حين نسمع في الأرجاء العربية والإسلامية كلمة “أخلاق”، الغالبية تتحسس وتراقب وتتجسس على نفسها وعلى غيرها، من شكلها ولباسها وكلامها وصفاتها ولسانها وعفتها وطول شعرها وسيقانها، وما يخرج من الصدر والحجاب وكل ما يتعلق بالجسد فقط ولا شيئ غيره.
نشأت الأخلاق، أو بالأحرى النظام الأخلاقي أو علم الأخلاق، منذ قديم الزمان على يد الشعراء الحكماء في تجاربهم لوصف الطبيعة البشرية، وتقديم النصائح والمشورات على شكل قصائد، وبعدهم اليونانيون، أمثال سقراط، وغيرهم من السوفسطائيين، وصولاً إلى العصر الحديث الذي تفرعت منه عدة مدارس في تقديم التفسير الفلسفي والمادي والاجتماعي لماهية الأخلاق ودورها وقيادتها للإنسان، أو قيادته إلى الخير والشر.
لم تكن دراسة الأخلاق وتفسيرها بمعزل عن المفكرين العرب مثل ابن خلدون وغيره، الذي أشار إلى أن سوء أخلاق الشعوب مقدمة لسقوط الأوطان والمجتمعات.
توارى خلف مفهوم الأخلاق الكثير من المعتقدات والمفاهيم والأديان، حتى إن بعضها استملك معنى الأخلاق، وقدمه في صورة دينية لا يمكن أن يخرج منها أي أمر لم توافق عليه الشريعة (أيًا كانت). وبنفس الوقت، تم اعتبار كل خارج عن مفهوم الأخلاق في تلك الديانة، هو بالضرورة إنسان فاسد وساقط ولا يمكن أن ينال رحمة الله وغفرانه أو حتى جنته.
كيف استخدمت الأخلاق في المفهوم الإسلامي؟
يتم إلى اليوم استخدام هذا المفهوم في شيطنة المختلف وتقريب المطيع المؤمن حتى لو كان لصًا وفاسدًا وقاتلاً؟ في الحقيقة، يمكن اعتبار الأخلاق الفاسدة، مثالاً عدم الالتزام بالقانون والنظافة واحترام الآخرين وحرياتهم الفردية، من الأمثلة الغائبة في التفسير الإسلامي للأخلاق.
بينما انحصرت غالبية الأخلاق الإسلامية في جسد المرأة، وفي الطاعة والخضوع وفي تحسين صور الوصاية والمراقبة والقمع، وكل ما من شأنه أن يضع القيود والحدود على الناس وبينهم، بعيدًا عن تعاملاتهم الأخرى في مجال العمل والصدق والأمانة والإخلاص والالتزام بالمسؤولية. هنا لا يمكن لنا أن نضع الكل (كل العرب والمسلمين في هذه الدائرة)؛ فالكثير قد خرج أو رفض أو تغاضى عن المفهوم الإسلامي للأخلاق واستعاض عنه بالضمير والتعليم الجيد والتربية الحسنة في المنزل والعقلانية الفكرية.
مع الإدعاء بأن لهم أفضل منظومة أخلاق، وصلت الشعوب العربية إلى الحضيض
لم تكن الأخلاق يومًا ما وازعًا لدى الفرد (في الغالب)، في أن يعطي لأخته أو أمه أو حتى أبنائه المساحة في التحرك دون وصاية، أو دون قيود غير مناسبة، أو دون مراقبة وتجسس (خارج الإطار المسؤول)؛ فكيف يدعي البعض بأن أخلاقهم إسلامية عالية الجودة، بينما تعاملهم مع المختلف يغص بصور الازدراء والاحتقار والعنصرية والتفاخر والتعالي الفاضي؟
وكيف يدعي هؤلاء بأن إيمانهم يدعوهم إلى المعاملة الحسنة، وصلاتهم تدعوهم إلى البر والإحسان والتقوى، بينما تمتلئ مجتمعاتهم بالمراقبة والاعتداء والقتل والتطرف والإرهاب. وكيف يقول لنا بعضهم بأن تاريخهم القديم تاريخ أمجاد وفخر وقوة وصناعة وعلم، بينما تؤكد معظم الحقائق على أن هؤلاء العلماء في تاريخهم القديم قد تم قتلهم وحرقهم وشواؤهم وطردهم ونفيهم.
بالإضافة إلى طرح تساؤل جوهري هنا، مفاده أنه إذا كان تاريخهم تاريخ علم وفخر وصناعة، فلماذا تاريخهم الحالي مثير للشفقة، ووضعهم العلمي والفكري مخيف إلى درجة الجفاف والجهل والعدم، ومجتمعاتهم تعيش في الدرك الأسفل من العلم والإنتاج والإبداع والصناعة والفنون؛ فلا تتقدم أمة إلا باستلهام تجارب وعلوم ماضيها لتضيف عليها الكثير، وتطور من أدائها وعملها.
