ربما يهيئ إلى القارئ أن البحرين؛ الدولة ذات المساحة الصغيرة والتي تظهر على شكل جزيئة في الخليج العربي أنها لا تمتلك نماذج معمارية تعبر عن مكونها الثقافي والاجتماعي، لكن يتبين خطأ تلك النظرة عند المضي قدمًا في التعرف على تاريخ البحرين وإرثها المعماري، الذي تشكل من خلال بعض المساجد القديمة، وبعض المدن التي اشتغلت في التجارة وصيد اللؤلؤ، مثلها مثل الدول الخليجية الساحلية، بالإضافة إلى القلاع التي أنشئت على شاطئ الخليج الذي يلتف حول الدولة.
طريق اللؤلؤ
في سنة 2012 سجلت اليونسكو طريق اللؤلؤ أو مسار اللؤلؤ في البحرين كموقع تراث عالمي، مثل طريق اللؤلؤ الذي يتكون من مسار ممتد إلى 3.5 كيلو متر على جزيرة المحرق في دولة البحرين، تاريخ الدولة بأكملها، تلك الدولة التي كان لها باع كبير وطويل في صيد اللؤلؤ حتى أوائل ثلاثينيات القرن العشرين عندما بدأت اليابان في إنتاج اللؤلؤ الصناعي وانهار بذلك سوق اللؤلؤ الطبيعي. بدأ صيد اللؤلؤ في الدولة منذ عام 2000 قبل الميلاد، لتكون البحرين رائدة ومنافسة فيه على طول الخط.
حظي هذا المسار بـ 17 مبنى تراثيًا في البحرين، وتلك المباني كانت عبارة عن مجمعات لتجار اللؤلؤ في الخليج العربي؛ حيث يتكون المبنى غالبًا من مسجد ومسكن ومجلس للضيوف كذلك، امتد هذا المسار من ساحل بوماهر حتى مجمع سيادي.
ومجمع سيادي هو أحد النماذج التي عبرت بشكل واضح على العمارة في هذا الوقت؛ حيث يتكون من مسجد، لا زالت الصلاة قائمة فيه حتى الآن، وهو أقدم مسجد قائم بالمحرق حتى الآن، وهو عبارة عن مصلى صغيرة بمئذنة اسطوانية مرتفعة، بالإضافة إلى مسكن خاص بالعائلة، المثير في الانتباه في هذا المجمع هو أناقة البناء والتفاصيل الفنية التي تزين المسكن. تم بناء هذا المجمع من قبل أحمد بن جاسم سيادي، وهي عائلة عرفت بتجارة اللؤلؤ. ومسار اللؤلؤ حافل بالبيوت والمجمعات التراثية التي تعبر حقيقة عن تراث البحرين، بداية من بيت الغوص القريب من ساحل البحر المبني بحجارة بحرية محلية، والذي على الأرجح كان مسكنًا لغواصي اللؤلؤ، وأهمية بيت الغوص أنه كان بداية مسار تجارة اللؤلؤ؛ ففيه يتم تخزين البضائع ويمر عليه التجار عند الدخول على حاكم المدينة.
وصولاً إلى بيت الجلاهمية ثم بيت بدر غلوم، ولقد كان بدر غلوم هذا حلاقًا ومعالجًا بالطب الشعبي في المحرق في القرن العشرين، لذا كان بيته من البيوت الهامة في المدينة كمستوصف طبي ومصحة للسكان والتجار الذين كانوا يترددون على المحرق، بالإضافة إلى بيت يوسف العلوي وبيت خرو، ثم إلى بيت ومجلس مراد، وهما مبنيان متقابلان؛ الأول كان عبارة عن بيت لعائلة مراد، وهو أحد أهم العوائل في تجارة وصيد اللؤلؤ ، والثاني كان مخصصًا لاستقبال الضيوف والتجار من كل مكان. وصولاً إلى سوق القيصرية أهم أسواق البحرين التاريخية، ولا زال قائمًا حتى الآن بشكل تراثي استثنائي، بالمحلات والدكاكين القديمة. ثم في النهاية استكمالًا لمسار اللؤلؤ تصل إلى عمارة يوسف عبد الرحمن فخرو وراشد فخرو، ثم بيت النوخذة، ثم إلى مجمع سيادي التاريخي.
