التعددية ليست مجرد ظاهرة اجتماعية؛ بل هي أساس ضروري لتكوين المجتمعات واستقرارها وتطورها على جميع الأصعدة؛ فالعرق واللون والدين والجنس هو جمال تام الخلقة لهذا الكون، لكن ما يحدث اليوم في العالم هو عملية منافية لهذا الأمر؛ فارتفاع موجات الصراعات الطائفية والانقسامات الداخلية في الدولة الواحدة في ازدياد تام، ما يشكل خطرًا كبيرًا ودمارًا بالغًا يتجاوز مساحة جغرافية وهوياتية واحدة
ولتسليط الضوء على بعض المفاهيم التي تشكل الاجتماع الإنساني وتُؤطره كالعرقية والقومية، الوطنية واللغة، التقت ” مواطن” بالدكتور والناقد البحريني نادر كاظم. كما حصل على عدة جوائز من بينها: جائزة الكتاب البحريني المتميز الأولى عن كتابه “المقامات والتلقي” عام 2004. و جائزة الكتاب البحريني المتميز الأولى عن كتابه “تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط” عام 2005. و وسام المبدعين الخليجيين في مجال الدراسات والإنتاج الفكري في العام 2021.
ولد نادر كاظم، في العام 1973 بالبحرين، درس بها ونال الليسانس والماجستير والدكتوراه في مسلك الدراسات اللغة العربية، له العديد من الإصدارات؛ منها: تمثيلات الآخر: صورة السود في المتخيل العربي الوسيط، صدر عام 2004، الهوية والسرد، صدر عام 2006، طبائع الاستملاك، صدر عام 2007، استعمالات الذاكرة، صدر عام 2008، خارج الجماعة، صدر عام 2009، لماذا نكره؟ أو كراهيات منفلتة مرة أخرى، صدر عام 2017، إنقاذ الأمل: تاريخ الأمل العربي خلال قرنين، صدر في عام 2013، لا أحد ينام في المنامة، وصدر في عام 2019، الشيخ والتنوير، صدر في عام 2021، تاريخ الأشياء: عن الشارع والمقبرة وأشياء أخرى، صدر في عام 2021.
وكان معه هذا الحوار
كيف بدأت رحلتك في التحول من عالم النقد الأدبي إلى عالم الكتابة غير الأدبية؛ خاصة الكتابة عن التاريخ والمجتمعات؟ وما الذي دفعك لذلك؟
نعم، بدأت من النقد الحديث بحكم أن دراستي الجامعية كانت في تخصص النقد والأدب منذ مرحلة البكالوريوس، وفي الماجستير بدأ اهتمامي ينصبّ على نظريات القراءة والتلقي، وخاصة جمالية التلقي التاريخي للنصوص والخطابات. وقادني هذا إلى هانز جورج غادامير، أحد آباء الهيرمينوطيقا الكبار، ومن بوابة غادامير وجدت نفسي خارج دائرة النقد الأدبي، وأقرب إلى الهرمينوطيقا والتأويل ودلثاي وشلايرماخر وهايدغر وفلاسفة التأويل والفهم الآخرين. إن التلقي التاريخي يعني الفهم النسبي لكل شيء، والإيمان بأن كل البشر حين يستوعبون أي شيء فهم يستوعبونه في سياق تاريخي ومكاني محددين، وأن هذا الفهم لا يمكن أن يكون إلا فهما نسبيًا لا مطلقًا؛ لأنه فهم محدود بحدود الزمان والمكان والمعطيات التاريخية.
إن الفهم النسبي المحدود هو قدرنا كبشر، وهو أصل هشاشتنا المعرفية الأزلية الأبدية، لأن ما نتوهم أنه المعنى المطلق لأي موضوع، يتكشّف -في زمان آخر وفي مكان آخر- أنه لم يكن سوى معنى واحد من بين عديد من المعاني الممكنة الأخرى. الأمر الذي يحتم علينا أن نكون متواضعين تجاه فهمنا، ومتسامحين تجاه أفهام الآخرين. وأتصور أن هذا النوع من التسامح التأويلي – إن صح هذا التعبير – قادني إلى صلب ما صار اهتمامي الأساسي فيما بعد، وهو نقد العنصريات والتحيزات من أي نوع كانت؛ إثنية أم دينية أم اجتماعية. وكما تعرف، فإن هذا الاهتمام بدأ معي في أطروحة الدكتوراه التي كانت عن نقد “تمثيلات الآخر الأسود” في متخيل العرب خلال العصور الوسطى. ومنذ العام 2003؛ أي بعد الانتهاء من الدكتوراه مباشرة، أصبح هذا الموضوع هو شغلي الشاغل في معظم كتبي اللاحقة مع توسيع دائرة النقد من نقد العنصرية تجاه السود إلى نقد الطائفية، إلى نقد الكراهية، إلى نقد طبائع الاستملاك، إلى نقد الاستعمال المغرض للذاكرة الجمعية، إلى نقد اختزال التنوع في هوياتنا كأفراد ومجتمعات، إلى نقد الطبيعة الحصرية الاختزالية في الهويات القومية.
