ابن السوداء رجلٌ يهودي من صنعاء، ويقال من الحيرة، واسمه عبدالله ابن سبأ. يقول الطبري، نقلًا عن سيف بن عُمر، إن الرجل ذرع الحجاز، العراق، الشام، ومصر خلال ما لا يزيد عن أربعة أعوام (بين عامي 33- 37). وأنه، خلال ذلك الوقت القصير، استطاع أن يقلب العالم المسلم ظهرًا على عقب: قاد ثورة ضد عثمان انتهت بمقتله، أشعل الحرب بين عائشة وعلي، غيـّر في عقائد أهل العراق؛ حيث دلّهم على فكرتي الوصاية والعودة، وفكك مجتمع المسلمين إلى سنة وشيعة، يقول المؤرخون إنه لولا ابن السوداء لما وقع المسلمون فيما وقعوا فيه.
أراد المؤرخون أن يفلتوا من الضغط الواقع عليهم بينما هم يدونون التاريخ. عائشة أم المؤمنين، تحرّض على إقالة عثمان بعد أن رأته يختار ولاة سيئي السمعة، ينحاز إليهم ضد ضحاياهم، ويحابي عشيرته. عليّ وبنو هاشم يتواطؤون مع المتمرّدين الذين اخترقوا المدينة للفتك بالخليفة، والمتمرّدون يكافئون عليًّا على موقفه بتنصيبه أميرًا للمؤمنين. أما الآخرون، ممن أقالهم عثمان أو تجاهلهم، فقد أشاعوا موجة استياء ضد الخليفة الذي أبلى سنة رسوله الله قبل أن يبلى ثوبه، كما هو التعبير الأثير الذي ابتكرته عائشة.
أضاع مجتمع المدينة البوصلة السياسية، وانعكست فوضى العاصمة على الأطراف. بلغ التوتر مداه مع تشبث عثمان بالسلطة، وإصرار جزء كبير من الصحابة على التشويش عليه، حتى إن عائشة -كما تذهب مصادر عديدة- حين رأت أن المواجهة بين الحاكم وشعبه ذاهبة في طريق اللاعودة، ركِبتْ جملها وذهبت للحج. كان ابن عبّاس، كما في الكامل في التاريخ، قد أسدى نصيحة مشابهة لعلي بن أبي طالب: أن يغادر مكة قبل أن يفتك المتمرّدون بالخليفة وتشير الأصابع إليه.
رفض عليّ النصيحة، وتقارب مع المتمرّدين. استقر في وعي عائشة أن عثمانَ غير جدير بالحكم، مقارنة إياه بزوجها وأبيها. كما رأى بنو هاشم في عثمان حاكمًا مغتصبًا، مستعيدين صراعات الماضي السحيق التي جرت بين الأجداد في مكّة. اختلط دخان المساجد والبيوت في المدينة، وعلق الرجال جميعًا في أزمة عديدة العُقد، إلى أن تسلل محمد بن أبي بكر، ربيب علي، إلى الدار مع جماعته وأهرقوا دم الخليفة.
كان الصحابة، ربما بلا استثناء، شركاء في صناعة تلك الفوضى، وكان ذلك متوقعًا؛ فالفراغ الذي تركه عمر بن الخطاب، وكان حاكمًا واسع الخيال والسطوة، ليس بالأمر اليسير. حدث أن وضع عثمان بن عفان قدميه الصغيرتين في نعلي سلفه الواسعتين. كيف يمكن لمؤرخ، -والمؤرخ رجل متدين في العادة- أن يكتب قصة ذلك القرن؟ فطن الطبري إلى رواية تتحدث عن رجل اسمه عبد الله بن سبأ، اليماني الذي غادر صنعاء وقد أقسم ليمزقن الدولة الإسلامية كما لم يحدث من قبل.
عائشة أم المؤمنين، تحرّض على إقالة عثمان بعد أن رأته يختار ولاة سيئي السمعة، ينحاز إليهم ضد ضحاياهم، ويحابي عشيرته. عليّ وبنو هاشم يتواطؤون مع المتمرّدين الذين اخترقوا المدينة للفتك بالخليفة، والمتمرّدون يكافئون عليّا على موقفه بتنصيبه أميرًا للمؤمنين
عاش الطبري في القرن الثالث الهجري، وساق سيرة ابن سبأ لتصبح واحدة من أهم الشروحات حول ما جرى في عاصمة الإسلام في ثلاثينيات القرن الهجري الأول. قفز ابن سبأ إلى وسط الأحداث من اللاتاريخ، وأخذت قصته حيّزًا كبيرًا داخل الخيال التاريخ، وعاشتْ لا يجرؤ أحد على المساس بها، وحين حاولت في كتابنا “على مقام الصبا” إعادة حكاية تاريخ تلك الحقبة، تلقيتُ ردودًا من أكاديميين تستهجن إغفالي لقصة عبدالله بن سبأ وأدواره؛ فمن شأن إنكاره القصّة تلك أن يضعنا في مواجهة مباشرة مع الأبطال الحقيقيين الذين لا يريد أحد أن يتحدث عنهم؛ فهم صحابة كبار يعتقد المسلم أنهم منزهون عن الدسيسة والخيانة والجريمة.
