يتمحور دور السعودية كدورٍ مركزي في حلّ القضية الفلسطينية انطلاقًا من أنّها صاحبة مبادرة السلام العربية 2002، والتي نصّت على إقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية، وخروج الإسرائيليين من الأراضي الفلسطينية المحتلة على أساس حدود 1967، وسبق وأعلنتها في مواقف كثيرة؛ لكن مصادر عديدة تذكر وجود علاقات سريّة بين الطرفين، وإنْ ظلّت طيّ الكتمان لعقود من الزمن.
هذه العلاقات السرية تطرح تساؤلات هامّة أبرزها: لماذا تطارد إسرائيل السعودية في كلّ محفلٍ؟ وماذا سيعود بالنفع على إسرائيل جراء إعلان تطبيع كامل بين البلدين؟ وهل يمكن أن يمر التطبيع عبر بوابة إيران بوصفها “العدو المشترك بينهما”؟ وهل سيتم هذا التطبيع في عهد ولي العهد الحالي، الأمير محمد بن سلمان؟
تاريخٌ ممتد
يشير إيلي بوديه، المحاضر في قسم الإسلام ودراسات الشرق الأوسط في الجامعة العبرية بالقدس، في ورقته البحثية: “السعودية وإسرائيل: من السرية إلى الارتباط العلني 1948-2018”، إلى أنّ البلدين يرتبطان بتحالف سري ضد أعداء مشتركين، والذي تطور إلى علاقات ثنائية غير مباشرة واجتماعات سرية بين الحين والآخر، والنتيجة علاقة تعكس في نفس الوقت العداء والتعاون”.
ويرى بوديه أنَّ “العلاقات السعودية-الإسرائيلية تجسّد الدبلوماسية الهادئة؛ تنعكس في كل من الاتصالات والتفاهمات الصريحة والضمنية المخفية عن الهيئات المحلية والجهات الفاعلة الخارجية الأخرى”، موضّحًا أنّه “رغم أنّ هذه العلاقات تتم في سرية وتكتم، ويتم نفيها عند الكشف عنها، إلا اندلاع الربيع العربي في عام 2011 وتزايد تأكيد إيران ودعمها للميليشيات الشيعية في المنطقة، أظهر الروابط الخفية بين إسرائيل والسعودية للعلن، كجزء من خطّة السعودية لاستخدام الورقة الإسرائيلية والأمريكية كرادع ضد إيران”.
وتشير بعض التقارير إلى أنَّ السعودية وأثناء حرب اليمن في 1962، التي كانت إسرائيل متورّطة بها لإمداد الملكيين اليمنيين المدعومة من السعودية أيضًا، فهناك تلميحات بأنّ كمال أدهم، رئيس المخابرات العامّة السعودية كان على علم بأنّ إسرائيل تنتهك المجال الجوي السعودي لكنّها غضّت الطرف.
كانت مبادرة لسلام التي طرحها ولي العهد السعودي آنذاك الأمير فهد بن عبد العزيز التي تم الإعلان عنها في 1981، نقطة تحوُّل في علاقة السعودية بإسرائيل، حتى مع الرفض الإسرائيلي لهذه المبادرة، وفي سبتمبر 1981 جنح زورق صاروخي إسرائيلي على الشواطئ السعودية نتيجة لخلل، وسرعان ما طلبت إسرائيل من أمريكا طمأنة السعوديين بأنّه خطأ بشري ولم يكن عملًا عدائيًّا.
السعودية وإسرائيل قد يجتمعان في بعض المناسبات الإقليمية والدولية "بما يخدم المجتمعات الإنسانية، وبعض القضايا السياسية التي تكون إسرائيل طرفًا فيها
فواز العنزي Tweet
وفقًا لصحيفة “هآرتس” التي ذكرت الواقعة؛ فإنّ الإسرائيليين طلبوا الحصول على إذن لتخليص الزورق وإبحاره دون أي تدخّل سعودي، وافق السعوديون شريطة أن تظلّ عملية الإنقاذ في سرية حتى تنتهي، وألا تستخدم إسرائيل معدّات ثقيلة، وكانت لتلك الاتصالات السرية الكلمة العليا في حل الأزمة دون معرفة أحد.