الحالة في مجتمعاتنا العربية ظلت معكوسة لعقود طويلة، لم نجد فيها إلا امتهانا للإنسان، وفقرًا مدقعًا بالعلوم ونفاقًا دينيًا وتشويهًا للأخلاق في إطارها العام والخاص.
إن ما تقدمه المدارس والمعابد الدينية والكتب الإسلامية، في تعريفها للأخلاق، يجب أن يعاد صياغته من جديد، يجب أن نعالج جذور مفهوم الأخلاق، وليس ما ينتج عنها باختلاف تعاطي الناس مع واقعهم وأزمانهم واختلاف قدراتهم الفكرية والنفسية وحتى العقائدية؛ فالأخلاق معنى يحدد للإنسان كيف يصبح ذا قيمة معنوية وشخصية في المجتمع؛ بمعنى أن يبتعد عن الشر ويحاول التقرب من الخير.
وتلك مهمة ليست بالسهلة أبدًا؛ فلا يمكن لفتوى دينية أن تحدد ما هو الخير والشر إلا من منطلقاتها العقائدية؛ بينما الخير والشر في العصر الحديث، هو ما تتوافق عليه التفسيرات العقلانية، وما يجتمع عليه أهل العلم والفلسفة وعلم النفس والإحصائيات الموثقة.
إن الأخلاق لا يمكن لها أن ُتغلف بغلاف ولباس ديني، حتى لا تكون مسيرة بمفهوم خاص يحث على ممارسة العديد من السلوكيات والتصرفات السيئة، لمجرد أنها مجازة فقهيًا. كما لا يمكن للأخلاق أن تدعو إلى الضرب والتفرقة والاعتداء لمجرد أن المضروب امرأة أو المعتدى عليه مرتد ومختلف وعبد.
الأخلاق لا علاقة لها بالسياسة والأديان والتاريخ؛ فالمواقف السياسية لبعض الدول لا يمكن أن نصفها بأنها غير أخلاقية لمجرد أن تلك المواقف لا تعجبنا؛ فالسياسة لها أبواب مختلفة ودهاليز عميقة وتحالفات وصفقات ومؤامرات واستيطان وغزو وخروج وإعادة استعمار، بطرق اقتصادية تجارية إعلامية، لا تكون فيها الأخلاق إلا بروبجاندا إعلامية يستخدمها الضعيف أو القوي في اتهام الآخر لإثارة الجماهير والعامة.
كما أن الأخلاق لا علاقة لها بالأديان والمعتقدات، والأديان رسمت صورة المؤمن داخل جماعته وتعامله مع الآخر والمختلف ضمن أخلاق محددة موسومة دائمًا بالانغلاق والتطرف والحذر، أو الخوف من الدول الأخرى التي لم تنضم إلى دائرة الإيمان. والأخلاق أيضًا لا علاقة لها بالتاريخ بالمجمل؛ فما حدث في تاريخنا الغابر كان نتاج صراع البقاء والأقوى والأفضل بالحياة والاستمرار والبقاء.
صحيح أنه قد حدثت مآسٍ كثيرة وعديدة للإنسان وللجماعات البشرية على شكل إبادات وتطهيرات وفواجع طبيعية واصطناعية، إلا أن التاريخ في صفحاته يذكر تلك القصص دون أن يلصقها بالأخلاق؛ بل يدعنا اليوم إلى ضرورة الاعتراف بالخطأ التاريخي، ومحاولة تحسين الواقع وتعديل صورة الإنسان الحديث بما يضعه على رأس الأولويات الاقتصادية والترفيهية والعلمية والفكرية.
الأخلاق موضوع لا يتعلق بما داخل قلبك من إيمان أو ما تشربه من مشروبات، أو ما ترتديه من ملابس أو ما تمارسه من حريات فردية؛ (سواء للرجل أو للمرأة)؛ فالمجتمع الأخلاقي هو ذلك المجتمع الذي يقدم صورة مبهرة لما يمكن أن يكون عليه غالبية الشعب مع ذروة انفتاحه وحرياته، إلا أنه متمسك بالأخلاق الإيجابية والقيم الإنسانية والعقلانية النقدية. والمواطن الأخلاقي، هو ذلك المواطن المؤمن بالتعايش والاختلاف والحب والحياة والتقدم والتطور؛ سواء لو كان مؤمنًا أو ملحدًا أو مغايرًا.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.