صار ابن السوداء في كتب المؤرخين رجل خارقًا، مثقفًا، ساحرًا، جيّاب الآفاق، خبيرًا في فنون النفس البشرية، وحافظًا لكتب السماء كلها، أوقع بالصحابة الكبار من أمثال أبي ذر، ودفعهم للعمل ضمن آلته الدعائية التدميرية. وبالرغم من أنه لم يقض في العراق أكثر من عامين إلا أنه نجح في تغيير عقيدة الناس، وأعاد هندسة الخيال الإسلامي فيما يتعلق بأخطر المسائل الغيبية، ابتكر فكرة عودة النبي قبل يوم القيامة، وأضاف إليها حكاية الوصي التي جاء بها من العهد القديم. كما دفع النّاس إلى تأليه عليّ والإيمان بخلود أبنائه من الأئمة. وفي معركة الجمل، 36 هجرية، وقف ابن السوداء ضد عملية السلام التي كانت آخذة في الجريان بين الأطراف، دافعًا أتباعه إلى تأجيج المواجهة والتشبيك بين الجبهات. وكما هو متوقع فإن كل حيل عبدالله بن سبأ كانت ناجحة وموفقة، عدا محاولاته في الشام، هناك فطن له معاوية ونفاه.
كانت بلاد الشام مستقرّة سياسيًّا تحت قبضة معاوية، وقصة ابن السوداء جيء بها لتفسر الفوضى، لذا فقد سمح الراوي لنفسه بأن ينهي رحلة ابن السوداء إلى الشام سريعًا؛ إذ قام بكشف أوراقه أمام معاوية، فنفاه الآخر إلى خارج أراضيه. لماذا لم يقتله معاوية بما أنه اكتشف يهودية الرجل ونشاطه التخريبي المدمّر؟ ذلك أن المؤرخين كانوا بحاجة ماسة إلى ابن السوداء من أجل تفسير بعض التموجات السياسية التي جرت في مصر.
سافر ابن السوداء إذًا إلى مصر، وهناك قلب البلادَ كلها على والي عثمان. يستريح المؤرخون إلى القصة التي تقول إن المتمردين القادمين من مصر اشتركوا في قتل عثمان، وأنهم إنما فعلوا ذلك بأمر من ابن السوداء. إن حركة ابن السوداء بين الأمصار لا تلتزم بخط زمني معيّن، فهو يثير الناس ويغير عقائدهم في زمن عليّ بن أبي طالب، لكنه في الوقت نفسه يدفعهم إلى حصار عثمان الذي مضى على مقتله عام أو عامان.
بأي تسلسل زمني تحرك الرجل في الأمصار؟ تقدم كتب التاريخ إجابات مشوشىة، وهي أضابير كتبها مؤرخون أذكياء تخلوا عن ذكائهم أمام هذه الحكاية عن طيب خاطر، إنه كبش الفداء الذي عثر عليه الطبري وقدّمه للأمة، ووجد الدارسون، والمسلمون بشكل عام، مخرجًا لتلك المعضلة الأخلاقية: أيعقل أن يكون الصحابة قد قتل بعضهم بعضًا؟ يدخل ابن السوداء في مرحلة سكون عجيب بعد مقتل علي. فسوف يعيش زهاء الثلاثين عامًا، ثلاثة عقود من الحكم الأموي الصلب شهدت فيه البلاد الإسلامية استقرارًا سياسيًا حقيقيًّا، فاختفت -والحال كذلك- الحاجة لابن السوداء، وفقد فجأة كل قدراته وإمكاناته الخارقة، حتى إنه لم يحاول أن يجرّب أساليب جديدة في العصر الأموي، وعاد إليه اسمه الحقيقي؛ عبدالله بن سبأ.
صار ابن السوداء في كتب المؤرخين، رجل خارقًا، مثقفًا، ساحرًا، جيّاب الآفاق، خبيرًا في فنون النفس البشرية، وحافظًا لكتب السماء كلها، أوقع بالصحابة الكبار من أمثال أبي ذر، ودفعهم للعمل ضمن آلته الدعائية التدميرية
بقي مؤرخو السنة على مواقفهم، ولا يزالون يحرسون تلك الحكاية حتى الآن. عمليًّا لا يخسر مؤرخو السنّة من وراء تلك القصة شيئًا، خلاف ذلك فهي تساعد على حماية الدين نفسه من خلال تنزيه شخوصه عن الجريمة والدسيسة. إن التشكيك في الاستقامة الأخلاقية لفرد من مجتمع الصحابة سينسحب إلى الشك فيما رواه ذلك الفرد عن الرسول.
