ينقسم الناس في رؤيتهم للنبوات إلى فريقين:
الأول وهم المؤمنون الذين يقولون إن النبي يأتي في زمان شاع فيه الانحطاط الخلقي والعقلي بما يؤدي لشيوع القهر والظلم والخرافة، وبما أن حياته كانت نقية ومشهورًا بالحكمة والعقل والاتزان؛ يحدث الاصطفاء باختياره من الله لإرسال رسالته إلى البشرية؛ فيدعي النبي أن معه رسالة من الله هي مضمون الوحي الذي نزل عليه، ثم يقدم نفسه كرسول إلى مجتمع خاص أو عام فيصدقه الضعفاء والمضطهدون أولاً بصفتهم أكثر المتضررين من الوضع القائم، ويصدقه أيضًا الباحثون عن الحقيقة، بينما يكذبه الأقوياء وأصحاب المصالح..
هذه الرؤية يختلف معها اللا دينيون الذين يقولون إن أزمنة انحطاط الأخلاق طبيعية بحكم الصيرورة، وبالتالي فهذا الانحطاط يعقبه تطور وارتقاء حتمي بحكم الصيرورة والتغير الدائم من حال إلى حال، وأن الحكماء والفلاسفة ومصلحي التاريخ في معظمهم لم يدعوا لأنفسهم النبوة، وبالتالي ليس شرطًا أن يكون النبي مصلحًا لوضع فاسد كي يدعي نبوته ويلزم الآخرين بتصديقه، وكذلك يقولون إن الاتصال بين الخالق والناس مستحيل في حال اليقين بقصور الإنسان ذاتيًا وموضوعيًا، بينما ينكر الملحدون وجود الإله، وبالتالي فمن يدعي النبوة هو كاذب دون الالتفات لعلاقته مع الرب..
في الحقيقة نحن بحاجة لرؤية موضوع النبوات من منظور مختلف، وإلى توسيع الدائرة لتشمل قضايا أخرى وجوانب لم تُطرح من قبل، أو طُرحت على مهل دون انشغال من الباحثين في حل معضلاتها أو فهم جوانبها، ومن تلك القضايا والجوانب التي أردت مناقشتها اليوم هي مسألة الصيرورة التي انطلق منها اللادينيون لنفي النبوات؛ فالصيرورة مثلما كانت دليلا على النفي هي دليل راسخ على الإثبات في حال لو انطلقنا من فكرة صيرورة العقل والعلم أيضًا؛ فكما أن العالم يتغير كحالة كلية يتغير العقل والعلم أيضًا كجزئيات ضمن هذا التغير الكلي، وحدوث الصيرورة للعقل والعلم يعني أنهما ليسا أشياء ثابتة أو مطلقة وجب اتباعها والثقة فيها دائمًا، وبالتالي فالبشرية بحاجة إلى نص ثابت مُلزم لها كي لا يؤدي هذا التغير إلى انحدار لا يتوقف، رأينا في بعض مشاهد التاريخ أنه ينتج أحيانًا مذابح وإبادات جماعية لشعوب كاملة، وهذا خطر كبير على مسار البشرية يستدعي النظر..