كان يمكن لو أني انخرطت في أقسام الأدب والنقد أن أبقى حبيس تخصص الأدب والنقد، لكن لعبة الحظ والمصادفات حكمت بشيء آخر؛ فحين انخرطت في العمل الأكاديمي، وعملت في قسم العلوم الاجتماعية، الأمر الذي باعد المسافة، شيئًا فشيئًا، بيني وبين النقد الأدبي والاشتغال على نصوص الأدب، وقرّبتني أكثر فأكثر من العوالم التي كنت أحوّم حولها منذ مرحلة الدكتوراه واهتمامي المركّز بالدراسات الثقافية ونقاط التقاطع بين النقد الثقافي والأنثروبولوجيا الثقافية وإسهامات الدرس الفكري الحديث وما بعد الحديث. ولعل هذا ما يجعل كتبي تتحرّك في مساحة واسعة بين الثقافة والهوية والمجتمع والتاريخ والفكر السياسي.
تبدي اهتماما خاصًا بحقل الدراسات الثقافية؛ فما الأسباب وراء ذلك؟ وما أهم القضايا المناسبة للطرح هنا؟
هذا سؤال كثير التردّد عليّ، وأجبت عنه في حوارات عديدة، وأعيد هنا أبرز ما كنت أقوله في هذا الشأن. كما قلت في إجابتي السابقة بأن بدياتي الأولى كانت في مجال النقد الأدبي ونظريات النقد الحديث، وحين بدأت مساحات اهتمامي تتسّع، شعرت أن النقد الأدبي أضيق من أن يستوعب ذلك، واكتشفت خلال اشتغالي بنقد “تمثيلات الآخر الأسود” أن الدراسات الثقافية هي المجال المعرفي الأقرب لهذا النوع من الاهتمامات. ويمكن القول بأن الدراسات الثقافية كانت موضة وأخذت في الانتشار أكاديميًا في الجامعات الغربية وغيرها، وكان الناقد المعروف جونثان كولر يعتبرها النشاط الرئيسي للعلوم الإنسانية منذ تسعينات القرن العشرين فصاعدًا
وهناك من يعتبرها نسخة الجيل الجديد في سلسلة تطور العلوم الاجتماعية من “سوسيولوجيا” و”أنثروبولوجيا”. تبرز أهمية الدراسات الثقافية في كونها مجالًا معرفيًا يتداخل مع علوم إنسانية واجتماعية عديدة؛ من فلسفة ونقد أدبي وأنثروبولوجيا وعلم اجتماع وعلم نفس ولسانيات وتاريخ وسياسة وغيرها. وتتركّز معظم اهتمامات الدراسات الثقافية حول قضايا أساسية؛ مثل “الثقافة والاقتصاد السياسي والجنوسة والجنسانية، والاستعمار وما بعد الاستعمار، والعرق والهوية والأمة والأنثروبولوجيا النقدية والتاريخ والسيميوطيقا وما بعد البنيوية وما بعد الحداثة، والمؤسسات الاجتماعية وتوظيفات العلم والتكنولوجيا وممارسات الحياة اليومية، كمشاهدة التلفزيون وأكل الوجبات السريعة وغيرها”. والحقيقة أن هذه مساحة شاسعة تغطي مفهوم الثقافة بكل اتساعه في الأنثروبولوجيا الثقافية أي كل نشاط بشري ذي معنى.
