كانت فترة الخليفة العباسي المتوكل بالله (205 – 247 هـ) حاسمة في التاريخ الإسلامي، ومؤثرة للغاية في انتقال المسلمين من حقبة الاجتهاد التي ظلت 250 عام بعد وفاة الرسول، وظهر فيها الأئمة الأربعة للسنة، وبين حقبة القمع والاحتراب العقائدي التي نتجت عن اضطهاد فرقة المعتزلة ومحاكمة وقتل كل من يفتي برأيها.
في تلك الأجواء خرجت مذاهب اعتقادية ثائرة ومختلفة عن الاعتزال، واتسعت بتوسع السلطان السياسي للخليفة العباسي، وضاقت بضيق هذه السلطة؛ فكان من سعة تلك السلطة أن نشأت في كنفها مذاهب اعتقادية جديدة كالأشعرية والماتريدية، إضافة للحنابلة الذين اختاروا القطيعة مع كل الفرق الأخرى، وتميزوا عنهم بسمات تجمع بين الفقه والعقيدة، وهذا الذي جعل للحنابلة سمتا خاصا وهوية خاصة طوال التاريخ الإسلامي؛ ففي ظل جنوح الفقهاء الشافعية لعقائد الأشعري وفقهاء الأحناف لعقائد الماتريدي ظل الحنابلة على إخلاصهم وتعصبهم الشديد لإمامهم “أحمد بن حنبل” (164- 241 هـ)، رافضين كل أنواع الشراكة والحوار مع الفرق الأخرى؛ مما دفع بعضهم للعنف، كما حصل منهم ضد الإمام النسائي (215 – 303هـ) وابن جرير الطبري (224 – 310 هـ) على المشهور..
أما ضيق السلطة فقد حدث لهزيمة العباسيين وضعفهم بمقابل الأسرات الشيعية؛ مثل آل بويه وبني حمدان والموحدين والفاطميين وغيرهم، فظهر بكنف تلك السلطات مفكرو الشيعة وفقهاؤهم ومحدثوهم الأوائل..
بحلول القرن الرابع الهجري أصبحنا أمام مشهد انقسم فيه المسلمون لسلطتين؛ (سنية وشيعية) ظلت عدة قرون متصلة حتى عصر صلاح الدين الأيوبي، وبدون الدخول في أية تفاصيل تاريخية لشرح ما حدث، لكن هذا الانقسام كان يعطي دلالة بأن الصراع الفكري والسياسي بين المسلمين – حينها – كان على وجهين:
الأول “سني شيعي” والثاني “سني سني”؛ فكان الصراع الحاصل بين السنة يتضخم ويزداد عنفًا كلما اشتد الصراع بينهم وبين الشيعة، والسر في أن جنوح الفقهاء للعنف ضد إخوانهم في الدين يعطيهم رغبة وغريزة للعنف ضد إخوانهم في المذهب، لأن الفروق بين الدين والمذهب – آنذاك – لم تكن واضحة، والمختلف مذهبيًا كان يوصف بالكفر غالبًا، ونرى ذلك بوضوح في مصنفات فقهاء تلك الحقبة؛ أشهرهم الإمام “اللالكائي” المتوفي عام 418 هـ في كتابه “شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة”، وكذلك مصنفات الحنابلة الأوائل كابن بطة العكبري والبربهاري وابن خزيمة وأبي يعلي الفراء وغيرهم، وسار على نفس الخط الغزالي – لاحقًا – في فضائح الباطنية وكافة مصنفات الفرق والملل والنحل للشهرستاني والبغدادي وابن حزم..