هذا النص الثابت وجب مناقشته لفهم معاييره المتفق عليها ليصبح دستورًا بشريًا للفرد، أزعم أن جوهر النبوات لم يغادر هذا النص ولم يبرح الانشغال عنه وعن مبدأ صياغته، وبوضوح أكثر؛ فالنص الثابت للفرد هو (النبوات) ويختلف عن النص الموجه للجماعة، لأن الخطاب الجماعي متغير ومحدود في الزمكان، وأبرز مثال على ذلك هي (آيات الحرب والقتال والصراعات والأعراف القبلية) ، فسائر الكتب المقدسة التي ضمنت فيها تلك الآيات الجماعية وضح من تأويلها في عصر لاحق أنها ليست مطلقة وأنها ليست جوهرًا في الدين حتى لو قال بذلك البعض
ففي الفكر الإسلامي مثلاً نرى تقييد هذه الآيات من عموم المؤسسات الدينية في العصر الحديث ونزعها عن الإطلاقية، بينما يحلون محلها (آيات الأخلاق والتسامح والمعاملات) التي في إحدى الإحصائيات بلغت أكثر من 1500 آية، مما يعني أن هذا البديل الأخلاقي يمثل (ربع الدين) في الواقع، وهي نسبة كبيرة تحتلها مسائل المعاملات إذا ما علمنا أن النسبة الباقية تتضمن قصصًا وتشريعات وعبادات وعقائد وإيمانًا وأدعية وأذكارًا؛ بينما تحتل آيات السياسة والحرب نسبة ضئيلة جدًا لا تتعدى 2%، مما يجعل فكرة تقييدها مقبولة؛ ليست فقط من الجانب الأخلاقي، ولكن من الجانب التشريعي والفقهي أيضًا. (انظر مقالي بعنوان: “معضلة خلط الدين بالدولة. الأسباب والحلول” المنشور في 4 يوليو 2022 على موقع الحوار المتمدن).
إذا صادرنا حق المؤمن في تدينه نكون قد نزعنا منه أثر ذلك النص الثابت الفردي الموجه إليه، والذي يختلف كليًا وجوهريًا عن خطاب الجماعة
هذا النص الثابت الذي جاء به الأنبياء موجه للفرد نظرًا لطبيعة تفكير ذلك الفرد المشجعة للعقل والشك والاعتراض والنقد، بينما على النقيض نرى طريقة تفكير الجماعة تميل للطاعة والانقياد، وهذا ما جعل من فكرة الدستور أنها موجهة فقط للجماعة بصفتها ملزمة لعموم الشعب بالطاعة والانقياد، لكنها لا تهتم لطريقة تصميم الفرد لأخلاقه أو مساره في التزامه بالقانون، بمعنى أن الدستور والقانون يعاقبان المواطن على القتل والسرقة – مثلاً –، لكنهما لا يلتفتان ولا يهتمان بطريقة ابتعاد المواطن عن القتل والسرقة، فالدين هو الذي يفعل ذلك عند المؤمن أو الضمير والأخلاق المجردة عند اللا ديني، والأعراف والتقاليد عند كليهما، ودائمًا يكون الباعث على الالتزام بالقانون هو المصلحة الشخصية خوفًا من العقاب وأملاً في الثواب، أو لنيل رفعة ومنزلة اجتماعية جراء هذه الممارسة الأخلاقية المنضبطة.
إذا صادرنا حق المؤمن في تدينه نكون قد نزعنا منه أثر ذلك النص الثابت الفردي الموجه إليه، والذي يختلف كليًا وجوهريًا عن خطاب الجماعة؛ فالنصوص الدينية التي جاء بها الأنبياء تحتوي على أوامر؛ منها (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة والصدقات واعدلوا واتقوا…) وغيرها من الأوامر، هنا يكون النص بلفظ الجماعة، لكنه موجه للفرد على شاكلة من يأمر العمال في شركته بالجودة والضمير والأمانة؛ فيفهم العامل وأنه مكلف بتحسين جودة منتجه، وأن يكون أكثر أمانة لمصلحة الشركة، لكنه ليس من حقه أن يجبر زميله على فعل نفس الأمر سوى عن طريق مشرفين وإداريين، هم في النظام الجماعي من يمثلون سلطة القانون، ومن تلك الزاوية يختلف خطاب الفرد عن الجماعة من حيث النوع، لكن بينهما صلة رابط أن التزام الفرد بالأوامر هو الوسيلة لنيل الحوافز والترقيات والمنح ، في مقابل عدم التزامه يصبح أكثر عرضة للعقاب والخصم.
