يفترض أن تمارس الدول الديمقراطية دون استهلاك إعلامي لتجميل المشهد السياسي، وهو أمر لا نلمسه باستمرار في دول المنطقة العربية التي تقمع ممارسات الديمقراطية، وتسمح لما هو أشد قساوة؛ كالقمع بكافة أشكاله.
الديمقراطية هي مجموعة من القيم والمباديء، تهدف لمشاركة أكبر وتنمية ومساواة بين الأفراد، كما تعمل على بيئة تحترم حقوق الإنسان، وتقوم على ممارسة إرادة الشعب التي يعبر عنها بحرية، مثل اختيار صناع القرار والحق في محاسبتهم.
وأن نجد حاكمًا على رأس السلطة يقول: “لم أعد أملك الطاقة لأربع سنوات أخرى”، الأمر يعد مختلفًا وجديدًا لمن يعيش في بلد لا ينتخب حكومته كل أربع سنوات، يصعب فهمه واستيعابه إن كنت تعيش في بيئة تحكمها الطائفة والقبيلة، تفرق بين الناس وتسلب الحقوق، وتحكم بقبضة من حديد وتملأ الجيوب كما تشاء، ومن دون محاسبة.
هل نجد حاكمًا عربيًا يعترف بأنه أصبح غير قادر على إدارة دفة الحكم، ويقر بإعطاء الفرصة لمن هو أهل لها؟
وإذا حدث التنحي عن السلطة؛ فلا بد من أخذ ما يكفي من المال لبدء المشاريع الخاصة، ولا يهم إن كان هذا الأخذ من أموال الشعب والضرائب التي يدفعها مقابل خدمات لا يجدها من حكومة بلده.
لكن في بلد آخر وفي سياق آخر مثل نيوزيلندا، تفقد السلطة وتتنازل عنها بكل بساطة وتواضع أمام الرأي العام ووسائل الإعلام، تخرج وتصارح الشعب دون مكياج، وهو ما حدث مع جاسيندا أرديرن، رئيسة وزراء نيوزيلندا.
"الواقعية الحالمة".. في التنحي عن السلطة
خرجت جاسيندا في خطاب مؤثر إلى شعبها تصرح بإعلان تنحيها عن السلطة، وأن ذلك بسبب صعوبة مهمة قيادة البلاد في الوقت الحالي، قائلة إنها “لم تعد تملك ما يمكن أن تعطيه”.
كلمات هذه السيدة في خطاب التنحي تفتت تقاليد النظام الأبوي في الحكم، تمثل أرديرن نموذجًا متميزًا، إن لم يكن مثاليًا، ليس فقط داخل نيوزلندا بل خارجها؛ فحتى ونحن نستمع إلى كلامها سنقارن بواقع نعيشه كل يوم في منطقتنا العربية، التي تخلو كليًا من مثل هذا النموذج.
فنحن لا نعرف إلا التشبث بكرسي السلطة والحكم من المهد الى اللحد، وبالتالي تعيش شعوبنا تحت تصرفات من يحكمها ويتصرف في ثرواتها، غير آبه بالحكم الرشيد أو بالعدالة الانتقالية. فهل نجد حاكمًا عربيًا يعترف بأنه أصبح غير قادر على إدارة دفة الحكم، ويقر بإعطاء الفرصة لمن هو أهل لها؟
وبسبب حالة الجمود في التخلي عن السلطة، إذًا لا يعترف الحكام في أي مرحلة على انعدام القدرة على القيادة، جاءت ثورات الربيع العربي في العام 2011 وتلتها اعتراضات شعبية في سنوات أخرى، لأن ما من سبيل لرفض من يدير السلطة ويستمر من خلال شرعية فاسدة.
وعلى عكس ما نعيش ونعرف كعرب، أعلنت رئيسة الحكومة النيوزيلندية الشهر الماضي قرارها بالتنحي، موضحة تخليها عن منصبها في 7 فبراير/ شباط، من العام الجاري 2023 داعية في الوقت نفسه إلى انتخاب البرلمان النيوزيلندي في 14 أكتوبر/ تشرين الأول من العام 2023.
تجربة حكم ناجحة ولكن
لقد عرف عن أريردن البراعة في المفاوضات سياسية؛ إذ أعادت حزب العمال المتعثر إلى السلطة، وذلك في ائتلاف حكومي كان صعب المنال، بعد أن كانت الاستطلاعات تفيد بكارثة انتخابية تاريخية قبل نحو شهرين من تلك الانتخابات، ووصلت إلى موقع رئيس الوزراء في العام 2017.
كان انتصار أرديرن في الانتخابات “من أجلنا جميعًا”؛ هكذا جاء تعليق رئيس حزب العمال البريطاني السابق، جيرمي كوربن “المثير للجدل” في برقية التهنئة بوصولها إلى رأس السلطة، موضحًا لها مصاعب تلك المرحلة من صعود الشعبوية واليمين المتشدد.
ولم يغفل مرشح الرئاسة الأميركي السابق، بيرني ساندرز، عن معنى أن تصل شخصية تتطابق رؤيتها للعدالة الاجتماعية ودولة الرخاء مع أفكاره التقدمية، أما بعض الساسة وغيرهم من النخب الثقافية وجدوا في أريردن قدوة لهم في سياساتها التقدمية.
