الهوس بتقديس البلد الذي يعتبر الفرد أنه ينتمي إليها، واحتقار كل ما هو أجنبي والإعجاب بكل ما هو وطني، هذا هو الخطاب الشوفيني، وهو خطاب يتصاعد خلال الأزمات وفترات الإفلاس الحضاري، وفي أوطاننا تغذيه وسائل الإعلام واللجان الإلكترونية المحسوبة على الأنظمة العربية، بهدف نشر الكراهية والعنصرية المتبادلة بين شعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وقد يلقى هذا الخطاب رواجًا لأنه يبدو جذّابًا كحل للحصول على هوية “محترمة” ومُشبعة، وتقدّم سببًا للافتخار بالانتماء في ظل الفشل الذي نعيشه على كل الأصعدة. وأبرز النماذج في المنطقة هو ترويج شعارات مثل: “المغرب قاهر العثمانيين” و”مصر أم الدنيا” و”لبنان سويسرا الشرق”… وما إلى ذلك من عبارات صارت في الواقع مثيرة للشفقة.
اشتق مصطلح الشوفينية من أسطورة ” نيكولا شوفان”؛ فيسرد لنا الكاتب الفرنسي ألفونس دوديه قصة شوفان الأحمق، نموذج المواطن الفرنسي الذي دافع باستماتة عن “عظمة فرنسا” حتى وهي مهزومة من بروسيا في 1871، والذي سيلقى حتفه خلال الحرب الأهلية التي عرفتها باريس في نفس السنة؛ إذ يقفز شوفان أمام الجنود متحمّسًا وهاتفًا: “عاشت فرنسا”؛ فيموت خطأً أثناء تبادل إطلاق النار بين الطرفين.
مظاهر الشوفينية المتصاعدة
تحاول وسائل الاعلام الرسمية واللجان الالكترونية التأثير على آراء الناس بتكرار فكرة التفوق العنصري والمبالغة في تمجيد الماضي، وتكريس أفكار مثل؛ أن المغرب يعتبر استثناءً في المنطقة، أو أن السعودية فضلها على باقي العرب "ناكري الجميل".
ويجب التفرقة بين الآراء الحقيقية التي يعبّر الناس عنها في حياتهم اليومية، وبين اللجان الإلكترونية التي تنشط في العالم الافتراضي، والتي لا تعكس بالضرورة الواقع، ولكن تحاول التأثير عليه. ويمكن تعريف اللجان الإلكترونية بأنها: “مجموعة من الأفراد تنتحل هويات مزيفة من أجل المشاركة على منصات التواصل الاجتماعي ومنتديات الإنترنت لإرسال رسالة محددة أو لاستهداف وقمع أشخاص معينين”.
وتستطيع أن تميزها بأنها أنها نماذج متشابهة من التحريض والإساءة، تكرّر نفس الفكرة بعدد كبير وبوتيرة سريعة مما يصعّب الرّد عليها، وحسب دويتشه فيله: “قد أفاد تقرير نشره “فريدوم هاوس” العام الماضي بأنه في 39 دولة من بين 65 شملهم الاستطلاع، يقوم الزعماء السياسيون بتوظيف أفراد من أجل “التلاعب خلال المناقشات السياسية”.”
وأقرب مثال هو الجدل الذي واكب احتفال بقية العرب بتأهل المغرب في مختلف أدوار كأس العالم؛ حيث انتشرت تعليقات وفيديوهات في الإنترنت بين معلّقين مغاربة ومشارقة حول ما إذا كان المغاربة عربًا؛ مستعملين خطاب الكراهية وتبادل العنصرية، وغاية السلطة من إحماء هذه النعرات هو كسر الروابط بين الشعوب التي تعيش نفس المشاكل والتحديات.
وتروّج مثل هذه اللجان الإلكترونية لسردية أن المغاربة أمازيغ وأفارقة حصرًا، وسط تجاهل متعمد لحضور اللغة العربية في اللهجة المغربية، كما أن العربية لغة رسمية ودستورية في المغرب. وهناك جزء كبير من المغاربة يعتبر العروبة واللغة العربية عنصرًا مشكّلاً لهويّته.
وعلى الطرف الآخر يوجد من يقصي المغاربيين من العروبة: فقد سبق أن نشر أحد الصحفيين السعوديين، فيديو لا يمكن لعاقل أخذه على محمل الجد، يهدد فيه المغاربة بالمنشار ويصفهم بــ “شتات الرومان”، وأن السعوديين هم “العرب الحقيقيون”.
مثال آخر عن الشوفينية المتنامية هو الجدل الزائف بين اللجان الإلكترونية المغربية ونظيرتها الجزائرية على وسائل التواصل حول أصول أطباق وأزياء وموسيقى، في الغالب يتشاركها كل المغاربيين، وما يرافقها من سباق بين المغرب والجزائر لتسجيلها في تراث اليونسكو، من عنصرية متبادلة عبر الشتم والتنمّر ونشر الأخبار الزائفة؛ بينما الخطاب الإعلامي الرسمي في البلدين يشجع هذه الأفكار، عوّض لعب دوره في الاعتدال والعقلنة.