إن الفهم النسبي المحدود هو قدرنا كبشر، وهو أصل هشاشتنا المعرفية الأزلية الأبدية، لأن ما نتوهم أنه المعنى المطلق لأي موضوع، يتكشّف -في زمان آخر وفي مكان آخر- أنه لم يكن سوى معنى واحد من بين عديد من المعاني الممكنة الأخرى
يقال إن العرقية والوطنية تسيران جنبًا إلى جنب على الرغم من اختلافهما، فكيف تفسر ذلك تبعا لما يحصل في العالم اليوم؟
هذا موضوع إشكالي كبير، وقد اشتغلت عليه في اثنين من كتبي الأخيرة، كتاب “أمة لا اسم لها” الذي صدر في العام 2022، وكتاب “ما الأمة؟” الذي سيصدر قريبًا، وهو موضوع يتصل بفكرة الأمة، وحتى نفهم الرابطة السريّة بين هذين المفهومين فإن علينا أن نعرف أولًا ماذا نقصد بالأمة؟ وهو سؤال قد يبدو بسيطًا لكثيرين، إلا أن الإجابة أكثر تعقيدًا مما نتوهّم لأول وهلة، وسيكون علينا لفهم معنى الأمّة أن نطرح هذا السؤال الابتدائي: هل الأمّة ظاهرة طبيعية قائمة بذاتها وتتجلّى في مجموعة سمات ثابتة وقواسم مشتركة أساسية بين مجموعة “إثنية” معينة؟ أم إنها صناعة بشرية ونتاج عمليات إنشاء وتشكيل وبناء، وحتى اختراع وتلفيق يقوم بها البشر في سياقات تاريخية معينة؟ وبتعبير ثانٍ؛ هل الأمّة توجد بمجرد وجود جماعة تعيش في منطقة جغرافية واحدة، وتمتلك قواسم مشتركة مثل اللغة و”العرق” والدين؟ وبتعبيرٍ ثالثٍ، هل يُولد الناس أمّةً؟ أم إنهم يصيرون أمّةً مع الزمن وبفعل التنشئة والتكوين؟ وبتعبير رابع؛ هل الأمة مسألة اختيار أم إنها مسألة مقرّرة سلفًا قبل ولادتنا؟
والحقيقة التي علينا أن نبقيها حاضرة في أذهاننا هي أن الأمة كجماعة سياسية متخيّلة تكوّنت في سياق تكوّن الدول القومية أو الوطنية في أوروبا العصر الحديث. ولهذا فإن أبرز إشكال طرح نفسه أمام بناة هذه الدول القومية الجديدة، هو كيف وعلام تتأسّس الهوية الوطنية داخل هذه الدول الجديدة؟ هل تكون هوية الدول الجديدة هي ذاتها الهوية الإثنية الأصلية لمجتمع الدول؟ أم إن على الدول أن تخلق لها هوية وطنية سياسية جديدة توحّد الجماعات الإثنية المتنوعة داخل حدودها؟ لا مجال هنا لأسهب كثيرًا في تفصيل هذا الموضوع الذي توسّعت فيه كثيرًا في الكتابين سالفي الذكر، ولكني أقول باختصار بأن الدول في هذا الموضوع تتوزّع بين نموذجين أساسين
نموذج ألمانيا التي أراد القوميون الألمان فيها تأسيس أمة الدولة الألمانية الجديدة في القرن التاسع عشر على أساس الهوية الإثنية الجرمانية للجماعات الناطقة باللغة الألمانية؛ بحيث تتطابق هوية الدولة الوطنية (القومية) مع هوية الشعب الإثنية الجديدة. أما النموذج الثاني فهو نموذج فرنسا التي تأسّست فيها الأمة الجديدة بفعل تدخّل الدولة المباشر في تحويل الإثنيات المتنوعة داخل حدود الدولة إلى شعب واحد بهوية وطنية (قومية) واحدة وموحّدة. في النموذج الأول صنعت الإثنية هوية الدولة الوطنية (القومية)، فيما صنعت الدولة هويتها الوطنية في النموذج الثاني بمعزل عن الأصول الإثنية للجماعات التي كوّنتها. أراد الألمان المطابقة بين الوطنية والإثنية، فيما أراد الفرنسيون صنع هوية وطنية جديدة بمعزل عن الإثنيات والأعراق.
إلا أنه مع الزمن تتحوّل الهوية الوطنية المصنوعة حديثًا إلى هوية شبيهة بالإثنية من حيث نزوعها الشديد نحو التعصّب والانغلاق على الذات والحرص الهوسي بالنقاء والارتياب من الآخرين المختلفين من أبناء الوطنيات الأخرى؛ الأمر الذي يعني أن المشكلة لا تكمن في الجذور والأصول؛ بل في المآلات والعواقب؛ فلا فرق كبير في هويات الدول الحديثة بين دول تأسّست على الإثنيات والأعراق أو توهّمت ذلك، وأخرى اختلقت لها هويات وطنية جديدة صُنعت صنعًا بمعزل عن الأصول الإثنية، والسبب أن لدى الاثنتين قابلية كبيرة للتحوّل إلى هويات أحادية وحصرية صلبة، وهذه هي الخطوة الأولى والضرورية على مسار التحول إلى هويات متوحّشة وقاتلة.
