ولدت فرجينيا وولف 1882 لعائلة محافظة مثقفة، الأب ناقد ومؤرخ، والأم من نسل عائلة مثقفة كانت رائدة في مجال الطباعة والنشر، مما أتاح لها فرصة الاطلاع والقراءة والمعرفة، في وقت كانت الإناث تتعرض فيه لانعدام تام في المساواة في فرص التعليم المدرسية والجامعية. اعتمدت فرجينيا على مكتبة والدها الضخمة في الاطلاع والمعرفة كتعويض عن المدرسة.
لنا أن نتخيل حال امرأة غيرها نشأت في نفس الحقبة الزمنية بدون هذا العوض، امرأة كبرت على التفوق الكامل لذكور عائلتها، بينما تظن هي أن إمكاناتها العقلية أقل، كانت ستظن أن هذا التفوق نابع من الفطرة والنصيب، البيولوجي. أما فيرجينيا وولف فأدركت بسبب نشأتها في عائلة مثقفة تملك مكتبة ضخمة، أن هذا التفوق لا سبب له سوى الإمكانيات التعليمية والحياتية التي تعطى للذكر وتحرم منها الأنثى، وأن كل سبب آخر هو حياكة ذكورية صرفة لإقناع الأنثى بأنها في مرتبة أقل.
كان هذا الإدراك المبكر سببًا في الثورة الفكرية والأدبية التي روجت لها في كتاباتها المختلفة، كما زادت بعض أحداث حياتها المأساوية وقودًا لنار ثورتها مثل تعرضها للتحرش الجنسي من قبل أخيها غير الشقيق، وخسارتها لأفراد عائلتها واحدًا تلو الآخر والحروب التي عاشتها بكل أبعادها السودواية، ظروف نفسية أدت لمرضها الذي أجهز عليها بلا رحمة.
كامرأة تأثرت كثيرًا بكتب فيرجينيا وولف، ووجدت تفسيرًا لكثير من التساؤلات التي تؤرقني حول وضع النساء، لقد فسّرت فيرجينيا وولف العنف الاقتصادي على المرأة بكل أبعاده في كتاب” غرفة تخص المرء وحده”.
من يغرق في عالم فرجينيا وولف يدرك أن حياة كل امرأة مدافعة عن حقوق النساء، ليست إلا محاكاة لحياة فرجينيا وولف، تكاد كل قارئة لها أن تشعر بعزلة فرجينيا وصراعاتها، وجودها في بيئة تستسلم فيها النساء دون مقاومة لنظرة المجتمع الدونية لهن
ومما يجعل كتابها مميزًا أننا ما زلنا نستطيع أن نجد فيه تفسيرات لما تتعرض له المرأة العربية من إفقار ممنهج، كانت قد مرت به المرأة الغربية في مطلع القرن العشرين، ولهذا فأنا أعتبره الكتاب الأهم لفيرجينيا؛ ففيه أسقطت فيرجينيا بالأدلة كل الآراء التي تزعم نقص قدرات المرأة كسبب في فقرها واعتمادها الدائم على الرجل، وقدمت أسبابًا كاملة لتقدم الرجل الفكري والأدبي والسياسي وأرجعتها كلها إلى مؤامرة تمارس على الإناث من قبل المجتمع والقوانين تحرمها من الحياة والتجارب التي تخلق الإبداع وتحفزه.
كنت دائمًا أتساءل لماذا أكثر الناس فقرًا هم النساء، وأكثر المتسولات من النساء، ولا يمضي يوم دون أن أسمع فيه عن حاجة امرأة مطلقة أو مهجورة أو أرملة للمال قبل أن يرميها صاحب السكن هي وأولادها في الخارج، تساءلت كثيرًا عن السبب الذي يجعل امرأة تظل مع رجل معنف حتى تفقد حياتها، بينما كل تصرفاته تنبئ بنهاية بشعة، وكل سؤال كانت إجابته دائمًا هي “المال”؛ فلماذا تعاني المرأة من الفقر أكثر مما يعاني منه الرجل، ولماذا تتحمل خوفًا منه؟ ولماذا يصبح المال هو البعبع الذي يخيف المرأة ليلاً ونهارًا؟ ويجبرها على تحمل أوضاع وأحوال لا يمكنها السكوت عنها في وجوده؟ هذا ما أجابت عنه فيرجينيا في كتابها..