أحاديث الرسول، هي نصوص نقلها الرجال، هو المصدر الثاني للتشريع. عند ابن الأثير في الكامل، والثقفي في الغارات، أن أبا موسى الأشعري حين رأى عمّار بن ياسر في العراق فنهره قائلًا “يا أبا اليقظان، أعدوت على أمير عثمان قتلته؟” وأن الأخير اعترف بأن مقتل الخليفة لم يسؤه.
إن مثل هذا الاتهام المدوّي، الصادر عن رجل من كبار الصحابة إلى رجل ممن شهدوا بدرًا والرضوان، لهو خبر أكبر من أن يحتمله فقيه معني بحراسة الدين، يحدث الأمر نفسه حين يكتب حسان بن ثابت قصيدة يتهم فيها عليا بالتآمر على قتل عثمان.
من الممكن أن يكون عبد الله بن سبأ مثقفًا يهوديًا احتفظ بديانته داخل المجتمع المسلم؛ أو أنه تحوّل إلى الإسلام محتفظًا برؤيته اليهودية للتاريخ والعالم. اليهود الذين التحقوا بالإسلام كانوا أقدر من سواهم على إكمال فراغات القصص القرآنية وتأويلها. غالبًا ما كانوا يقدمون تخيلاتهم اليهودية لعالم الغيب، وحين انتعش سوق الرواية، وتقافز الناسُ ليحدثوا الناسَ عمّا سمعوه من الرسول، برز المسلمون اليهود أيضًا وكانت قصصهم ورواياتهم ربما أكثر إثارة.
إن الإسرائيليات ليست سوى قصص يقف وراءها مثقف يهودي. في أحايين كثيرة كانت القصة القرآنية عن الأزمنة الغابرة تأتي مكثفة بما يخدم سياقًا وظيفيّا معيّنًا، وجد المسلمون اليهود في ذلك التكثيف دعوة إلى تقديم الشروح بما يعرفونه من العهد القديم وربما تفوقوا في الإثارة والتشويق على المحدثين العرب.
بمقدورنا تخيّل مجالس المحدثين اليهودي، المجالس الإسرائيلية، عامرة بعدد من المستمعين يفوق مجالس المحدثين العرب. ربما كان ابن سبأ أحد أولئك المحدّثين، في أفضل الأحوال. في الأجواء تلك تخلقت خرافات تأسيسية، بعضها وظيفي وبعضها مجاني.
فالنبي يمشي في الطرقات ويرى طفلًا اسمه ابن صياد، يسأله أتشهد أني رسول الله؟ فيرد الطفل: لا، بل تشهد أنت أني رسول الله، كما في صحيح مسلم. فيما بعد يصبح ابن صياد هذا، في خيال الناس، هو الدجّال الذي سيمسك الشمس ويوقفها في كبد السماء، في ظروف أكثر تعقيدًا كانت قصة ابن صياد ستكبر إلى الحجم المناسب حتى يصير بمقدورها شرح الأحداث الكبرى والانهيارات، غير أن الأيام جرت، ووجد رواة الحديث وسواهم من الإخباريين أن قصة ابن صياد جيدة ولكنها لا تفيد كثيرًا.
إن الإسرائيليات ليست سوى قصص يقف وراءها مثقف يهودي
ما من قصة قد بلغت ما وصلته حكاية عبدالله بن سبأ، اليهودي الذي استطاع بلا جيش أو قبيلة أن يزعزع البلاد من اليمن إلى مصر في بضعة أعوام.
ولولا تلك القصّة لانهال الناس بالأسئلة، ولما وجدت كتب التاريخ من أجوبة تكفي، غير أن ابن السوداء جاء في موعده، حمل خطايا كل ذلك الجيل على كاهله وتلاشى على نحو غريب كما جاء. مضى مشيّعًا باللعنات كلها، ونجا حملة الدين من الخطايا.
كم كان عمره؟
يهودي واسمه عبدالله؟
هناك يقين داخلي بأن الإ ستخبارات التي تتبع إمبراطورية فارس وروما هي من اشتغلت إلى جواره، نكاية بالإمبراطورية القادمة، واستطاع من خلال عمل منظم واهداف مرسومة ان يحقق جزء مما جند لأجله، فمن المستحيل أن يعمل كل ذلك عبدالله بن سبأ لوحده.
كم كان عمره؟
يهودي واسمه عبدالله؟!
هناك يقين داخلي بأن الإ ستخبارات التي تتبع إمبراطورية فارس وروما هي من اشتغلت إلى جواره، نكاية بالإمبراطورية القادمة، واستطاع من خلال عمل منظم واهداف مرسومة ان يحقق جزء مما جند لأجله، فمن المستحيل أن يعمل كل ذلك عبدالله بن سبأ لوحده.