وهنا العلاقة بين القانون والدين؛ فالمؤمن يلتزم بالأخلاق المأمور بها كوسيلة عقائدية للثواب الأخروي، لكنها وسيلة عملية أيضًا للترقي والمنح والحوافز في الدنيا، ومن تلك الزاوية وصل بعض الفقهاء لحكمة “من صلح دينه صلحت دنياه“، بمعنى من استقام في دينه وطبق معاييره الكبرى في العدل والأخلاق استقامت دنياه أيضًا وصارت سمعته جيدة وفرصته في النجاح أكبر، لكن في النهاية لا يهتم القانون لكيف يلتزم المؤمن باللوائح، ولكن يهتم بتنظيم علاقة المجموعات ببعضها.
وأنا من تلك الزاوية أنكر على بعض الأخوة اللا دينيين الذين يتسرعون في نفي النبوات دون إدراك هذا الجانب العملي، الذي – ربما – لم يُناقش من قبل، ومفتاح هذا الجانب في عبارة يؤمن بها بعض المثقفين المؤمنين، وهي (أن خطاب التكليف فردي)؛ مما يعني أن الوحي في الحقيقة كان موجهًا للفرد (روحه وعقله ووجدانه وأخلاقه) ، لا أن يحمله على عقاب المجتمع والتأمّر عليهم – من الإمارة والسلطة –، وطريقة تفكير هؤلاء تشبه كثيرًا طريقة تفكير الجماعات الإسلاموية التي فهمت خطاب التكليف بشكل مختلف، فجعلوه جماعيَا حتى صار الدين كله وفقَا لمنظورهم يأمر بالدولة والشريعة والقانون برغم أن نصوص الدين المؤسسة – كما طرحنا في المثال السابق بالقرآن – لم تهتم بهذا الجانب سوى في مساحة ضئيلة جدَا؛ 2%، وسياقها الحربي والسياسي يجعل من فكرة إطلاقها خارج الزمكان هو عمل متهور يُقصد به المصلحة الشخصية، ومن هذه الخلفية رفض المصلحون المسلمون دولة الكهنوت الدينية، ونادوا بتطبيق العلمانية بوصفها النموذج الفكري الإنساني الحديث، والذي لم يغادر مربع الإنسانية ومبادئ حقوق الإنسان التي من المفترض أن تكون على رأس أولويات مصلحي المسلمين وزعمائهم.
ومما سبق؛ فالنبوة إصلاح وتنوير وعلاج لأضرار السائد، وكل من يرفع هذا النداء هو يفعل نفس المهمة عن طريق دعوة سلام وعدل وبناء اجتماعي لبناء سُمعة، على الأقل تجعله مقبولاً ليقيم الحُجة المنطقية والأخلاقية في حال الإنكار، ومن يستدل بقصة الفص الصدغي باعتباره مسئولاً عن صناعة الأديان في المخ؛ فالحقيقة أنها مثلما هي دليل على نفي الدين علميًا – لدى البعض -؛ فهي دليل أيضًا على (صحة الدين) في ذات الوقت، وأن التدين ظاهرة عقلية، والتاريخ يثبت أنه كلما تطور عقل الإنسان يتدين لا العكس. إنما الذي يتطور فقط هي (رؤيته للدين) وتهذيبه من الخرافات والعنف. ومبدأ وجود الدين في الفص الصدغي طبيعيًا كونه يقينًا بالأساس؛ فهذا الفص هو الذي يحوي القناعات واليقينيات حتى لو لم تكن دينية، ولأن المسألة برمتها عملية كيميائية سببية في الأخير. لكن نفي الأسباب وقوانين الكون من ثقافة المسلمين بسيطرة أهل النقل على العقل جعلنا نستغرب مادية التفكير، بينما هي مبررة علميا في رأيي.
يوجد عالم أمريكي من أصل هندي اسمه “راما شاندران” V. S. Ramachandran متخصص في اللاهوت العصبي، أو في علم الأديان العصبي، له تجربة ثبت فيها أن الدين في الفص الصدغي يشكل النسبة الأكبر من العينات، ويُقال إن ملحدًا شهيرًا خضع لتجربة شبيهة لم يستجب فيها فصه الصدغي، لكن استجاب فصه الجبهي الأمامي، وهذا هو المسؤول عن الرغبة والإرادة؛ مما يعني أن التدين مثلما هو رغبة وإرادة؛ فالإلحاد أيضًا رغبة وإرادة في المخ، وقصة الاستدلال العقلي عليه لم تتوقف منذ عصر اليونان وفلسفة الإغريق.
