في منتصف ديسمبر 2022، قررت السفر إلى قطر، في الثلاثة أيام الأخيرة للمونديال، وجاءت الزيارة بعد أحد عشر عامًا على آخر مرة زرت الدوحة، كنت متحمسة للذهاب كغيري من البحرينيين، لتجربة أجواء جديدة، ومشاهدة حدث رياضي عالمي كبير يأخذ محله في بلد خليجي، قريب جدًا من البحرين.
لم يكن السفر سهلاً بسبب انقطاع الرحلات الجوية المباشرة بين المنامة والدوحة، وأيضًا بسبب استمرار العلاقات المتوترة بين البلدين إثر (الأزمة الدبلوماسية) المعروفة إعلاميًا بحصار قطر.
بدأ الحصار في 5 يونيو/حزيران 2017 لمدة أربع سنوات متتالية، وفرض من قبل أربع دول هي: السعودية والإمارات والبحرين ومصر، إلا أن الأزمة الدبلوماسية انتهت مع قمة مجلس التعاون لدول الخليج العربية التي عقدت في موقع ” العلا” التاريخي في 5 يناير/ كانون الثاني 2021.
اضطررت للسفر عبر جسر الملك فهد البحري، الذي يربط بين البحرين والسعودية، ويبلغ طوله نحو 25 كيلو مترًا، وشيد في 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1986، كانت رحلة ممتعة ، إلا أن الإجراءات كانت طويلة في جمارك السعودية عند الجسر، و أخرى عند الحدود البرية في الدخول والخروج عبر السيارة، ومن ثم الباصات المخصصة من جهة السعودية لدخول الحدود القطرية، حيث وجهة المونديال والجمع المتواجد من شتى الأعراق والجنسيات.
الرحلة البرية لم تكن سهلة بالصورة التي رسمتها في مخيلتي لكن في النهاية وصلت إلى الدوحة بعد تجاوز المساحات الصحراوية والمسارات الطويلة. وهنا كانت المفاجأة بالنسبة لي أنني لم أتعرف على هذه المدينة بنفس الهيئة التي كنت اعتدت عليها في زياراتي السابقة.
حظيت الدوحة بعدد جديد من المواقع الترفيهية والخدمية، بالإضافة إلى تطوير كورنيش الدوحة، تغيرت جذريًا وكل شيء أصبح مختلفًا.
كما أنجزت هيئة الأشغال العامة في قطر قبيل المونديال، ثلاثة أنفاق رئيسية تربط شرق الكورنيش بغربه، بالإضافة إلى مسارات للجري، وآخر للدراجات الهوائية.
تستشعر الاختلاف الذي حدث من الوهلة الأولى، وأنت تسير في حي ” مشيرب”، قلب الدوحة الذي جمع طرز وأنماط عواصم مدن العالم؛ من نيويورك إلى طوكيو وصولاً الى لندن وفيينا، في شكل المباني والمتاحف وهندستها، وتقاطع الشوارع والتنسيق الزراعي و مسارات القطار واللافتات ومقار وسائل الإعلام والمسرح والفن وغيره.
لم يكن الوضع هكذا قبل سنة 2012، ولم تكن هذه الأحياء تسلك عبر مسارات للدراجات الهوائية، ولا مدرجة أصلاً ضمن التخطيط السابق كما هي بالنسبة لشبكة قطارات المترو.
عند تواجدي في حي ” مشيرب” وجدت عدة خيارات؛ منها سلك الطريق إما مشيًا على الأقدام إلى “سوق واقف” المشهور بالمباني التراثية المجددة والأحياء القديمة، التي تعرف بالدارجة الخليجية والقطرية بــ ” الفرجان”. وهي أيضًا وجهة لفنادق البوتيك والمطاعم والمقاهي بكل أنواعها، أو تسلك الطريق بالدراجة الهوائية، ولن تجد ما يعيق تجوالك بالدراجة، لأن مسارات الدراجة الهوائية حالها كحال مواقع أخرى جديدة ومنظمة ومتوفرة على طول الأحياء والمدن الجديدة والنظيفة؛ مثل ” لوسيل” الواقعة في شمال الدوحة.
لوسيل، مدينة متكاملة تستوعب 200 ألف فرد، وتقع ضمن مشاريع التنمية المستدامة، وهي أول مدينة خضراء في قطر، كما تحتضن قلعة لوسيل التاريخية.
تعد القلعة ذات أهمية في تاريخ قطر بسبب ممارسة جاسم بن محمد بن ثاني الحكم منها، وهو مؤسس إمارة قطر، وحاكمها الثاني، بالإضافة إلى التميز المعماري للقلعة.
"لوسيل هو اسم لأحد أنواع الزهور النادرة التي تنمو في أرض قطر، ومنه اكتسب منه اسم القلعة التاريخية". كانت هذه إجابة أحد الزملاء القطريين عندما سألته: "ماذا تعني لوسيل؟"
تحتضن لوسيل أكبر ستاد كرة قدم في قطر، والذي شهد إقامة المباراة النهائية بين الأرجنتين وفرنسا في مونديال 2022. وهي اللحظات التي تثنى لي أن أعيشها وأشارك الفرح مع عشاق المنتخب الأرجنتيني عقب الانتصار على المنتخب الفرنسي. شاركت الكثير من الفرح مع أناس لا أعرفهم، لكن جمعتنا الدوحة وبشكل محبب في حدث لا ينسى.