كان ظهور الإمام “أبي منصور الماتريدي” المتوفى عام 333 هـ مؤثرًا في الفكر الإسلامي؛ فهو ابن المذهب الحنفي العتيد، والمشهور بتقديم الرأي والقياس على خبر الواحد، وهو ما لم يكن متسقًا مع طبيعة وجوهر مذهب السنة الذي سيطر عليه آنذاك فقهاء ورواة الحديث بعد انتصار المتوكل بالله، والذي كان يقول بأن خبر الواحد هو السنة المأمور باتباعها كافة المسلمين، وإنكارها في هذا العصر كان يعني إنكار القرآن، لذا ومنعًا لتكفير الأحناف من طرف السلطة العباسية، جنح فقهاء وتلاميذ أبي حنيفة منذ انتصار المتوكل لمهادنة أهل الحديث، والانخراط معهم في مذهبهم مع الاحتفاظ بكافة القواعد العقلية والأصولية التي عرفت عن أبي حنيفة، وقد حكى تفاصيل هذا الانتقال بالشرح والتحليل جورج طرابيشي (1939 – 2016 م) في كتابه من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث بدءً من الصفحة 273
كانت الماتريدية وسطًا بين الأشعرية والاعتزال؛ فقالت بأن للأشياء والأفعال حسنًا وقبحًا ذاتيًا يُعرف بالعقل لا النص. وهذا مصدر قولهم بوجوب معرفة الله بالعقل والتفكير لا النص
ولاختصار ما حدث؛ فقد توفي أبو حنيفة عام 150 هـ، وخلف عدة تلاميذ أشهرهم “أبو يوسف يعقوب الأنصاري” (113 – 182 هـ) و”محمد بن الحسن الشيباني” (131 – 189 هـ)، و”زفر بن الهذيل” (110 – 158 هـ)، لكن علاقة هؤلاء التلاميذ برواة وفقهاء أهل الحديث كانت جيدة ولم تكن متوترة مثل إمامهم، فاندفعوا لنقل الحديث والانخراط فيه مثلما رأينا في كتاب “الآثار” للشيباني، الذي عرض فيه أوجه الاتفاق بين مالك وأبي حنيفة بعشرات المسائل، كلها قائمة على الروايات ومنهجية أهل الحديث، ولمن يسأل كيف توترت علاقة أبي حنيفة بأهل الحديث؛ فالجواب نلقاه واضحًا في جرح أبي حنيفة من طرف المحدثين وتكفيرهم له واتهامه تارة بالإرجاء، وتارة أخرى بخلق القرآن، وآثار ذلك بالمئات في كتب “السنة” لعبد الله بن أحمد بن حنبل” و”تاريخ بغداد” للإمام الخطيب، والقول بأنه لم يكن يروي الأثر فيما هو مشهور هو تهمة كانت تكفي آنذاك لتكفيره وعدّه خصمًا كالمعتزلة.
رأينا أن هؤلاء التلاميذ اشتغلوا بالروايات، وصنف البعض منهم كتبًا “كالجامع الصغير والجامع الكبير والسير الكبير والسير الصغير والمبسوط” للشيباني، ثم جاء الإمام “الحاكم المروزي” الذي يلقبه الأحناف بالشهيد والمتوفى عام 334 هـ ليجمع كل هذه الكتب في مصنف واحد هو (الكافي)، ثم يأتي الإمام “شمس الدين السرخسي” المتوفى عام (490 هـ) ليشرح كتاب الكافي هذا في موسوعة فقهية بعنوان “المبسوط”، هي أحد أكبر الموسوعات الفقهية للأحناف منذ هذا التاريخ إلى اليوم، وبتلك الطريقة انتقل الأحناف لمذهب أهل الحديث، لكن ظلت بعض قواعد أبي حنيفة العقلية مؤثرة في عموم المذهب، ومن تلك القواعد والأًصول ما يلي:
أولاً: تقديم العقل والتفكير، أو بلغة زمانه (الرأي والقياس)؛ فكان يرى مثل المعتزلة أن القرآن مخلوق؛ أي هو كلام الله المحدث في الزمان والمكان، وليس أزليًا كصفة ذاتية للخالق. وهذا المعتقد لأبي حنيفة هو معتقد الفلاسفة والمثقفين إلى اليوم، وهو كلام العقلاء منذ أن بعث هذا الدين، ومعنى أن القرآن مخلوق يعني أن الإنسان مخير وليس مسيرًا، فلو كان صفة أزلية للخالق أصبحت أفعال الإنسان ليست له؛ بل منسوبة لله؛ وهذا عين معتقد الجبرية..