لا أحد يستطيع إنكار أهمية وجود اللغة بالنسبة لكل جماعة تتحدث بها، لكن ماذا لو تم تهميشها أو محاولة إقصائها من قبل جماعات معادية، أو سلطات مركزية؟
لا تختلف اللغة كثيرًا عن أي عنصر آخر تتأسّس عليه هوية جماعة ما، فتهميش لغة جماعة ما هو نسخة أخرى بديلة من تهميش دين جماعة ما أو منطقتها الجغرافية أو أصولها الإثنية أو أي عنصر هوية آخر. وهناك تنظير معروف لأمين معلوف حول هذه المسألة؛ فهو يرى أن الهويات المسالمة المتنوعة في البداية تتحوّل إلى هويات قاتلة حين تتعرّض إلى التهديد، ولأن التهديد يستهدف عنصرًا من بين عناصر هذه الهويات، فإن هذه الهويات القاتلة ستصبح هويات أحادية وحصرية ومتمحورة حول العنصر المهدّد من بين عناصر هذه الهوية المتعددة، بمعنى أن كل جماعة تمتلك العديد من القواسم المشتركة فيما بين أعضائها الذين يتشاركون فيما بينهم الدين والإثنية واللغة والمنطقة الجغرافية وغيرها
ولكن حين تشعر الجماعة بأن لغتها هي المهدّدة، فالذي يحدث هو أن هذه الجماعة ستحوّل هذه اللغة التي كانت عنصرًا من بين عناصر عديدة في تكوين هويتها، ستحوّلها إلى جوهر هويتها الأحادية؛ بحيث يصبح استهداف اللغة استهدافًا خطيرًا لوجود الجماعة نفسها. والأمر هو هو فيما لو كان الدين هو العنصر المستهدف؛ بمعنى أن الجماعات تُدفَع دفعًا إلى إجراء اختزال خطير لتنوع مكونات هويتها بفعل تدّخل خارجي يرتبط بالتهديد، وهذه عملية أشبه ما تكون بالعملية الجراحية، لأن تنصيب هذا العنصر أو ذاك كجوهر للهوية يعني القيام بعملية استئصال لـ “الأجزاء” الأخرى غير المستهدفة، كما لو أنها لم تكن من مكونات هوية هذه الجماعة في يوم من الأيام، كأن يتوّهم المتدينون المتعصبّون أن اللغة لا قيمة لها وأنها ليست جزءً من تكوين هويتهم، وعلى هذا يمكن استبعادها، أو أن يتوهّم القوميون الشوفينيون أن الدين ليس من مكونات هويتهم، ويمكن أن يستبعد من المعادلة.
تربطنا الأحداث بالتاريخ دومًا، لاسيما من خلال المواقف المتعصبة وعمليات التطهير العرقي؛ فأين تجدها اليوم؟ وهل هناك حل للحد منها؟
لدى ستيفن بنكر فرضية تقول بأن العنف يتراجع منذ تاريخ البشر البعيد حتى اليوم، وبأن عصرنا الراهن هو أكثر العصور سلامًا في تاريخنا البشري، وهو يستند إلى إحصائيات متعددة عن تراجع عمليات القتل والإبادة والحروب الواسعة، وبالتأكيد مازال العنف الجماعي موجودًا حول العالم بدرجة أو بأخرى، لكن عمليات التطهير الإثني الواسعة في تناقص ملحوظ بالرغم من نفاق منظمات العالم ودوله والمعايير المزدوجة التي تطبّق في مكان وتخرس في مكان آخر، لكن أحدًا لا يمكنه أن يضمن عدم انفلات العنف الجماعي في أي مكان في حال انفجار الأوضاع وانهيار الدول والقانون ودعائم الأمن والاستقرار. وهي الضمانات الأساسية للحدّ من العنف.
الحقيقة التي علينا أن نبقيها حاضرة في أذهاننا هي أن الأمة كجماعة سياسية متخيّلة تكوّنت في سياق تكوّن الدول القومية أو الوطنية في أوروبا العصر الحديث.