الأكثر بهجة من مشاركة مباراة نهائية في كأس العالم، كان مشاركة الدفاع عن القضية الفلسطينية، خاصة بين الحضور من العرب، التي كانت عنوانا للمناصرة الإنسانية.
الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي في حفل الختام في مونديال قطر ٢٠٢٢ مرتدياً الكوفية الفلسطينية، يذكرنا بالفرق بين الواقع المرير وكرة القدم حيث يتساوى الجميع فلا قصف ولا تأشيرات ولا حواجز ولا تهجير ولا قتل
— #FreeAlaa (@Dima_Khatib) December 18, 2022
pic.twitter.com/yvcKp84k9q
ربما لم يتوقع الأجانب من البلدان الأخرى مشاهدة ما كان يجري من دعم تلقائي لفلسطين عبر حمل أعلام فلسطين وارتداء الكوفية الفلسطينية، ورفض التطبيع علانية مع وسائل إعلام الكيان الصهيوني، الذي وجد صعوبة في تقبل وجوده خلال المونديال متذمرًا من جراء ذلك في تقاريره الصحافية.
في المونديال كانت قطر سفيرًا للثقافة الخليجية، وعندما تبادلت الحديث مع سيدة أرجنتينية كانت تجلس بجواري في المترو، أثناء توجهي إلى ملعب لوسيل، وسألتني من أي بلد قدمت أنت؟ فأجبت ” البحرين”، وسألتها مبتسمة ” أنت أكيد من الأرجنتين”؛ فكل شيء ترتديه له علاقة بالأرجنتين” فضحكت.
أبدت السيدة إعجابها بقطر وبالخليج وبما شاهدته، وأكثر ما شدني في كلامها عندما قالت: ” أكثر ما أثار انتباهي الذهاب إلى المسجد للصلاة يوميًا في ساعات الفجر الأولى، وتعرفت أكثر على ثقافة الخليج من أكل وملبس الخ … فأنا أعرف قطر كما أعرف دبي والسعودية والبحرين”
ضحكت معي مع استمرار تدفق أعداد الناس داخل القطار وهي تدخل أفواجًا من كل محطة نقف فيها قبل محطة لوسيل، نظرت ضاحكة ومعلقة للسيدة الأرجنتينية الشابة “إنني أختنق من شدة الحماس”! وكان بالفعل القطار مكتظًا بالمشجعين قبيل حضور المباراة بصورة كبيرة جدًا.
شعرت بالفخر إثر مجمل كلام السيدة معي، يمكننا كعرب نقل صور مشرفة عن أنفسنا إلى الآخرين، خاصة مع حسن التنظيم والاستضافة من قطر، وهو ما شكك به العديد من الجهات والأشخاص، وحتى من بين هؤلاء المشككين كانوا عربًا.
التطور الذي رأيت في قطر من بنية تحتية وحسن إدارة، يؤكد أن سبب عدم التطور في البلدان العربية الأخرى، غياب الإدارة الناجحة التي تعتمد على تنفيذ رؤى استراتيجية ضمن هدف محدد بعيدًا عن فلسفة الأمن أولاً، وهي الفلسفة التي أهلكت بلداننا العربية ولم تنهض بها
من خلال رحلتي ومشاهداتي في الدوحة، أعتقد بأن هذا المونديال فرصة ملهمة لتصحيح صورة المواطن العربي والخليجي أمام نفسه؛ فقد ساهم المونديال في إبراز الهوية الخليجية والعربية بشكل مرضٍ وحضاري، فاق كل التوقعات والهجمات الشرسة بكل أنواعها.
صعد كأس العالم بالخليج وبصورة ستكون راسخة في أذهان كل من حضر وتابع المباريات؛ بل وفتح باب التفكير بالحصول على كأس العالم من قبل فرق المنتخبات العربية مثل المغرب.
الدوحة والمونديال قد يكون كل منهما نقطة بداية ملهمة أو خطوة في طريق الألف ميل لاستعادة الدور العربي في صنع الحضارة الإنسانية بمنطقتنا، التي لا ينقصها موارد بشرية أو مادية للنهوض؛ بل رغبة وحسن إدارة وتخطيط.
كاتبة وصحافية بحرينية، درست في مدارس الكويت والبحرين، والجامعي في بريطانيا، وعملت في صحف محلية وعربية ووكالات الأنباء العالمية مثل الأسوشيتدبرس وإذاعة مونت كارلو الدولية. صدر لها كتابين مع مجموعة من الكتاب والصحافيين باللغتين العربية والاسبانية في العام 2015 وآخر في العام 2022
Muwatin Media Network
Beyond Red Lines
United Kingdom – London
Muwatin Media Network
Beyond the Red Lines
United Kingdom – London
Contact us:
Executive Director and Editor-in-Chief:
Mohammed Al Fazari
All rights reserved to Muwatin Media Network ©
شبكة مواطن الإعلامية
ما بعد الخطوط الحمراء
المملكة المتحدة – لندن
للـتواصل معـنا: [email protected]
المدير التنفيذي ورئيس التحرير: د. محمد الفزاري [email protected]
لتصلك نشرتنا الشهرية إلى بريدك الإلكتروني
شبكة مواطن الإعلامية
ما بعد الخطوط الحمراء
المملكة المتحدة – لندن
للـتواصل معـنا: [email protected]
المدير التنفيذي ورئيس التحرير: د. محمد الفزاري [email protected]
جميع الحقوق محفوظة لشبكة مواطن الإعلامية©