ثانيًا: كان أبو حنيفة لا يعمل بالأثر، وبلغة هذا الزمان؛ الأثر يعني (الحديث والرواية)؛ فاشتهر عنه أنه لا يقبل سوى 17 حديثًا عند ابن خلدون، وما زال تلاميذه من الماتريدية الأحناف يتشددون في قبول الروايات ويضعون شروطًا عسيرة للاستدلال بها على الأحكام خصوصًا في الدماء والعقيدة، وقد اشتهر عن أبي حنيفة أيضًا أنه (استتيب من الكفر مرتين)، وسُمعته عند الحنابلة ليست على ما يرام، والحنابلة الأوائل كانوا يشتمونه ويكفرونه، ثم إذا اشتعلت فتنة طائفية بين الحنابلة والأحناف خرج بعض المحدثين الحنابلة بأخبار مكذوبة فيها مدح ابن حنبل لأبي حنيفة كي تهدأ الأمور، لكن السلفيين المعاصرين حكموا على هذه المدائح بالضعف، وأثبتوا الاتهامات على أبي حنيفة، لكن ولكي لا يصطدموا بالعامة والسلطة قالوا (نعذره فيها)..
ثالثًا: اشتهر عن أبي حنيفة أيضًا قوله (بالإرجاء)، فعده الأوائل من فرقة المرجئة – انظر مقالي على مواطن بعنوان: “أَضواء على مذهب المرجئة الإسلامي” المنشور بتاريخ 20 أكتوبر 2022 -، ومعنى الإرجاء يعني رفض أبي حنيفة لتكفير الناس وإرجاء القول في معتقدهم لله في الآخرة، وقد تم التشنيع على المرجئة من طرف السلطتين الأموية والعباسية لهذا السبب. لأن السلطة حينها كانت (تكفيرية)، وتقوم فكرتها على حشد الجنود للجيش على أن العدو (كافر) منعًا لوصف السلطة بالباغية فيما لو كان العدو مسلمًا مثلما جاء في القرآن. وقد ورث الأحناف هذه الميول لإمامهم فضيّقوا من التكفير وكتبوا في عذر المخالفين سواء بالجهل أو التأويل.
رابعًا: تقديم (العمل) أًصوليًا على (اللفظ)؛ فإذا ورد حديث عن صحابي يردونه إذا فعل الصحابي بخلافه، وكذا على الحديث المرفوع للنبي. وأي راوٍ تسقط روايته إذا عمل خلافها، بالتالي فالحديث لا يصح لديهم إلا بالعمل، وهذا أصل مشهور في المذهب.. (انظر مقدمة كتاب “الغرة المنيفة في ترجيح مذهب أبي حنيفة” للإمام سراج الدين أبي حفص الغزنوي المتوفي عام 773 هـ).
