بينما يعمل محمد (13 عامًا) في مهنة تفوق قدراته البدنية والجسمانية وحتى الفكرية، على منشار فولاذي لقطع الأحجار في أحد معامل الأحجار بمنطقة دار سلم شمال غرب العاصمة اليمنية صنعاء، تعرض لإصابة عمل أفقدته أصبعين، مخلفة ندبة في نفسه لم تنته بالعلاج.
يحكي لمواطن: “أعمل على هذه الآلة بشكل دائم، ولفترات طويلة قد تصل إلى سبع ساعات في اليوم الواحد، على الرغم من حاجتها الماسة للصيانة، واستبدال قطع غيار، لكن صاحب العمل لم يكترث لإلحاحي الدائم على هذا الأمر ومطالبتي المستمرة له، إلى أن باغتتني ذات يوم وقضمت إصبعين من يدي اليمنى، وتركتني كما ترى بهذا الشكل الذي أشعر كلما أردت السلام على أحد بالخجل وانعدام الثقة، وتملكتني عقدة النقص في روحي قبل جسدي، وعلى ما يبدو بأنها ستظل ترافقني لفترات طويلة من حياتي”.
انخراط الأطفال في سوق العمل في سن مبكرة يجعلهم عرضة لظروف صعبة، وغير ملائمة لتكوينهم الجسدي والنفسي والعاطفي؛ خصوصًا في الحالات التي يتعرضون فيها لإصابات بليغة، تترك عاهات دائمة كلية أو جزئية أو تحرشًا وتنمرًا لتفاقم أوضاعهم النفسية أكثر بمرور الزمن. هذا السلوك السلبي المرافق للأوضاع الاقتصادية والاجتماعية التي توصل الأطفال لسوق العمل، والتغيب لفترة طويلة يوميًا عن المنزل يفقدهم أيضًا الروابط الأسرية اللازمة لنموهم النفسي، وتنمية إبداعاتهم ومواهبهم.
محمد نموذج واحد فقط من بين مئات؛ بل آلاف الأطفال اليمنيين، قذفت بهم الظروف الاقتصادية والاجتماعية الموجعة صغارًا لسوق العمل، وسط تزايد مخيف وملحوظ لهذه الظاهرة.
المروع في هذا الأمر تركز عمل هؤلاء الأطفال في أشغال ومهن شاقة وخطيرة في قطاعات من قبيل العمل في مواقع البناء والنجارة، والزراعة وورش إصلاح السيارات، والأحمال الشاقة، وصيد الأسماك والبيع في الشوارع وغيرها بأجور متدنية للغاية، ودون ضمانات أو حقوق تقيهم من الملوثات البيئية أو قساوة العمل وصعوبته، إلى جانب تعرضهم أثناء العمل وبشكل دائم للاستغلال والاعتداء والتحرش الجنسي، ليصبح واقعهم مرعبًا، كل هذا بحثًا عما يعينهم وأسرهم على استمرار الحياة، تاركين مقاعد الدراسة خلف ظهورهم، وهذا ما يجعل مستقبل جيل كامل من الأطفال اليمنيين على المحك.
كل هذا هو نتيجة حتمية لتغلغل أثر النزاع عميقًا، والذي تعيشه البلاد منذ أكثر من سبع سنوات، وأثر بدوره على اقتصاد البلاد، وألقى بتداعياته على فئة الأطفال خصوصًا، بعد ما عجز أهاليهم عن تأمين مصاريف تعليمهم من ناحية، وعدم قدرتهم على تحصيل مردود مادي كفيل بإعالة كامل أفراد العائلة، فاضطروا إلى دفع أبنائهم إلى الانخراط في سوق العمل ولو باليسير من المردود من ناحية أخرى.
عدد الأطفال العاملين في اليمن، -بحسب آخر بيانات مسجلة قبل الحرب- وصل إلى نحو 1.6 مليون طفل؛ أي ما تتجاوز نسبته 38% من مجموع أطفال اليمن ممن تتراوح أعمارهم بين 5-15 عاما. بينما تتحدث تقارير أخرى حديثة أن الأطفال ما بين سن 5-14 عامًا جعلت اليمن أولاً بنسبة 13.6% وهي النسبة الأخطر عربيًا. وفقًا لأرقام منظمة العمل الدولية.
والأكيد أن سبب ازدياد نسبة هذه الظاهرة يعود إلى انهيار العملية التعليمية، وتدمير الكثير من المدارس، بالإضافة إلى حالة الفقر المدقع التي تزايدت إلى ما يقارب 85% بسبب انقطاع الرواتب وتردي الوضع الاقتصادي وغيرها، علاوة على موجات النزوح الداخلية التي تجاوزت أربعة ملايين نازح، منهم 70% من الأطفال والنساء؛ الأمر الذي يثير حالة من الطوارئ تستوجب تحركًا دوليًا عاجلاً للمساعدة في الحد من هذه الظاهرة، لتلبية الاحتياجات الهائلة للأطفال والعائلات والتي تعيش أكبر أزمة إنسانية في العالم، بحسب وصف الأمم المتحدة.