لكن البشرية تمر بأزمات ولا تتعامل مع هذا الطرح بتلك المثالية؛ فالأنبياء أشخاص عاديون، لكن جرى تقديسهم في مراحل تاريخية لاحقة ليُصبحوا زعماء سياسة ومنقذين، لا مُصلحين طُلّاب عدالة. وهذه الجزئية مثّلت عندي اعتراضًا خفيفًا؛ وهو أنه ينبغي التفريق بين كون النبي منقذًا وبين كونه مُصلحً؛، فالأولى تعني أن النبي لن يبقى على صورته الأساسية مجرد رسول “دعوة وهداية واستقامة سلوكية للفرد”؛ بل ستنقله للصورة الجماعية ليصبح زعيمًا مُلهمًا يجري تحري أقواله كلها كمصدر تشريع سلطوي ينافس أو يفوق ما جاء به من كتاب ديني، وهذا الخلط وقعت فيه كل الديانات تقريبًا لأنه في الأخير سلوك بشري غرائزي، لا يُحسن التفريق بين خطاب الفرد وخطاب الجماعة.
وكما رأينا ما حدث في الإسلام؛ حيث جرى تقديس النبي لدرجة أصبح فيها الرسول صاحب كرامات ومُعجزات، وهذا يستدعي النظر في القرآن؛ حيث يخلو تمامًا من هذه الادعاءات؛ بل يرد على الذين طلبوا هذه الأشياء بقوله تعالى: “وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعًا، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيرًا، أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفًا أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً، أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرًا رسولاً” [الإسراء 90: 93] ، وفي آية أخرى: “وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها وما نرسل بالآيات إلا تخويفا” [الإسراء : 59]؛ فالذي حدث هو أن ظلم المسلمون نبيهم واخترعوا له صورة مقدسة هي مصدر نقد النبوات في العصر الحالي.
وبرأيي أن كلام الفارابي عن النبوة والفلاسفة يجب إحياؤه وتدريسه، وصنوف العقل الثلاثة (الفعال والمنفعل والمستفاد) المحكومة بنظرية الفيض الإلهي، ولن أستطرد هنا بكلام الفارابي، لكن ذكره في معرض عدم تقديس الأنبياء مهم لكي يفهم المؤمن جوهر خطاب التكليف والمبني عليه مضمون الرسالة؛ فالصورة التي بناها المتدين عن رسوله مثلما كانت مصدرًا عند اللاديني للنقد؛ فهي أيضًا مصدر كبير للخرافة والوهم، حتى شاعت روايات ونصوص دينية تنسب للنبي صفات قبيحة نشط المصلحون والعقلانيون لنفيها أو تأويلها كي لا تهتز صورة النبوة والدين، لكنهم قوبلوا بحملات من التشكيك والطعن والتكفير، لأن نشاطهم كان موجهًا لتلك الصورة المقدسة العليا التي بناها الجمهور في خياله من أثر التقليد والطاعة.
نقطة أخرى بحاجة لإعادة فهم وهي تتعلق بسؤال: هل النص المقدس كلام الله في الحقيقة أم وهم؟ وبالتالي ينطلقون من قاعدة “غياب الدليل هو دليل على الغياب”؛ فيصبح غياب دليل انتساب هذا النص للإله هو في حد ذاته دليل على أنه مكذوب؛ وهذا غير صحيح؛ فهذه القاعدة المنسوبة للعقل مفتراه، والصحيح ” أن غياب الدليل ليس دليلاً على الغياب والعدم”؛ فنحن لا نرى كائنات فضائية لكن لا يعني ذلك أنها غير موجودة أو يستحيل وجودها، وملخص هذه المغالطة خطأ منطقي شهير يدعى “الاحتكام إلى الجهل”، والصحيح كي نناقش موضوع النبوات عقليًا ينبغي مناقشة أطروحات المؤمنين العقلية والرد أو الإحاطة بكل أسبابهم، وأعتبر أن هذه الدراسة من ضمن هذه الأطروحات التي تستحق المناقشة.