خامسًا: يردون الحديث إذا أعرض عنه الصحابة، يعني إذا جاء بخبر الواحد ولم يحصل على الشهرة كان دليلاً عند الفقيه الحنفي بالإعراض فيردونه إذا كان في العقيدة والدم، ويقبلونه إذا كان بفضائل الأعمال. وهنا يظهر بشكل واضح أن الأصل لدى الأحناف هو العمل؛ فالحديث حتى لو كان ضعيف السند يقبلونه إذا كان طيبًا يحض على الفضيلة والبر وعمل الخيرات. وكذلك فالأصل لديهم هو الفقه لا الحديث، لأنهم مدرسة رأي بالأساس، فإذا وافق الحديث قاعدة فقهية أخذوه وإذا تعارض ردوه، والحجة في ذلك أن القاعدة الفقهية أخذت بالاستقراء والاستنباط من مجموعة أدلة، أما إذا وافق الحديث قاعدة فقهية وتعارض مع أخرى يكون الترجيح هو الحَكَم، ولو تطلب ذلك استخراج قاعدة فقهية أخرى تفصل بينهم.. (نفس المصدر)
سادسًا وأخيرًا: في أن ثوابت المذهب مبنية بشكل كامل على القرآن وما يتوافق معه من الحديث المتواتر والمشهور، ثم القياس العقلي هو الضابط لتلك المسألة، لأن الأصل الذي ورثوه عن أبي حنيفة أن العقائد لا تُبنى على الاحتمال والظن، ومعظم الآثار المروية عن الرسول والصحابة وآل البيت هي خبر واحد، فتبين بشكل واضح أن المذهب الحنفي هو أقل المذاهب السنية حشوية، وأكثرهم إعمالاً للعقل مما جعله أكثر المذاهب السنية واقعية وأكثرهم صلاحية للتطبيق (انظر مؤلفات الإمام “الملا علي القاري” المتوفى عام 1014هـ وخصوصًا كتاب شم العوارض في ذم الروافض الذي قدم فيه هذا الأصل).
من تلك الثوابت والأصول خرجت فرقة الماتريدية بشرحها الأول للإمام أبي منصور، وقد عاش في سمرقند ببلاد ما وراء النهرين في دولة أوزبكستان الحالية، فكتب أشهر كتبه “التوحيد والأصول وتأويلات أهل السنة المعروف بتفسير القرآن”، وسار على دربه الإمام “أبو الليث السمرقندي” (333 – 373 هـ) في نفس المنطقة وهي سمرقند، ومن أوزبكستان خرجت الماتريدية فانتشرت بقوة المذهب الحنفي وتلاميذ النعمان؛ علمًا بأن موطن الأحناف في هذه المنطقة كان أقدم من ذلك منذ أن تولى أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة قضاء العراق وخراسان في عصر “هارون الرشيد”، وهو سلوك مشهور للأئمة، أن شيوع المذهب مرتبط إلى حد كبير بتبني السلطة له عن طريق القضاء والإفتاء به، واندفاع البعض للعمل بأحكامه رغبة في الحصول على الثروة والسلطة والأمان السياسي والاجتماعي، وقد أقر ابن حزم هذه الحقيقة بقوله “مذهبان انتشرا في بدء أمرهما بالرياسة والسلطان، الحنفي بالمشرق والمالكي بالأندلس” (رسائل ابن حزم 2/ 229).
والدولة العثمانية أشهر تجلِ لهذا الأصل الحنفي لجذورهم التركية في بلاد خراسان، ومنها وصل الأحناف للبلقان مثلما عليه شعب البوشناق المسلم المعروف حاليًا بمسلمي البوسنة والهرسك، فهذه المناطق جميعها تدين بالمذهب الحنفي منذ قرون، وفيها عقائد الماتريدية في المدارس، ومن أهم الكتب التي تشرح عقيدة الماتريدي هو كتاب “العقائد النسفية “، وعنوانه الأصلي “تبصرة الأدلة في أصول الدين” للإمام “أبي المعين النسفي” المتوفى عام 508 هـ، ومنه “شرح العقيدة النسفية” للإمام سعد الدين التفتازاني (722 – 792 هـ)، ويعتبر هذا الكتاب عمدة الأحناف والماتريدية وشروحه في مقدمة علوم العقائد بكافة تلك المدارس.
أما الماتريدي؛ فالصلة بينه وبين أبي حنيفة كانت كبيرة لدرجة أنه روى كتبه المشهورة “الفقه الأبسط والعالم والمتعلم. وغيرها” عن شيوخه أبي نصر بن العباس والإمام الجوزجاني ونصر بن يحيى البلخي، الذين نقلوها بدورهم عن أبي سليمان تلميذ الشيباني، الذي نقلها بدوره عن أبي حنيفة، وبذلك هندس الأحناف مذهبهم وصولاً بالتقليد لإمامهم عن طريق السند (تاريخ المذاهب للشيخ محمد أبو زهرة صـ 166)، وهو ما يجعل الصلة بين الأحناف وإمامهم من أوثق الصلات الفكرية والعقائدية والفقهية بالفكر الإسلامي قياسًا على صلة الأشاعرة – مثلا – بالأشعري والشافعي نظرًا للخلافات الكبيرة في نسب بعض الكتب للإمامين، وقد أعطت الدولة العثمانية قوة كبيرة للمذهب الحنفي الماتريدي وانتشارًا، حتى صار هو مذهب القضاء الرسمي، ونعلم في مصر أنه مذهب الإفتاء والقضاء بالأحوال الشخصية بالغالب منذ أن كانت مصر ولاية عثمانية.