يكمل محمد سرد معاناته الطويلة بكلمات قليلة تحمل ألمًا كبيرًا: "أنا أعمل في معمل الأحجار هذا منذ سنتين تقريبًا، حين توقفت عن الذهاب إلى المدرسة بعدما اضطررت لمساعدة والدي في توفير مصاريف بيتنا، الذي عجز عن تأمينها بمفرده بعد توقف وانقطاع راتبه".
يعلم يقينًا أهالي الأطفال أنهم يقسون على أبنائهم من خلال الزج بهم إلى سوق العمل، لكن “ما في اليد حيلة” كما يقول بغصة مجاهد (47 عاما والد محمد) عند وصفه لعمل ولده، ويستطرد بحسرة لا متناهية: “ظروف الحرب، والوضع الاقتصادي البائس الذي نعيشه هو الذي أجبرني للدفع بفلذة كبدي إلى سوق العمل بدلاً عن مقاعد الدرس، الحياة لم تعد تطاق، وأنا بحاجة لمن يساعدني لكي نعيش”.
يقول محمد وهو يواري حزنه بعينيه الدامعتين إنه يحصل على 60 ألف ريال يمني في الشهر (أي ما يعادل 108 دولارات أمريكية تقريبا) مقابل العمل لأكثر من تسع ساعات في اليوم الواحد في هذا العمل المضني والشاق من أجل مساعدة عائلته، والوقوف جنبًا إلى جنب مع والده في توفير أدنى متطلبات الحياة اليومية، للعيش بكرامة. هذا المبلغ الذي يتقاضاه محمد شهريًا يؤكد فعليًا عدم وجود بيانات كافية حول أجور الأطفال العاملين، التي لا تغطي احتياجاتهم الأساسية البتة، وتعتمد بشكل أساسي على العمر والجنس والموقع والموسم والعمل المنجز.
وبحسب مواد قانون حقوق الطفل اليمني رقم (45) للعام 2002م فإنه يحظر عمل من هم دون سن الرابعة عشرة، كما يحظر تشغيل الطفل في الأعمال الصناعية قبل بلوغه الخامسة عشرة. ويلزم القانون أصحاب العمل بإجراء الكشف الطبي على الأطفال قبل إلحاقهم بالعمل للتأكد من ملائمة لياقتهم البدنية والصحية للعمل الذي يلتحقون به، ويجب ألا تزيد ساعات العمل على ست ساعات تتخللها فترة أو فترات للراحة لا تقل كل منها عن ساعة.
لكن نتيجة لغياب تطبيق مواد القانون وعدم وجود رقابة، استقطب أرباب العمل الأطفال المحتاجين للعمل لديهم بأجور قليلة، مستغلين بذلك حاجتهم وعوزهم، وعدم وجود رقابة من قبل الجهات المسؤولة، وعدم انتماء هؤلاء الأطفال إلى نقابات وهيئات تعمل على حماية حقوقهم.
ومن أجل هذا استحدثت في العام 2000م وحدة عمالة الأطفال في وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل اليمنية؛ وذلك لرسم عدد من السياسات لظاهرة عمالة الأطفال وسن التشريعات وتعديلها ورفع مستوى الوعي عند الأسر وأرباب العمل والأطفال أنفسهم. إلى جانب القضاء على أسوأ أشكال العمالة، لكنها وللأسف لم تحقق أيًا مما أنشأت لأجله حتى اليوم.
ويحتفل العالم في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام بـ “اليوم العالمي لمكافحة عمل الأطفال“، باعتباره مناسبة لتعزيز الترابط الدولي وإذكاء الوعي بين أطفال العالم وتحسين رفاههم، من خلال وضع نهج وسياسات فعالة لتعزيز أنظمة الحماية الاجتماعية والتعليم وفرص العمل اللائق للآباء، لمعالجة الظروف والدوافع التي تدفع بالأطفال إلى سوق العمل. وتتنافس الدول على هذا، إلا هنا في اليمن فالأمر يزداد سوءً؛ حيث تتزايد هذه الظاهرة بشكل مقلق، بالرغم من إقرار الحكومة اليمنية لقانون حقوق الطفل، الذي لم يضع أية قيود على عمالتهم في مختلف الأعمال والأنشطة والمشاريع المختلفة.
“صدقني نحن لم نعد أطفالاً في اليمن، بعد هذه الحرب والنزاع كلنا صرنا نعمل كبارًا وصغارًا، ذكورًا وإناثًا من أجل أن نعيش، مهما كان الراتب الذي نتقاضاه؛ سواء باليومية أو بالشهر. كل واحد منا -في اليمن- يصارع يوميًا من أجل البقاء”. وبهذه الكلمات ختم محمد معنا حديثه.