بعد حرب الخليج (1990-1991)، أعلنت السعودية أنّ الجلسة الافتتاحية لمؤتمر مدريد للسلام سيحضرها مراقب من مجلس التعاون الخليجي، واختير من يُعرف بـ”مهندس التطبيع الإسرائيلي-السعودي” الأمير بندر بن سلطان كممثل عن مجلس التعاون الخليجي، وهو سفير السعودية في أمريكا، ورئيس المخابرات السعودية السابق، وهو أوّل اجتماع يجمع بين مسؤولين من الدولتين، ولكن ليس بشكل رسمي.
بعد ذلك التقى أوري سافير، مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية، بالأمير بندر بن سلطان في واشنطن العاصمة، وفي عام 1992 التقى نائب وزير الخارجية الإسرائيلي، يوسي بيلين، بنظيره السعودي، وعُقدت معظم الاجتماعات في جلسات عامة، لكن بيلين ذكر أنه التقى ذات مرة بالممثل السعودي على انفراد، في عام 1994، في كندا.
في 2018؛ التقى رئيس أركان الجيش الإسرائيلي آنذاك، غادي آيزنكوت، بنظيره السعودي، الفريق فياض بن حميد الرويلي، على هامش مؤتمر في واشنطن لمكافحة المنظمات المتطرفة، وفي حوار أجراه آيزنكوت أشار إلى أنّ “إسرائيل والسعودية متفقتان على أنّ إيران التهديد الحقيقي والأكبر للمنطقة”، وأن إسرائيل مستعدة لتبادل المعلومات مع السعودية، في ضوء المصالح المشتركة العديدة للبلدين.
ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان ذاته، يؤمن- وفقًا لتصريحاته لمجلة أتلانتك الإخبارية الأمريكية- “أنّ الفلسطينيين والإسرائيليين من حقهم أن تكون لهم أراضيهم الخاصة بهم”، وهو التصريح الأوّل الذي يدل على تحوُّل علنيّ في الموقف السعودي تجاه إسرائيل.
وقال أيضًا: “هناك مصالح مشتركة بيننا وبين إسرائيل، وإذا حل السلام فسوف تكون هناك مصالح كثيرة بين إسرائيل ودول مجلس التعاون الخليجي”.
مطاردة وشيكة النهاية
لكنّ على الرغم من كلّ ذلك، إلا أنّ “المطاردة” الإسرائيلية للسعودية في كل محفلٍ لا تخفى على أحد؛ فعلى الرغم من كلّ تلك الاتفاقيات التي وُقعّت من أجل تطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية؛ إلا أنّها لازالت تأمل في علاقاتٍ طبيعية “تحديدًا” مع السعودية.
يرى الخبير الاستراتيجي السعودي، فواز العنزي، خلال حديثه مع “مواطن”، أنّ السعودية وإسرائيل قد يجتمعان في بعض المناسبات الإقليمية والدولية “بما يخدم المجتمعات الإنسانية، وبعض القضايا السياسية التي تكون إسرائيل طرفًا فيها”، معتبرًا أنّ “إسرائيل دولة حبيسة سياسيًّا، وعلى الرغم من علاقات التطبيع، إلا أنّ الجانب الاجتماعي والفكري والثقافي لكثير من المجتمعات العربية لا يقبل إسرائيل”.
وتشير بعض المواقع الإسرائيلية، كــ “يديعوت أحرونوت” المعروف بقربه من الحكومة، إلى أنّ رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، قد يدفع الثمين والغالي لتطبيع العلاقات مع السعودية، وأنّه “قد” يتخلّى عن تعزيز سياسات ضم مناطق من الضفة الغربية، وذلك بعد الاتفاق مع الكتلة اليمينية المتطرفة التي شكّلها، والذين لن يقفوا في طريق نتنياهو مقابل تطبيع العلاقات مع الدولة ذات المكانة الدينية الهامّة في العالم الإسلامي.