للتاريخ أبواب لا تنتهي، ولا يستطيع أحد إغلاقها؛ كيف نواجه اليوم من يتكلم بثأر الأجداد وبدماء الأبرياء المسفوكة هدرًا، على الرغم من مرور السنين؟
ناقشت هذه القضية باستفاضة في كتابي “استعمالات الذاكرة”، وقلت إن هذه واحدة من “أمراض التذكّر” التي تعيق بناء السلام والوئام في الحاضر؛ بل التضحية بالحاضر والمستقبل من أجل إنصاف الماضي، أو ما ندّعي أنه إنصاف للضحية، المستحق لجبر الضرر الذي لحق به أو بأسلافه في الماضي البعيد أو القريب. وأنا أميّز بين المسار القضائي للإنصاف؛ وخاصة إزاء الجرائم التي لا تسقط بالتقادم بحسب القانون، وبين التوظيف السياسي المغرض لهذه الجرائم وضحاياها. والغالب أن تكون دعاوى جبر الضرر وإنصاف ضحايا الماضي مجرد واجهة لمآرب ومصالح نفعية وانتهازية سياسية وأيديولوجية راهنة
وحين تتكشف هذه المآرب والمصالح المحتجبة خلف الدعاوى الخيّرة والإنسانية، ستنكشف حقيقة الزيف الأخلاقي الذي تتظاهر به، وعندئذٍ سيتبين لنا أن هذه الدعاوى لم تكن سوى ضرب من ضروب الاستعمال المغرض للذاكرة ولتاريخ الجرائم الكبرى (المحارق والمذابح والإبادات) من أجل التحصّل على حقوق سياسية ومنافع اقتصادية في الحاضر، أو من أجل التظاهر بأننا خيّرون وملتزمون بالمبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية. ومن المؤكد أن هذا النوع من المصالح والمآرب أبعد ما يكون عن قيم الوفاء الأخلاقي للماضي وضحاياه. نعم، الماضي مزدحم بالجرائم الكبرى والمآسي والآلام الجماعية الفظيعة، إلا أن الطريق إلى إنصاف الضحايا لا يتحقّق من خلال تسييس هذه الآلام، بل من خلال العمل على منع تكرار حدوث هذه المجازر والمآسي، ومن المؤكد أن التسييس لا يكبح هذه المآسي ولا يمنع تكرارها؛ بل قد يكون أحد مسبّبات النزاع والخصومات في الوقت الحاضر.
في كتابك " كراهيات منفلتة" تطرّقت إلى إمكانية جعل مشاعر البشر وانفعالاتهم عرضة للتلاعب السياسي، وصراع لا يهدأ؛ كيف يكون ذلك؟
كنت أميّز بين وظيفة الكراهية عبر التاريخ كوسيلة لتلاحم الجماعة والأمة، وبين وظيفة الكراهية في الوقت الراهن؛ حيث تحوّلت إلى وسيلة فعالة ومربحة لكسب المزيد من المصالح السياسية. كان الآخر المكروه طوال التاريخ يقدّم خدمة كبيرة تضمن التلاحم داخل الجماعات والأمم التي بنت تماسكها الداخلي من خلال تصريف طاقة الكراهية باتجاه هذا الآخر المكروه. واللافت هنا أن خطاب الكراهية في التاريخ لم يكن يتوجّه إلى هذا الآخر المكروه؛ بل إلى أبناء الجماعة أنفسهم في محاولة إلى “إقناع المقتنعين” وحبسهم داخل سياج جماعتهم عبر شيطنة هذا الآخر البغيض المكروه؛ بمعنى أن الآخر المكروه كان هو موضوع خطاب الكراهية، لكنه لم يكن متلقيه المستهدف، وهو الأمر الذي اختلف في العصر الحديث؛ حيث صارت الكراهية تستهدف استفزاز هذا الآخر المكروه أو تحقيق مكاسب سياسية؛ فاليميني المتطرّف، على سبيل المثال، لن يتورّع عن إثارة كراهية الآخرين المكروهين من أجل مكاسب انتخابية تأتيهم من أصوات أبناء جماعتهم اليمينيين، والأمر كذلك يحدث مع الطائفيين والعنصريين وغيرهم.
وهذا تحوّل مهم وخطير في وظيفة الكراهية عبر التاريخ، لأنه يجعل مشاعر البشر وانفعالاتهم (الكراهية هنا) عرضة للتلاعب السياسي، كما أنه يضع هذه المشاعر في قلب لعبة الصراع على السلطة، وهذا صراع لا يرحم ولا يهدأ، والمنخرطون فيه لا يتورعون عن استخدام كل الأسلحة المتاحة من أجل كسب هذا الصراع حتى لو اضطرهم ذلك إلى إثارة الكراهيات داخل مجتمعاتهم. وهؤلاء لا يتفكّرون في خطورة هذه الإثارة ولا في انعكاساتها، ولا في أن هذه الكراهيات المنفلتة – سواء كانت حقيقية أو مصطنعة – يمكن أن تتحوّل، في أية لحظة، من كراهيات مربحة إلى كراهيات قاتلة ومخيفة.