ولنفهم قضية النبوات أكثر أرجو التأكيد على أنه لا يوجد شيء اسمه نسخ أديان لبعضها، لا الإسلام نسخ المسيحية ولا المسيحية نسخت اليهودية، لأن الأسئلة الفورية: اليهودية نسخت من؟
فمما ينبغي إعادة فهمه –مثلاً- أن سؤال “هل القرآن كلام الله” متأخر عن سؤال الألوهية والنبوات، وهذا خطأ منطقي للسائل بطرحه في سياق الناسخ والمنسوخ؛ فهناك مقدمة مضمِرة هي إيمان السائل –أو عدم إيمانه– بالإله والأنبياء، ومن ثم لم يُحرر تلك المقدمة أولاً ليسهل عليه مناقشة أي كتاب مقدس؛ ليس فقط القرآن. ومشكلة منطقية أخرى في سؤال “هل القرآن كلام الله؟” وهو عن افتراض مسبق بتفاضل هذا القرآن وأنه الأعظم –دينيًا- على الإطلاق. ومن ثم فيكون ضرب هذا الأعظم هو هدم لكل الأديان. ومن تلك الجزئية فهو سؤال محبب عند الأخوة اللادينيين لسهولة طرحه وتعزيز فرضيتهم المسبقة، وفي الحقيقة أنا لا أؤمن بذلك؛ فالقرآن هو ذِكر كما أن التوراة ذِكر والإنجيل ذِكر، ومقاصد طرح هذا الذكر في المقدس هو محاكاته لتطور ذلك المقدس، بمعنى أن الأديان في الحقيقة لم تنسخ بعضها كما يزعم الشيوخ، ولكنها تطورت وفقًا للزمان والمكان وبيئة التنزيل، والسؤال يتضمن هذه الفرضية المسبقة التي تقول بإلغاء القرآن للتوراة والإنجيل معًا، وعدم التدبر في كتب السابقين.
وهذه الإشكالية تمثل عندي أحد أكبر مشاكل اللادينيين بالمطلق مع الأديان؛ فهم يتناولون النص الديني كما يتناوله المتشددون المؤمنون بالضبط لقيام الحجة على الدين بالتشدد ونبذ العقل؛ فالله عند المؤمن العاقل المتدبر هو الإله، لكن الحكمة ليست محصورة فقط بالقرآن ولا في كلامه المعروف؛ فهناك أعمال وعظية إرشادية أخلاقية أكثر وضوحًا، ولا تعني ذلك كونها الأفضل فهذا خطأ منطقي، لكنها شروح لمقدس وجب تأمله تخضع لقاعدة (الأنسب) وليس (الأفضل)؛ فالله قادر على أن يأتي بخطاب ديني أفضل وأكثر دقة وعمقًا وعلمًا، لكن دراسة بيئة تنزيل النص تفضي بنا للقول بأن هذا النص كان مناسبًا لهذه البيئة في ذلك الزمان وهذا المكان تحديدًا، فالقرآن نزل قبل 1400 عام بثقافة تناسب العرب (لغة وأسلوبًا) ، لذا فوجود السجع طبيعي لأن العرب يعشقون السجع، وعدم وجود مناقشات فلسفية دقيقة كمناقشات أفلاطون وأرسطو أيضًا طبيعي لأن العرب لم يكونوا آنذاك أهل فلسفة، ومن تلك الزاوية نفهم هذا النص “بلسان عربي مبين” أي يفهمه العرب.