بينما الكاتب السعودي، عبد الله الجريوي، يوضّح خلال حديثه لـ”مواطن” أن الإسرائيليين لا يطاردون السعوديين، بينما “هي علاقة قائمة بين الطرفين على أساس تبادل المصالح بين السعودية والكيان الصهيوني وهذا ليس بجديد؛ لكن الفرق هو أن الكيان الصهيوني في الفترة الأخيرة يحاول إبراز هذه العلاقة بشكل علني ويعززها بشكل أكبر حتى تصل في النهاية إلي التبادل الرسمي بين السفراء”، على حدّ قوله.
في 19 يناير 2023، التقى نتنياهو بمستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، وأجرى معه محادثات تركّزت على البرنامج النووي الإيراني وتطبيع العلاقات بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية، وفق بيان صادر عن مكتبه.
وفقًا لعديد من المواقع الإسرائيلية؛ فإنّ نتنياهو وحكومته اليمينية قد وضع التطبيع مع السعودية كأولوية قصوى بعد تنفيذه “لاتفاقيات إبراهيم” في 2020، لكن ربما جاءهم الردّ علنًا على لسان وزير الخارجية السعودي، فيصل بن فرحان، أنَّ “تطبيع علاقات بلاده مع إسرائيل لن يحصل قبل منح الفلسطينيين دولة”.
على الرغم من ذلك فإنّ السياسي الأمريكي والذي شغل مستشارًا أول لشؤون جنوب آسيا والشرق الأوسط لآخر أربعة رؤساء في طاقم موظفي مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، بروس ريدل، يرى في حديث خاصّ لـ”مواطن” أنّ “تشكيل الحكومة الأكثر يمينية في تاريخ إسرائيل يضمن عدم اعتراف السعوديين بهم والابتعاد عن التطبيع”.
العائد لن يكون بمثل الصفقة!
السؤال الذي يدور في ذهن البعض الآن هو: لماذا تلحّ إسرائيل للتطبيع مع السعودية تحديدًا؟ وهو ما يجيب عليه الخبير في الشؤون الإسرائيلية وأستاذ الدراسات الإسرائيلية الحديثة بجامعة الإسكندرية المصرية؛ دكتور أحمد فؤاد أنور، فإنّ “الجانب الإسرائيلي يعلم جيدًا مكانة السعودية، من حيث الموقع والتأثير في الاقتصاد”.
ويلفت في حديث خاص لـ”مواطن” إلى أنَّ “مراجعة السعودية لبعض السياسات القديمة وانفتاحها على العالم محط اهتمام من الجانب الإسرائيلي، ويسعى بشكل كبير للاستفادة من السياسات الجديدة، إلى جانب الضغط الأمريكي لكي يتم فتح -على الأقل- المجال الجوّي السعودي أمام بعض الرحلات الإسرائيلية”.
ويضيف: “لفتح المجال الجوي تأثير معنوي وعائد اقتصادي، علاوة على أنّ التعاون في مجال الأمن مهم، ويرى الجانب الإسرائيلي أنّ هناك أفقًا مشتركة للتعاون خاصّة في مواجهة الجانب الإيراني”.
يرى الأمير محمد بن سلمان - وفقًا لتصريحاته لمجلة أتلانتك الإخبارية الأمريكية- "أنّ الفلسطينيين والإسرائيليين من حقهم أن تكون لهم أراضيهم الخاصة بهم
في يوليو 2022، ضجّت وسائل الإعلام بتقارير تفيد أنّ الشركات الإسرائيلية -العال وأركيا: أكبر شركات الطيران في إسرائيل؛ طالبت السعودية بالسماح للتحليق فوق أجوائها، وتغيير مسار الرحلات الجوية المقرر إجراؤها إلى وجهات في الشرق الأقصى، مثل بانكوك في تايلاند وجوا الهندية، بما يقتصر مدّة الرحلات لثلاث ساعات تقريبًا، لكنّ دون ردّ من السعودية.
