لعلَّ الحوار حول غاية الفن وماهيته سيبقى مفتوحًا وممتدًا مع التراكمات والتحوّلات التاريخية للوعي الفكري والثقافي للإنسان، حتّى تصل الفنون إلى التحرُّر الحقيقي من أيّما ضرورةٍ أو منفعة، وتباينت الآراء في الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر في هذا الشأن نتيجة للتطور الحضاري والفكري الإنساني، الذي حاول أن يفصل بين ما هو جميل، وما هو نافع أو لضرورة أخلاقية؛ أي أن فكرة الانفصال هذه لم تُطرح قبل هذا العصر؛ فالفن عمره من عمر الإنسان تقريبًا، وارتبط بالعمل والممارسة للحياة اليومية، بمعنى أدق كان الفن يُفسّر بناءً على نتائجه لا عبر أهميته الخاصة.
ولعل جوهر هذا الانفصال ذو نزعة حضارية، تتمثل فيما تتطلبه الأخلاق من الفن وما يتطلبه الفن الخالص المستقل بذاته، حين ظهرت أفكار إعلاء القيمة الجمالية للفن على حساب القيمة الأخلاقية والنفعية. ورغم أن الفنون في العصر الراهن يُجرى تقييمها ونقدها بناءً على معايير جمالية بحتة، بعد بروز وظهور الحركات والثورات الثقافية والفنية التي أفرزتها مرحلة الحداثةِ وما بعدها، والتي أحدثت طفرات غير مسبوقة في مفاهيم الجمال، إلّا أن الجدل ما زال قائمًا حول ما إن كان للفن غايةٌ في ذاته؟ أم وسيلة يخدم اتجاهًا ما؟
ولعلَّ المتلقي للفنون له دورٌ في تعاظم هذا الانفصال من حيث أنه متلقٍ أخلاقي ومتلقٍ جمالي، قد يلتقيان وقد ينفصلان بناءً على المعطى الجمالي الفني؛ فالأخلاقي ينظر للفن من خلال تأثيراته على الأفعال السلوكية والنفسية للإنسان والمجتمع، والجمالي من حيث أنه معطىً جمالي كلّي بغض النظر عن انبعاثاته التي قد لا تكون أخلاقية أو نفعية. وبالعودةِ إلى ما يُعرف بالإكسيولوجيا أو القيم المطلقة (الحقُّ والخير والجمال)، يجدر بنا التنويه بأن كل قيمة تختلف عن الأخرى من حيث الجوهر، ومن حيث المنهج والدراسة.
ومن الخلل المنهجي الخلطُ بينهما؛ فالحقُّ هو عالمٌ قائمٌ ندركه، والخير والجمال تصوّران ينشدان مُثلًا أعلى من الواقع الفعلي “الحق”، وهو حقل العلوم، والخير حقل الأخلاق والفن حقل الجمال، إذًا؛ فالخيرُ والجمال يعيشان في عالم الممكنات، وهي تصوّرات المُثل العليا، والحقُّ هو العالم الفعلي القائم، والعالم المُمكِن هو تجلّي الإنسان ليبحر أبعد عمّا هو قائم؛ فإذا ما تحول الخير إلى واقع أصبح حقًا ومثله قيمة الجمال، لكن ليس بالضرورة أن يكونَ الجميلُ خيرًا كما ليس بالضرورة أن يكون الخيرُ جميلًا، وهذه من أكثر المسائل جدلًا؛ فالفنان قد تتم معايرته بفنه الذي لا يدعم أي فضيلة أخلاقية أو لا يدعم أيديولوجيا بعينها. وعليه تقوم حربًا ضروسًا ضد هذا الفنان؛ فإلى أي مدى ستبقى هذه المعارك؟، ومن أين ينبع هذا التشدُّد الأخلاقي للفن والفنانين؟
ولم تقف الفكرة في هذين المعنيين المتناقضين عند الفلاسفة والمفكرين؛ بل تجد من أعطى تصوّرات بين فكرة الفن الحُر والفن الهادف والنافع. فنجد سانتيانا الأديب والمفكر يتذبذب بين التصوّر الأخلاقي والنفعي للفنون والفصل بينهما في كتابه (الإحساس بالجمال) ، الذي ارتكز في مقدمته عن أن في الطبيعة البشرية نزعة تجعلنا نلاحظ الجمال ونستشعره ونقدّره، وأن ما يستلب فهم الناس للجمال هو العاطفة للأيديولوجيا والمنفعة العملية، وأن ما يستلزم الشعور بالجمال ليس فقط التحرر من المشاغل؛ بل التحرر من التعصّب للأفكار التي تجعل التجربة الجمالية مفككة، ويقول في مواضع أخرى إن المنفعة مثل المغزى، هي انسجام نهائيٌ في الفنون، وهي فكرة نادى بها سقراط قديمًا، والتي ربط بها بشكلٍ قاطع بين الجمال والفائدة والمنفعة، وانتقلت هذه الفكرة من عصر إلى عصر حتى اللحظة الراهنة. -وبالعودة لسانتيانا– ذكر في هذا السياق أنه في مرحلة من مراحل حكمنا الجمالي توجد حالات محددة تدخل فيها معرفتنا بالفائدة والمنفعة في إحساسنا الجمالي، ولكنها تقوم بفعلها على نحو غير مباشر للغاية؛ إما بإقناعنا بأن ما تفرضه الظروف العملية على الفنان هو الصحيح، أو بإثارة إعجابنا بتفوقه، أو عن طريق الإيحاء بتلك الموضوعات التي ترتبط بالشيء، كما أننا عندما نعرف عن شيء أنه “خياليٌ” لا فائدة له، فإن إحساسنا بما فيه من خداع يحول دون استمتاعنا به، وعلى ذلك يُقصى الجمال بعيدًا.
