لتصبح صفائح معدنية بسيطة شبه مهترئة، يتجاوز عددها المئة، أما اليوم فلم يبق منها إلا مصنع واحد، وها هو أمامك مبني بشكل حديث، من يشتغلون في هذه المهنة الآن أربعة فقط، أنا وأخي وابني منهم”
أشار الحاج محمد لآلته وأضاف: جميع قطع الآلة مصنوعة من الخشب وبعض جذوع النخيل، ولم يطرأ عليها أي تغيير؛ إذ نستعين بالنجار لصناعة كل تفاصيلها من الألف إلى الياء، وبعدها نقوم بتعبئتها بالخيوط، خيطًا تلو الآخر، وهي عملية بالغة الصعوبة، تحتاج إلى يومين تقريبًا، ويختلف عدد الخيوط التي تجمعها كل آلة؛ فالمنوال الصغير يحمل 600 خيط، يتم ربطها في غضون ثلاث ساعات، بينما يحتاج المنوال الكبير ست ساعات أو أكثر.
ننتقل بعدها إلى مرحلة السداء، والتي نحتاج فيها ما بين 30 إلى 50 خيطًا تقريبًا بمختلف الألوان، لنمشي بها مسافة تساوي قياس المنتج الذي نريد صناعته”.
عمّا تغير بين الماضي والحاضر يخبرنا الحاج محمد: “إن التغيير كان في بعض أنواع الخيوط التي كنا نستخدمها، في السابق خيوط القطن كانت هندية، أما اليوم فالأنواع تطورت واختلفت، منها: القطن الصيني والتركي، إضافة للبوليستر والصوف وأنواع كثيرة لا حصر لها”.
كان أبي يصحبني معه لتعلم أبجديات المهنة حتى أتمكن من حفظ أسرارها في سن صغيرة، وأخلدها في ذاكرتي لأورثها، ككنز ثمين لأبنائي من بعدي
الحاج محمد Tweet
وعن الصعوبات التي واجهها في مهنته: ” كل المهن تخلق بصعوبات، لكن أكثر المشاكل التي واجهتنا صعوبة توفير الخيوط؛ إذ كانت مهمة شرائها تستغرق شهورًا؛ لاسيما أنها كانت تصلنا من الهند عن طريق الباخرة، وبعدها نقوم بصباغتها في المصنع، ما يعني أن الأمر لم يكن بهذه السهولة، مثل ما هي عليه اليوم”.
يرجع الحاج محمد بذاكرته لسني الطفولة ويتذكر حكايات أبيه: “حكى لي أبي أنه بسبب الحصار الذي فرض خلال ظروف الحرب العالمية الثانية وتوقف استيراد المنسوجات، ازداد الطلب عليها؛ فقد كان المصنع لا يتوقف عن نسج الأُزُر والجلاليب النسائية، وكذلك الرداء الأسود، وقد كان اللباس الأكثر شهرة في البحرين والقطيف في المملكة العربية السعودية، وتم تصدير بعضها إلى دول الخليج آنذاك”.
من جانب آخر، تحدث بابتسامة أصغر النساجين حبيب ابن الحاج محمد عن ذكرياته في صناعة النسيج قائلًا:” في أحد الأيام بينما كنت أتعلم مع جدي على الآلة، وفي منتصف العمل، مزقت القطعة، وهربت مسرعًا في الخارج، خوفًا من العقاب، لكن جدي تغاضى عن ذلك، ورجع يعلمني النسج من جديد”.
وفي أحد الأيام بينما كنت أتعلم ربط الخيوط في بعضها البعض، انفلتت المجموعة من يدي، ما يعني في عالم النسج أنني سأقع في مشكلة أكبر وهي تداخل الخيوط في بعضها البعض، فقمت حينها بسرعة كبيرة بدفنها في تلال الرمل، حتى لا أتعرض للوم وعتاب من الكبار”.
الحاج صالح؛ الأخ الأصغر للحاج محمد، حدثنا حول إقبال واهتمام الناس على المهنة: “كانت لنا مشاركة حاضرة في معرض إكسبو دبي، وكذلك طلب منا صنع قطع خاصة إلى المملكة الأردنية الهاشمية، كما عمل الوالد في هذه الحرفة لمدة ليست بالقصيرة في دولة الكويت، لكنه رجع بعدها”.
وذكر أن:” كان لنا تعاون مع مصممة اسكتلندية لتوفير الخيوط منها: الصوف الطبيعي، والكتان ” اللينن”، بشرط أن تكون جميع القطع المصنوعة لها، حسب الاتفاق بيننا”.
النسيج آخر ما تبقى من تراث بني جمرة، والحفاظ عليه ضرورة، فهو جزء لا يتجزأ من هوية وثقافة هذه الأرض
الحاج محمد Tweet
وعن الأشكال التي تصنع والأكثر طلبًا من جميع الجنسيات والأعمار، أشار بيده إلى قطع المصنوعة حديثًا: “إن المقلم والمبكر، بالإضافة إلى الرداء أي ” الردى” باللغة العامية، والذي تختلف أشكاله وألوانه، وإن كان الأسود سيدهم، والذي يمتاز بوجود الحاشية الحمراء في أسفله، والتي تشتهر باسم ” الأنجر”، إلا أنه كان هناك حضور خاص إلى الرداء الصبيعي، والذي يلبس في الأعراس؛ بالأخص ليلة الحناء، وهو أكثر القطع طلبًا ونفاذًا من المصنع.
كما ذكر أن للديكور حضورًا مميزًا بين منتوجاتنا؛ لاسيما الصوفية ذات اللون الأزرق والوردي والأحمر بتدرجاته، التي يستخدمها البعض للتعليق في زوايا المنازل، كما تلبسه الأخريات كلمسة أنيقة في فصل الشتاء، ما جعلنا نحيك أيضًا من نفس المادة حقائب يد نسائية، وهذا سر تجدد المهنة وحضور روح الشباب والتراث في آن واحد”.
من جهة أخرى، قال الحاج محمد:” إن النسيج آخر ما تبقى من تراث بني جمرة، والحفاظ عليه ضرورة، فهو جزء لا يتجزأ من هوية وثقافة هذه الأرض؛ فمن يتخاذل عن صون تراثه، لا يستطيع مواجهة الحاضر ولا المستقبل”.
من يرى هذه القطع الجمالية المنسوجة بأيدي بحرينية، لا يمكنه إلا أن يمتلئ فخرًا، ويفيض قلبه سعادة، كيف لا؟ وهذه القطع تحمل إرثًا يجسد كل معاني الثقافة والأصالة البحرينية، إنه الكنز الحقيقي الذي يجب الحفاظ عليه من قبل هذا الجيل، وأن يعلمه للأجيال القادمة، وهو الدور المنوط بحكوماتنا ومؤسسات المجتمع المدني المعنية بحفظ التراث في البحرين.