ولا يمكن تناسي كيف التقطت وسائل الإعلام العالمية الفيديوهات والصور وهي حاملة طفلتها الرضيعة على صدرها؛ إذ جاءت الى اجتماع الأمم المتحدة مع طفلتها الرضيعة
منذ دخولها البرلمان في العام 2008، جذبت أرديرن بشخصيتها وأفكارها التقدمية، فئات لم يكن غيرها من رجال يسار الوسط قادرين على مخاطبتهم في ثلاث دورات انتخابية سابقة، حتى أصبحت تمثل صوت من لا صوت له في فئات الشباب والنساء والأقليات للتصويت لحزبها “العمال”، وأصبحت بذلك الصوت القادر على التغيير في نيوزيلندا رغم التحديات الكثيرة.
جاءت إلى هذا المنصب المنتخب وفي ذاكرتها صور الفقر بين الأطفال، وأحلام اليسارية في سن العدالة الاجتماعية ومحاربة عدم تكافؤ الفرص. في سنّ مبكرة انخرطت في السياسة؛ فأصبحت اليسارية المراهقة التي تعرّف نفسها بأنها ديمقراطية اجتماعية تقدمية.
مواضيع ذات صلة
غادرت منصبها هذا الشهر بدموع مخنوقة، ومعترفة بأنها لم تعد قادرة على إكمال مهمتها الموكلة إليها ديمقراطيًا من شعبها؛ فالمهمة لم تكن سهلة على أرديرن التي اخترقت الحكم في العام 2017 لتنضم إلى “نادي النساء” الحاكمات في 13 بلدًا آنذاك من 190 دولة.
عِبر كثيرة نستفيد منها من بلد بعيد جدًا، يعلمنا أن هناك عمرًا زمنيًا لبعض الوظائف في الدولة، وأنه لا يمكن أن تبقى فيها الى الأبد.
صحيح أنها ثالث رئيسة حكومة في بلدها خلال العشرين سنة الماضية، لكنها في منصبها قدمت تجربة مختلفة عن قدرة المرأة من حيث الامكانيات التي قد تخرج من طاقتها كأم وزوجة ورئيسة وزراء.
التوافق ليس بالأمر السهل لمثل وضع أرديرن ولكنها نجحت فيما أخفق الرجال؛ استطاعت مثلًا أن تعطي صورة رائعة للأمومة وربط وظيفتها السياسية مع الجانب الإنساني؛ إذ لا يمكن تناسي كيف التقطت وسائل الإعلام العالمية الفيديوهات والصور وهي حاملة طفلتها الرضيعة على صدرها؛ إذ جاءت الى اجتماع الأمم المتحدة مع طفلتها الرضيعة وزوجها خلال قمة نيلسون مانديلا للسلام في نيويورك، وأيضًا محاولاتها لإقناع نظيرها الاسترالي آنذاك بشأن التخفيف عن القرارات القاسية بشأن اللاجئين والمهاجرين.
كما نجحت في تعاملها مع حادثة الإرهاب لمسجد مدينة كرايست شيرش الموجه ضد مسلمين بلادها بالعام 2019 التي ذهب ضحيتها واحد وخمسون مصليًا على يد إرهابي منتمٍ الى جماعات البيض. بفطرتها السياسية؛ استطاعت تخطي هذه الحادثة والفتنة في مجتمعها، وحظيت بإشادة دولية.
إلى جانب نجاحها بحل أزمة كوفيد 19، إلا أنها تعرضت لكثير من النقد والتنمر من قبل جماعات اليمين الشعبوي الذي يكرهها، وآخرين من مؤيدي نظريات المؤامرة حول عدم وجود الوباء كوفيد 19 بحسب زعمهم. وقد يكون هذا جانبًا وسببًا في التنحي ولكن ليس السبب الرئيسي.
دروس مستفادة من "نموذج حالم"، فهل يتحقق في بلادنا؟
دروس نيوزيلندا كثيرة، ولعل واحدة منها ما جاء في تقرير التنمية البشرية 2022 عن دعم النمو الشامل من أجل تعاف مستدام يشمل الجميع، بتقديم التنمية البشرية كمبدأ أساسي. وهو ما لن يتم إلا عبر الاستفادة من تجارب وإخفاقات الحكومات السابقة في تسيير دفة التغيير. عِبر كثيرةٌ نستفيد منها من بلد بعيد جدًا، يعلمنا أن هناك عمرًا زمنيًا لبعض الوظائف في الدولة، وأنه لا يمكن أن تبقى فيها الى الأبد.
إن جيل اليوم للشباب العربي هو أكثر تعليمًا ونشاطًا بل وارتباطًا بالعالم الخارجي، مما ينعكس على مستوى وعيهم بواقعهم وتطلعاتهم لمستقبل أفضل. ولهذا فما يحدث في نيوزيلندا يؤثر في كيفية التفكير ووعي الشباب بقدراتهم وحقوقهم، الذي يصطدم بواقع يهمشهم ويسد في وجوههم قنوات التعبير، والمشاركة الفاعلة.
وتغير العقود الاجتماعية يتبع تغير ديناميات السلطة؛ فتحدد التوقعات من الخطوات الحكومية وقدرة المواطنين على رفع المطالب وتنظيم أنفسهم والحصول على التمثيل الصحيح والمشاركة في عملية صنع القرار، حتى لا تضعف العلاقة مع المواطن وتعيق عمليات التنمية؛ فتغيير الأوجه في السلطة ضرورة، كما هو في مواقع صنع القرار الأخرى من مؤسسات الدولة؛ فهل يمكن لنا أن نتعلم من نيوزلندا؟
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.