بيت آخر يقع في نطاق تلك المنطقة، لكنه بيت أميري، وهو بيت الشيخ عيسى بن علي آل خليفة، وهو الحاكم التاسع للبحرين، والبيت أحد النماذج التي برزت في فترة صيد اللؤلؤ قبل اكتشاف النفط، وبني بالحجارة البحرية المحلية التي تميزت بها تلك الأحياء الساحلية، لكن أهم ما يبرز قيمة هذا المبنى، ملقف الهواء المبني على شكل برج في زاوية المنزل، فضلًا عن الغرف الداخلية التي تراعي الخصوصية، وتحفظ أهل المنزل في الداخل.
لكن هذا الحي الثري والغني بعمائره وتجارة اللؤلؤ فيه، كان لابد من قلعة تحرسه وتحميه على ساحل الشاطئ، بالفعل قامت قلعة بوماهر بهذا الدور التاريخي، وهي إحدى قلاع البحرين التاريخية التي قامت على رئيس الشائ من ناحية الجنوب في المحرق، وهي عبارة عن برج نصف دائري يطل على شاطئ البحر، فضلاً عن ملحقاته. يرجع تاريخ بناء القلعة إلى سنة 1840، لكن تاريخها كمكان أقدم من هذا التاريخ؛ حيث يرجع تاريخ المكان بشكل أكثر عمقًا في القرن السابع عشر، وهي تلك الفترة التي غزت فيها القوات البرتغالية سواحل الخليج العربي.
وإذا ذكرت القلاع في البحرين؛ فبالتأكيد لا غنى عن قلعة البحرين نفسها أو قلعة البرتغال كما يطلق عليها أحيانًا، موقع القلعة في ضاحية السيف على البحر قديم، لكن البناء الأكبر فيه، قام به البرتغاليون الذين سيطروا على تلك السواحل عند اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح في القرن السادس عشر والقرن السابع عشر، والقلعة معقدة التكوين والبناء، وهي كذلك ضخمة، احتوت على عمارة فريدة ومتميزة في تلك المنطقة، لذا كان من المنطقي أن تكون ضمن قوائم التراث العالمي في اليونسكو.
مسجد الخميس
بالقرب من المنامة عاصمة البحرين، يقع مسجد الخميس؛ وهو أقدم مسجد باقٍ في الدولة؛ فقد بني عام 692 ميلاديًا، أي في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز. يقع هذا المسجد ضمن منطقة لها تاريخ طويل من التجارة والاقتصاد في البحرين، وليس هناك أكبر دلالة من اسمه حتى؛ فلقد سمي بهذا الاسم نسبة إلى سوق الخميس القائم في تلك المنطقة قديمًا. أما المسجد نفسه فهو متقن الصناعة والبناء، حيث تم بناؤه من الحجارة، وهي مواد بناء قل وجودها في تلك المنطقة التاريخية، تقف المئذنتان الشاهقتان وسط حجارة متناثرة شكلت عمارة المسجد لسنوات طويلة، والمئذنتان أحد أهم معالم المسجد، لدرجة أن السكان يطلقون عليه أحيانًا اسم مسجد المنارتين، بنيت المنارتان على نمط المآذن الدائرية، تشتمل على أدوار متكررة فتحت فيها فتحات مخصصة لإلقاء المؤذن نداء الصلاة من خلالها.
حول المسجد توجد بقايا شواهد قبور لعلماء فقه سكنوا ودرسوا في المسجد، وأجمل ما يتم ملاحظته في تلك الشواهد، النقوش الكتابية التي طبعت على الأحجار والرخام.