علمًا بأن اللسان مختلف عن اللغة وأكثر شمولاً منها، والذي يحكم على صدقية ذلك النص وهذا السجع هو (التدبر العقلي) مصحوبًا بالرؤية المقاصدية لا الحرفية الظاهرية؛ فالدين مقصد وليس حروفًا وكلمات، ومن تلك الجهة وصل فقهاء الدين لما يسمى “فقه المصالح والمقاصد” غير المبني على نصوص صريحة، وبالتالي فما يحقق تلك المقاصد دون النص يكون قد حقق الدين، وهذه كانت وتظل أكبر ثورة معرفية فقهية بالعقل الإسلامي قام بها فقهاء الأشاعرة والماتريدية، ومثّلت مفتاحًا لتجديد الدين بعيدا عن سلطة النص والمقدس في الأزمان اللاحقة.
ولتسهيل الفكرة فأنت لا تستطيع القول بأن الإسلام هو الطريق الوحيد للخلاص من داخل القرآن نفسه، سيتم جدالك بعدة آيات تنفي وتثبت هذا المعنى، وبالتالي فالإسلام هو طريق خلاص ضمن عدة طرق ذكرت في هذه الآية ” ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءً يجز به “..[النساء : 123] و ” إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحًا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون” [البقرة : 62] ويبقى فهم كلمة (الإسلام) في الأخير وفتح الجدل بشأنها وهل المقصود منها الإسلام بالمعنى السلفي التقليدي، أم بالمعنى الفلسفي أم بالمعنى الأخلاقي الصوفي، أم بمعنى فقهاء علم الكلام؟ وهذه مساحة تناظر وحوار وجدل قديمة أرجو العودة فيها لاتجاهات الفكر الإسلامي القديم ككتاب “نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام” د علي سامي النشار وكتاب “دراسات إسلامية” د. حسن حنفي، وكتاب “تاريخ الفلسفة العربية” د. جمال صليبا، علمًا بأن كتاب النشار طرحه من وجهة نظر سلفية تقليدية كان فيه إقصائيًا لكنه كان أمينا في النقل إلى حد كبير.
ولنفهم قضية النبوات أكثر أرجو التأكيد على أنه لا يوجد شيء اسمه نسخ أديان لبعضها، لا الإسلام نسخ المسيحية ولا المسيحية نسخت اليهودية، لأن الأسئلة الفورية: اليهودية نسخت من؟ علمًا بأنها ليست الديانة الأقدم، فسبقتها الهندوسية وأديان سومر ومصر وفينيقيا والفايكنج وغيرهم.. فهل هذه الأديان سماوية عند القائلين بالنسخ؟ وهل الله كان موجودًا وخالق الكون ورب الناس قبل اليهودية؟ فماذا كانت ديانته الأولى؟ ولو نسخ الإسلام المسيحية؛ فلماذا قال الله (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا)؟ ولو المسيحية نسخت اليهودية فلماذا قال المسيح (جئت لكي لا أنقض الناموس، ومصدقًا لما بين يدي من التوراة)؟
إن القول بأن نسخ الأديان والنبوات والأفكار لبعضها، فوق أنه مضاد للقرآن هو أيضًا كلام غير علمي، لأن صياغة وبناء الأفكار جاءت بالتراكم والاستفادة من التجارب والخبرات