لكنّ في الشهر ذاته؛ وقبل زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن؛ فإنَّ السعودية عبر هيئة طيرانها المدني أعلنت فتح أجواء المملكة لجميع الناقلات الجويّة التي تستوفي متطلبات الهيئة لعبور الأجواء، وذكرت أنّ “ذلك يأتي ضمن التزامها باتفاقية شيكاغو 1944، والتي تقتضي عدم التمييز بين الطائرات المدنية المستخدمة في الملاحة الجوية”، لكن دون الإشارة إلى إسرائيل صراحة، وذكر الرئيس الأمريكي قبل زيارته أنّه سيكون أول رئيس “يسافر من تل أبيب إلى جدّة”.
ويوضّح الخبير الاستراتيجي السعودي العنزي أنَّ “التطبيع الإسرائيلي السعودي- إذا حدث- سيردم الفجوة التي بين إسرائيل والشعوب العربية، ويأتي في مقدّمتها الفجوة الاجتماعية والفكرية”.
بينما تذهب ياسمين فاروق، الباحثة الزائرة في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، إلى أنّ “إضفاء طابع الرسمية على العلاقات السعودية الإسرائيلية سيساعد كل دولة على تحقيق عدد من الأهداف الاستراتيجية والعسكرية، لكن النتائج لن تكون جوهرية وتحويلية كما يزعم كل طرفٍ من البلدين”.
تشير في مقالها المنشور على موقع معهد كارنيغي للسلام الدولي إلى عدد من الأهداف لن تتحق، مثلًا؛ لن يؤدي إلى مزيد من الاستقرار في الشرق الأوسط، ولن يدّعم مصالح واشنطن في الشرق الأوسط، ولن يساهم في اتباع سياسة أكثر اعتدالاً للسعودية.
التطبيع بالخوف
يمكن القول بأنّ التطبيع بالخوف سيكون هو الثمة الغالبة على أي محاولات للتطبيع بين إسرائيل والسعودية؛ وهو الخوف من التمدد الإيراني في المنطقة، لذلك يرى بروس ريدل، أنّ “السعودية ليس لديها ما تكسبه من التطبيع مع إسرائيل في فترة نتنياهو الحالية بسبب صعود اليمين المتطرف بقوّة؛ لذلك يمكن أن يستمر التعاون السري ضد إيران”.
يستشهد “العنزي” بحديث وزير الخارجية السعودي الذي قال فيه إنَّ “التطبيع السعودي الإسرائيلي ما هو إلا خيار استراتيجي يجب أن يكون في نهاية العملية وليس في بدايتها، وهو الخيار السعودي الذي لن تقبل به بسبب ما قد يمليه عليها هذا التطبيع من بعض المتغيّرات في السياسات”.
وفقًا للعنزي فإنّ “إسرائيل تسعى بكل ما تملك إلى التقارب من الرياض، وذلك لأهمية السعودية كمكانة اجتماعية وسياسية في قلوب الشعوب الإسلامية والعربية”.
لكنّ “أنور” يرى عكس ذلك؛ حيث يؤكد أنَّ الضغوط الأمريكية بشأن التطبيع تتراجع، مع اهتمام واشنطن بالشرق الأقصى في الوقت الحالي، طالما أنّ الأخيرة لا تتحالف مع السعودية بشكل كامل في مواجهة الأخطار، وكان أبرز الشواهد على ذلك هو “غضّ الطرف الأمريكي استهداف مواقع سعودية مدنية من قِبل ميليشيات مدعومة من إيران”.
آجلًا أم عاجلًا سيحدث التطبيع الذي أصبح وشيكًا بين السعودية وإسرائيل، لكنّ المؤكد أنّه لن يحدث في عهد الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود، لكنّ وفقًا للمتاح من المعطيات فإنّ العاهل السعودي لا يزال ثابتًا على موقفه من مقاطعة إسرائيل ما لم يحصل الفلسطينيون على دولة منفصلة، على عكس الابن، ولي العهد السعودي، الذي يؤيّد لفكرة التطبيع.