لكن إذا جئنا لمسجد الدولة الرئيسي، فلابد من الحديث عن مسجد أحمد الفاتح، الذي بناه أمير البحرين الأسبق الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، وأطلق عليه هذا الاسم نسبة إلى أحمد بن محمد آل خليفة، وسمي بهذا الاسم لأنه فاتح البحرين والمؤسس الفعلي للدولة. يعد المسجد أكبر المساجد مساحة في دولة البحرين، مع كونه ليس تاريخًا أو أثريًا، إلا أن مكانته العالية جعلت منه مزارًا سياحيًا رئيسيًا في البحرين، خاصة مع اتقان بنائه، وزخارفه التي تزين أرجاء المسجد المعمارية من كل جانب؛ فالقبة المركزية بنيت بإتقان شديد.
لعبد الواحد الوكيل بصمة هنا في المنامة كذلك، فلقد قام بتصميم مسجد يتيم بالعاصمة البحرينية المنامة، وكعادة تصميمات عبد الواحد الوكيل التي لا تخرج من نمط التقليد والاقتباس من العمائر القديمة، جاء مسجد يتيم على صورة شبه مملوكية، فالمئذنة تشبه مئذنة مدرسة الناصر محمد بن قلاوون القائمة بشارع المعز، بالإضافة إلى تكوين المسجد الآخر الذي اقتبس عمارته من العمائر المملوكية بالقاهرة، مع كون المسجد أنيق المظهر خاصة مع لونه الأبيض، إلا أنه لم يعبر عن روح البحرين في العمارة؛ خاصة أنهم امتلكوا نموذجًا قديمًا وممثلاً، مثل مسجد الخميس.
للبحرين في المساجد الحديثة نصيب أيضًا؛ فمسجد أركبيتا في المنامة، مثال حي على العمارة التي واكبت الحداثة ولم تبتعد عنها؛ فالمسجد واحد من النماذج الفريدة في البحرين، وتم بناؤه على شكل المكعب القوي، مع مراعاة حق الضوء والحرارة وأناسبهما داخل المبنى، لكن أهمية هذا المبنى تكمن في كونه استخدم الحجارة المحلية، واحتال من خلال النوافذ على دخول الضوء بطريقة غير مباشرة لتقلل من دخول حرارة الشمس.
مدن مندثرة
بالقرب من قلعة البحرين يوجد أطلال لمدينة إسلامية مندثرة، وأطلق عليها لفظ مدينة إسلامية كونها كانت تمثل العرب المسلمين الذين سكنوا في تلك المنطقة، واندثرت تلك القلعة إثر احتلال السواحل من قبل البرتغال، اكتشفت تلك الأطلال بناء على عمل متواصل من البعثات الأجنبية المهتمة بالآثار، وخلاصة هذا أنها كانت مدينة مكونة من ثلاثة أحياء، الحي الأول، وقد كان خاصة بعامة الناس، والحي الثاني كان الحي الأرستقراطي، وهو حي التجار، ويبرز هذا من خلال نوعية المباني التي تدل على رخاء المعيشة والحياة، ثم الحي الثالث والأخير، وربما يطلق عليه الحي التجاري حيث اشتمل على محلات ودكاكين وسوق رئيسي، بالإضافة إلى مسجد وحمام عمومي. من خلال تلك القرية يمكن أن نعرف عمق التاريخ العمراني في البحرين.
رسم اللؤلؤ شكل الحياة والعمران في البحرين، من أول المسار حتى آخره؛ فحافظ على نمط معين للبيوت والمساجد، وعلى قدر قيمة كل تلك المباني إلا أن العمارة في البحرين اختلفت نسبيًا في عصر النفط، بعدما اندثرت تجارة اللؤلؤ؛ فكأن اللؤلؤ هو الميزان الذي وزن العمران فيها، ورسمه بصورة معينة، وعندما اختل الميزان مع غياب اللؤلؤ، اختلفت التوجهات في البحرين.