خلافا لمعتقد الغالبية من المصريين على المذهب الأشعري الشافعي، ولا زال هذا الانفصال بين مذهب الجمهور ومذهب الدولة الرسمي في القضاء والمعاملات شائعًا إلى اليوم، ومن أشهر تلك الاختلافات قوانين الزواج وفقا للشيخ أبو زهرة؛ فهو يرى أن الماتريدي نظرًا لبُعده الجغرافي عن العراق لم يرث الصراع الشرس بين الأشعرية والمعتزلة، كما هو الحال عند فقهاء الأشاعرة، الذين خاصموا كثيرًا من ثوابت وفكر المعتزلة، وردوا عليه بشكل حاد؛ فالمعروف أن الماتريدي رد عليهم بكتاب “بيان وهم المعتزلة”، إلا أنه لم يتطرق لكثير من الاعتراضات الأشعرية عليهم، وهذا الذي أحدث الفارق بين الماتريدية والأشعرية، واعتبر أن الماتريدي أقرب للمعتزلة من الأشعري، من جهة عدم انشغال أنصار الماتريدي والأحناف في خراسان بالصراع ضد المعتزلة في العراق، ومن جهة أخرى ما قلناه بالقواعد الستة الموروثة عن أبي حنيفة النعمان، وإحداها تقديم العقل والرأي على خبر الواحد، وتشددهم في قبول الأحاديث على ظاهرها مثلما تقدم.
المشتركات كثيرة بين الأشعري والماتريدي، منها المأثور عن أبي حنيفة "أنه لا يكفر أحدًا من أهل القبلة
ويحكي الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره قصة لطيفة عن كيف يقدم الماتريدية عقلهم على النصوص بطريقة أشبه بالمعتزلة قال:
“قال الماتريدي بموافقة الجمهور فيما عدا المعرفة بالله تعالى عند إرادة إفحام الرسل؛ خاصّة لأنّه رآه مبينًا أصول الدّين، كما يشير إليه قول صدر الشريعة في (التوضيح)؛ (أي يكون الفعل صفة يحمد فاعل الفعل ويثاب لأجلها أو يذمّ ويعاقب لأجلها؛ لأنّ وجوب تصديق النبي إنْ توقّف على الشرع يلزم الدور)، وصرّح أيضًا بأنَّها تعرف بالشرع أيضا، وقد ضايق المعتزلةُ الأشاعرة في هذه المسألة بخصوص وجوب المعرفة فقالوا: لو لم تجب المعرفة إلاّ بالشرع للزم إفحامُ الرسل، فلم تكن للبعثة فائدة. ووجه اللزوم أنّ الرسول إذا قال لأحد: انظرْ في معجزتي حتّى يظهر صدقي لديك، فله أن يقول: لا أنظر ما لم يجب عليّ، لأنّ ترك غير الواجب جائز، ولا يجب عليّ حتّى يثبتَ عندي الوجوب بالشرع، ولا يثبت الشرع ما دمتُ لم أنظر، لأنّ ثبوت الشرع نَظَريّ لا ضروري. وظَاهَرَهم الماتريديّةُ وبعضُ الشافعيّة على هذا الاستدلال.” (التحرير والتنوير 6/ 41).