ولعلَّ إحساس الأخلاقي في نظرته المتشددة للفنون نابعه بأنها إذا تُركت للجمالي المحض سيجعل من الشرور قبولًا مجتمعيًا بحجّة أنه جميل، والفنان باستطاعته أن يجعل الشر أكثر جاذبية من الخير، لذا يستلزم الفن نقدًا أخلاقيًا، لذا يرى الأخلاقي أن المعنى في الفن يجب أن يكون داعمًا للفضيلة، وبعض الفنون كالمسرحيات أو الدراما تلك التي تنتهي في نهاية العمل بانتصار الشر مثلًا، وهذا المُعطى قد يكون حقيقيًا وواقعيًا؛ فالخيرُ في الواقع ليس دائمًا ينتصر، إلّا أن الأخلاقي يرى في ذلك عيبًا أخلاقيًا؛ إذ يستلزم من الفن الانتصار الدائم للفضيلة، لذلك تصبح الأخلاق تفرض مبادئها على الفن. وهناك من يرى أن الجمال بالضرورة مفيدٌ ونافعٌ للبشرية، لأن إدراكنا الجمال يرتبط باحتياجاتنا وأغراضنا. وكثيرٌ من الفلاسفة والمفكرين يرجّحون هذا الرأي، وهو أن كل ما هو جميلٌ بالنسبة لإحساساتنا الداخلية، تخفي بداخلها فائدة تضفي عليه هالة الجمال.
ولعلَّ إحساس الأخلاقي في نظرته المتشددة للفنون نابعه بأنها إذا تُركت للجمالي المحض سيجعل من الشرور قبولًا مجتمعيًا بحجّة أنه جميل
وبالتطرق لفلسفة هيجل حول الفن والجمال؛ فالفن يعتبر أحد الدعائم الرئيسة التي تتموضع فيها الروح مع الفلسفة والدين؛ فيقول: “يوجد عنصر الروح الكلّي في الفن حدسٌ وصورة، وفي الدين عاطفة وتمثيل، وفي الفلسفة فكرٌ خالص وحر”. والفن بالنسبة له تعبيرٌ عن المعنى العميق للحياة، وهو إدراك نوعي للعالم له علاقة بالوعي الإنساني بالوجود، ونظرته للفن نظرة كلّية تستوعب كل التجارب الشخصية لتصبح تجربة إنسانية عامة وشاملة، بغض النظر عن نتائج انبعاثاتها الأخلاقية، لأنها أيضًا تعبّر عن الوعي الإنساني، حتى ذلك الإبداع الفني الذي يظهر اغترابًا عن الحقيقة والواقع، أو ذلك الذي يشكل تناقضًا صارخًا للمبادئ الأخلاقية هو في الأصل يشكّل لُحمة مترابطة عميقة ومنسجمة للوعي الإنساني. أي أن الإنسان بالفن يسعى إلى التعبير عن ذاته التي لا تنفصل عن المعنى العميق للحياة.
ولأننا -نحن البشر- كائنات واعية ومفكرة، ستظهر انبعاثات هذا الفكر بالضرورة في التعبير الفنّي، الذي قد يتّفق أو يختلف مع وعي وفكر بشر آخرين، لذا من الممكن أن يتم الحكم على العمل الفني نابعًا من أيديولوجيا أخلاقية، وهو ما يعني وضع الجمال في مرتبة أقل وهامشية، في حين أن الأخلاق نسبية تؤطرها الأزمنة والأمكنة، والوعي الفكري أيضًا متفاوت بين بني البشر؛ لذا ستظل المعايير الأخلاقية التي يقاس ويحكم بها على أي عمل فني تتّسم بالتحيّز الأيديولوجي أو الذاتي. ويكاد يكون هناك إجماع على حرية الفنان في خلق العمل الفني، لكن بوعيٍ أو بدونه عند ربط الفن ربطًا ملازمًا بالضرورة أو المنفعة يُصبح العمل الفنّي مُتكلّفًا، تقضي على حرية وتلقائية الفنان، وهي شرط أساسي للإبداع، ولأن الفنان هو إنسان، لا يمكن أن يكون عديم الفكر والأخلاق، أي أنه بالضرورة سيتطرق لقضايا معينة، قد تبدو هذه القضايا متعلّقة بالمجتمع وقد تكون بعيدة عنه. والفن لديه القدرة على التكيّف دون حدود المنفعة والضرورة. أي أنه يستوعب كل الأعمال الفنّية بغض النظر عن كونها هادفة أم حرّة؛ فكُلّها بالمعايير الفنّية جمال. ومع ذلك فإن الفن الذي يتطرق لمشاكل اجتماعية يتفاعل معه المجتمع ويفضّلهُ عن ذلك الذي ينعزل عنه، لكنه تفضيل اجتماعي وسياسي.
يمكننا القول إن تلقائية الفنان وحرّيته أساسًا في خلق الأعمال الفنّية، ولا يمكن كسر هذا الشرط بالضرورة أو المنفعة للعمل الفني، لأنه يقيده ويؤطره ويُثقله بالمساعي الأيديولوجية والأخلاقية، ولا يعني ذلك بالضرورة غياب الفن الهادف؛ بل إن تُترك للفنان مساحته الحرّة في إنتاجاته الفنّية دون إرغامه بموضوعات أو أنساق خارجية عن ذاته.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.