ويحمى وطيس الحروب الشوفينية في الخليج أيضًا، بين “الإخوة الأعداء”؛ فمع التحولات التي تعرفها السعودية، من قطع مع نظام قانوني وثقافي محافظ دام لسنوات، نتيجة لطموحات سياسية للريادة في المنطقة، والصراع مع إيران وما ترتب عنه من حرب في اليمن ومقاطعة لقطر، ظهر خطاب القومية ليعوّض الخطاب الديني الوهابي الذي كان مصدرًا لشرعية السلطة.
وهنا أيضًا تلعب اللجان الالكترونية دورًا محوريًا في ترويج شعارات الفخر بالانتماء للسعودية العظمى، وشحذ الهمم للوصول إلى القمة، وشغل المكان الأول الذي تستحقه المملكة في إطار إعادة صياغة للهوية الوطنية للسعوديين، متخيّلة ومفروضة من الأعلى وليست وليدة حوار وطني أو نضال شعبي.
ومشكلتها أنها تبني سردية وطنية استعلائية، توازي مشاريع مُبالغة في العظمة، وذات نجاعة اقتصادية غير مؤكدة كمدينة نيوم، وهي بذلك تُسكت الأصوات المشككة بدعوى الهدف الأسمى الذي ينبغي الوصول له.
وفي نفس السياق، هناك أصوات شعبوية تفرّق بين حتى من تعتبرهم عربًا أصليين، فترى أن “عرب الشمال” فاشلون عكس الخليجيين الذين طوروا بلدانهم، وتبقى كل هذه المشاحنات العنصرية في إطار الاستقطاب الحاصل بسبب الصراع الإيراني الخليجي على الزعامة في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
وكذلك الأمر في كل حادث عنصرية يقع في مصر أو الكويت لأحد أبناء الجاليتين، يبدأ مسلسل التلاسن بين ممثلي الإعلام الرسمي؛ بل وأحيانا بين حكومتي البلدين. ونشهد حاليًا حشدًا للأصوات المتعصّبة في البلدين بسبب وقف استقدام العمالة المصرية في ظل الأزمة التي تعيشها مصر، وما تلاها من توقيف لطلبة كويتيين في الإسكندرية.
يبقى الخطاب الشوفيني كأنه في حالة تأهّب، كلما شبّ أتفه خلاف بين شعبين في المنطقة عاد إلى الواجهة والأمثلة متعددة، غير أن الأسباب واحدة.
مكاسب سياسية
انطلقت الاحتجاجات في أواخر 2010 في كل الجزائر وتونس، لتنتقل عدواها لأغلب الدول العربية، فهمت السلطة أن هذه الشعوب لم تفرّقها الحدود والجوازات. هناك حالة من التعرف على الذات في الشعب الآخر بسبب سهولة التواصل، ولوجود نفس المشاكل ونفس الطموحات. لقد فهمت الأنظمة العربية الدرس جيدًا: يجب كسر الإحساس بالتماهي الموجود بين هذه الشعوب.
يجب أن يكسر الإحساس بالانتماء الى نفس المجموعة، وهذه العملية هي التي كان يقوم بها الاستعمار من قبل؛ حيث فصل شعوب المنطقة بشكل ممنهج عن بعض؛ بل وفصل المجموعات العرقية والدينية عن بعضها بعضًا في الوطن الواحد، حتى يتسنى له تأليب الأفراد على بعضهم، وعزلهم لفرض سيطرته على الأرض، وكانت تقوم بها الأنظمة العربية منذ الاستقلال، ولكن زادت حدّتها بعد الانتفاضات الشعبية.
وعلى الرغم من بداهة الاستراتيجية إلا أنها تجد صدىً بسبب حالة الفشل والانهزام، وبسبب القمع الذي عاشته باقي المجموعات غير العربية في سياقات الأنظمة العروبية، بالإضافة الى مشاكل ترسيم الحدود الموروثة عن الاستعمار والحروب بين الأنظمة العربية، التي تركت في ذاكرة الشعوب ضررًا لم يتمّ جبْره وتجاوزه.
ويستثمر الاحتلال الإسرائيلي تنامي خطاب الكراهية بين دول المنطقة، وعزلها عن بعضها بعضًا، تحييدًا لأي تهديد محتمل لاستمراريته مهما كانت ضآلته، ويغذّي هذا الحقد عن طريق صفحاته في وسائل التواصل الاجتماعي الناطقة بالعربية، فيوجه في ظل التصعيد المتواصل بين البلدين، خطابًا تحريضيًا للجمهور المغربي، مفاده أن إسرائيل هي الصديق والجزائر هي العدو، ويفعل عكس ذلك عند مخاطبته للجمهور الجزائري.
وخلاصة القول، تطمح دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لعرقلة التواصل بين شعوبها، والاهتمام بشؤون بعضها البعض وتبادل الخبرات والأفكار، وتمنع أي شكل من التعاون بين القوى الإصلاحية لتغيير الوضع القائم، معتقدة أنّها خطّة سياسية براغماتية، ولكن هذه الدول لا تعلم أنّها تعزل نفسها، وأنه كلّما انعزلت عن الحلفاء الذين يعتمد بقاؤهم جميعًا على مدى تعاونهم، كلما كان موقفها الدولي في المفاوضات والنزاعات صعبًا وضعيفًا… ولعلّ في ملوك الطوائف أيام الأندلس أكبر عِبرة.