وشرح كلام ابن عاشور هنا أن الماتريدي كان يرى بأن وجوب الشرع معلول، ونتيجة للنظر العقلي كعلة؛ فالشرع لم يثبت سوى بالعقل والنظر لا النقل، وهذا عين مذهب المعتزلة؛ إذ لو كان العكس لأفحم المشركون الرسول بسؤاله عن مصدره، لكن الرسول والقرآن كانوا يردون عليهم بالتدبر والحجج العقلية والبراهين، مما يعني أن معرفة الله تعالى لا تكون بالنص فقط؛ بل العقل الذي يكشف ويضبط الشرع، ثم يلزم المخالفين بنتائج هذا النظر، فتكون الحجة قاطعة ويتحقق الوعد والوعيد القرآني دون ظلم، ونرى ابن عاشور في معظم كتابه يضع رأي الأشاعرة في جانب، ورأي المعتزلة والماتريدية في جانب، منها وجوب الإيمان بالعقل الذي يرفضه الأشاعرة ويقول به المعتزلة والماتريدية، ومسألة إنعام الله على الكافر بالدنيا الذي يقول به الماتريدي والمعتزلة ويرفضه الأشاعرة بقولهم إن الكافر غير منعم دنيا وآخرة.
لكن المشتركات كثيرة بين الأشعري والماتريدي، منها المأثور عن أبي حنيفة “أنه لا يكفر أحدًا من أهل القبلة، وأنه لو عرف الكفر على أحد من 99 وجهًا، والإيمان بوجه واحد، حُمل هذا الشخص على الإيمان” نظرًا للحذر الشديد من التكفير عند أبي حنيفة، والذي ورثه من عقيدته بالإرجاء مثلما تقدم، ولذلك حمل عليه المحدثون وشنّعوا، وغضبت عليه السلطة كثيرًا، وقد بالغ البعض في توهين الخلاف بين الأشعري والماتريدي؛ فمنهم من حصره بعشر مسائل فقط كان الخلاف فيها لفظي كالإمام محمد عبده (1849 – 1905م) مفتي الديار المصرية الأسبق في تعليقه على العقائد العضدية، وقد عارض ذلك الشيخ محمد أبو زهرة في كتابه “تاريخ المذاهب الإسلامية” حين قال:
“عند الدراسة العميقة لآراء الماتريدي والأشعري في آخر ما انتهى إليه، نجد ثمة فرقًا في التفكير وفيما انتهى إليه الإمامان، وإنه بلا شك كان كلاهما يحاول إثبات العقائد التي اشتمل عليها القرآن بالعقل والبراهين المنطقية، وأن كليهما كان يتقيد بعقائد القرآن، بيد أن أحدهما كان يعطي للعقل سلطانًا أكثر مما يعطيه الآخر؛ فالأشاعرة يعتبرون – مثلاً – أن معرفة الله واجبة بالشرع، بينما الماتريدية يعتبرونها مدركة الوجوب بالعقل، والأشاعرة لا يعتبرون للأشياء حسنًا ذاتيًا يدركه العقل من غير أمر الشارع، والماتريدية يقررون أن للأشياء حُسنا ذاتيًا يدركه العقل من غير أمر الشارع، والماتريدية يقررون أن الأشياء لها حُسن ذاتي يدركه أيضًا.. ولذلك نقرر أن منهاج الماتريدية للعقل سلطان كبير فيه من غير أي شطط أو إسراف” (تاريخ المذاهب الإسلامية صـ 167).