من يغرق في عالم فرجينيا وولف يدرك أن حياة كل امرأة مدافعة عن حقوق النساء، ليست إلا محاكاة لحياة فرجينيا وولف، تكاد كل قارئة لها أن تشعر بعزلة فرجينيا وصراعاتها، وجودها في بيئة تستسلم فيها النساء دون مقاومة لنظرة المجتمع الدونية لهن، اتهامه الدائم لعقل المرأة بالنقص على الرغم من انعدام فرص المساواة التي تقابلها معظم النساء بالاستكانة والانصياع وكأنه قدر محتوم.
هناك دائمًا نساء خائفات من التغيير، وهن فئة كبيرة نتفهم مخاوفها بعد كل عمليات قصقصة الأجنحة التي مورست ضدها منذ الطفولة والقمع الاقتصادي والاجتماعي الذي خلق نساء لا يثقن بأنفسهن، ولا يمتلكن المهارات الحياتية لأي نوع من أنواع الاستقلال، وهناك نساء مستفيدات من الذكورية، خصوصًا النساء التي ترتبط أسماؤهن برجال من أصحاب النفوذ، تشعر المرأة بقيمتها نابعة من هذا الارتباط؛ فهي زوجة فلان أو ابنة فلان، أو أخت فلان، قيمة لا تحصل عليها المرأة إن أصبح التقييم فرديًا مبنيًا على الإنجازات الشخصية، ولهذا نجد هؤلاء النسوة في عداء دائم للحركات التحررية النسوية، وهذا يعيدنا لما حصل في أمريكا وبريطانيا في أوائل القرن العشرين، ومع بداية الحراك النسوي المطالب بإعطاء المرأة حق التصويت، أنشئت جمعيات لمناهضة حق المرأة في التصويت أسستها نساء أيضًا اعتبرن أن تملك المرأة حق التصويت مطالبة متطرفة، وكان من بينهن نساء مستفيدات من إبقاء الحال على ما هو عليه، طبعًا الحراك النسوي انتصر واستفادت من هذا الحق بنات وحفيدات النسوة اللواتي حاربن هذا القرار.
حركات تحرر المرأة لا تخاف أبدًا من النوع الأول؛ بل تعمل لأجله، فهم غالبًا ضحايا ذكورية المجتمع، ولا توجد امرأة واحدة من هذه الفئة لن تواجه يومًا ظلمًا مجتمعيًا ما، تشعر بعده بحجم المؤامرة التي تعرضت لها، وما النساء المهجورات والمعنفات والأرامل والمطلقات اللواتي وجدن أنفسهن فجأة مسؤولات عن إعالة أولادهن بعد أن جردهن المجتمع من كل أسلحة المواجهة إلا نموذج من نماذج ظلم المجتمع الذكوري التي تعاصره كل امرأة تعيش في العالم العربي اليوم.
كان يكفي دائمًا وجود امرأة واحدة ذكية حتى تبدأ مشروعًا نسويًا، امرأة تدرك أن الضعف والفقر الذي تعاني منه المرأة لا أساس بيولوجيًا له؛ بل هو صفة مكتسبة من البيئة القامعة التي تُجهل المرأة عن عمد، وتحرمها من تجارب إنسانية تصقل شخصيتها.
كان يكفي وجود امرأة واحدة ذكية لتعرف أن المرأة لا ينقصها الذكاء، وليست ناقصة عقل؛ بل إن الذكاء وحده بدون رافد تعليمي وحياتي لن يجعلها إنسانًا كاملاً، ولن يكسبها حكمة الحياة التي تتكون بخوض غمار التجارب والتعلم منها، حكمة الإبحار في ماء الحياة المتلاطمة بدلا من تمضية عمر كامل في الانتظار على شواطئ الملل.
كان يكفي وجود امرأة واحدة ذكية لتعرف أن كل ما تعيشه نساء الأرض نتاج مؤامرة بدأت منذ بدأ النظام الأبوي الذي اعتمد في وجوده على منطق القمع الهرمي وكان يجب أن توضع المرأة أسفل هذا الهرم ليستمر هذا النظام.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.