وهكذا نجد أن الماتريدية شأنها كالمعتزلة تقول بالتحسين والتقبيح العقليين، نظرًا لإيمانهم بأن للأفعال وللأشياء حقائق ذاتية يدركها العقل. ومن شأن ذلك إلغاء أي سلطة دينية على الناس؛ كالإفتاء ودولة الكهنوت، لذا عدّ البعض أن هذا القول بالتحسين والتقبيح العقلي تشريع فقهي وعقائدي إسلامي بالدولة العلمانية؛ إذ لو كان التحسين والتقبيح شرعيين لكان لزوم العامة والدولة لهذا الشرع واجبًا على فرض وضوحه وتحقق الإجماع، ومقتضى هذا القول عند الماتريدية أن السياسة ليست من أمور الشرع؛ إذ تتعلق ثبوتًا ونفيًا بالعقل المجرد والقادر على رؤية القُبح والحُسن في الأشياء، وما أرى جنوح بعض الماتريدية الآن عن نصرة العلمانية أو ميلهم للقول بالدولة الدينية الثيوقراطية إلا جنوحًا عن مذهب سلفهم على فرض أنهم فهموا ما قاله السلف الماتريدي، لكن ثمة توضيحًا بسيطًا بأن قولهم بالتحسين والتقبيح العقليين لا يشمل قولهم بحكم الله الذي مصدره الشرع لا العقل، وينقل الشيخ عبد الوهاب خلاف تفصيل ذلك بقوله:
“ أتباع أبي منصور الماتريدي، وهذا المذهب وسط معتدل، وهو الراجح في رأيي؛ وخلاصته أن أفعال المكلفين فيها خواص ولها آثار تقتضي حسنها أو قبحها، وأن العقل بناء على هذه الخواص والآثار يستطيع الحكم بأن هذا الفعل حسن وهذا الفعل قبيح، وما رآه العقل السليم حسنًا فهو حسن، وما رآه العقل السليم قبيحًا فهو قبيح. ولكن لا يلزم أن تكون أحكام الله في أفعال المكلفين على وفق ما تدركه عقولنا فيها من حسن أو قبح، لأن العقول مهما نضجت قد تخطئ، ولأن بعض الأفعال مما تشتبه فيه العقول؛ فلا تلازم بين أحكام الله وما تدركه العقول، وعلى هذا لا سبيل إلى معرفة حكم الله إلا بواسطة رسله؛ فهؤلاء وافقوا المعتزلة في أن حسن الأفعال وقبحها مما تدركه العقول بناء على ما تدركه من نفعها أو ضررها، وخالفوهم في أن حكم الله لابد أن يكون على وفق حكم العقل، وفي أن ما أدرك العقل حسنة فهو مطلوب لله فعله، وما أدرك العقل قبحه فهو مطلوب لله تركه” (علم أصول الفقه صـ 99).
وخلاصة هذا القول أن الماتريدية كانت وسطًا بين الأشعرية والاعتزال؛ فقالت بأن للأشياء والأفعال حسنًا وقبحًا ذاتيًا يُعرف بالعقل لا النص. وهذا مصدر قولهم بوجوب معرفة الله بالعقل والتفكير لا النص، لكن إذا عرفوا الله بعقولهم وعرفوا أحكامه القطعية الدلالة، صار لزوم ذلك الحكم واجبًا لعدم ثقتهم بالعقل مطلقًا مثلما عليه المعتزلة، ويبدو أن أنصار ذلك الرأي لم يكونوا فقط بالفكر الإسلامي، ولكن حديثًا من مجتمع الفلسفة أشهرهم الفيلسوف الفرنسي “جاك دريدا” وكافة فلاسفة ما بعد الحداثة الذين رفضوا كثيرًا من منتجات الحداثة وعصر الأنوار العقلية، وقالوا بأن العلاقة بين اللفظ والمعنى أكبر من رؤيتها عقلاً، وأن مسار المعرفة بالمستقبل يجب فيه تفكيك تلك العلاقة وشرحها بفهم اللغة ودوافع الإنسان النفسية وحقيقة مشاعره وظروفه..
أخيرًا كانت هذه أضواء على فرقة الماتريدية بالإسلام، وليس بالطبع هي كل الأضواء؛ فلم نحط بكل شيء لضيق السطور، ولعل المقام يتسع في قادم الأيام والسنوات لشرح أمور وجزئيات وتفاصيل هذا المذهب الذي يعده البعض من أكثر مذاهب المسلمين عددًا وانتشارًا وتأثيرًا في الدول العربية والإسلامية، وأكثرهم على الإطلاق نفوذًا في القضاء والواقع العملي..
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.