ومن تلك الزاوية اختلف المسلمون في كيفية معرفة الله؛ فقال المعتزلة إن معرفة الله وأحكامه بالعقل، بينما الأشاعرة والحنابلة قالوا إن المعرفة والأحكام بالنص، لكن الماتريدية والشيعة كانوا وسطًا؛ حيث قالوا إن معرفة الله بالعقل لكن أحكامه بالنص، ومن هنا وصلوا لنتيجة مفادها أن برهان الأنبياء لأقوامهم كان عقليًا منضبطًا بأصول الفكر المنطقي المناسب لبيئة التنزيل، كي لا تعترضهم مشكلات؛ منها أن اعتراض خصوم الأنبياء سوف يصبح منطقيًا فيما لو قال النبي إن معرفة الله بالنص، لأن الإشكال سوف يوجه له مباشرة: “أنت مجرد ناقل عن بشر وليس عن الله”، وأذكر أن الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار ناقش هذه الحجة بشكل عملي في إطار حواره مع محمد فريد وجدي؛ فقال إنه لو كان النبي ناقلاً عن بشر فشريعة من نقل عنه لابد وأن تكون عادلة.. وبالتالي فالوحي السابق هو عادل، بينما فقهاء المسلمين مختلفين حول ما إذا كان تحريف الكتب السابقة تأويلاً أو نصًا، فضلاً عن مشكلة أخرى طرحها الشيخ؛ وهي أن شريعة بعض الأقوام المتوحشة الآن لا تختلف عن بعض شرائع الأولين؛ فلماذا رفضنا شريعة هؤلاء وقبلنا شرائع الأولين بوصف أنها عادلة؟
والذي فعل هذا الإشكال قول الفقهاء المسلمين بأن الإسلام نسخ المسيحية، وقالوا النسخ يعني الإلغاء والتبديل، وبالتالي فالقول بإلغاء اليهودية والمسيحية معناه حرب معهم وكراهية متبادلة، علمًا بأن القول بنسخ الأديان هو مصطلح عقائدي لفقهاء المسلمين لا يوجد ما يؤيده في القرآن، علما بأن نسخ الأديان مرادف للقول بنسخ الآيات والأحاديث، والصحيح أنه طالما كل آية وحديث نزلت لسبب في الزمان والمكان؛ فالدين أيضًا كذلك، والقائلون بالنسخ فعلوا ذلك لاعتقادهم أن اليهودية أول ديانة على الأرض وتصديقا لمقولة أن عمر الإنسان 10 آلاف سنة فقط، لم يعلموا أن أديان ما قبل التاريخ مورست قبل 60 ألف عام، وأن عمر الإنسان وأسلافه وصل لــ 4 مليون سنة، وأن أول شكل بدائي للتدين كان في الدفن وطقوس الجنازات.
الحقيقة التي يفر منها الفقهاء ورجال الدين عامة في كل المعتقدات أن الدين فكرة كأي فكرة فلسفية وأيدلوجية واجتماعية وسياسية أحيانًا؛ كل هذه الأفكار تمر بثلاثة مراحل زمنية حتمية هم (النشأة – الصراع – التقليد)، أما زمن النشأة: فهو في حياة المؤسس وأحيانًا جيله الأول توضع فيه ثوابت الدين وفكرته الإصلاحية، بينما زمن الصراع: يكون في الجيل الثاني أو بعد موت المؤسس، وفيها يتصارعون على حقيقة الأفكار والثوابت التي وضعها المؤسس، وأخيرًا زمن التقليد: يكون بعد موت المتصارعين وظهور جيل جديد ينادي بالسلام والتوفيق الفكري، وهؤلاء لا يجدوا أي صلة بينهم وبين المؤسس سوى من كلام المتصارعين فيضطروا لتقليدهم، فيحدث انشقاق الأديان وهدمها في المرحلتين الثانية والثالثة، ودائمًا إذا أردت فهم أي دين أو رسالة وسياقهم الزمني؛ فعن طريق تلك المراحل الثلاث التي وصلت إليها بالاستقراء من فلسفة التاريخ ، والغريب أنها منطبقة على الفلسفات والدول والأحزاب السياسية أيضًا.
إن القول بأن نسخ الأديان والنبوات والأفكار لبعضها، فوق أنه مضاد للقرآن هو أيضًا كلام غير علمي، لأن صياغة وبناء الأفكار جاءت بالتراكم والاستفادة من التجارب والخبرات، والدليل أن الممارسات الدينية والسلوكية جميعها ظهرت أولاً بشكل بدائي ثم أخذت دورتها الطبيعية في التطور، مما يعني أن الأديان في الحقيقة تطورت ولم تُنسَخ، تطورًا لا يعني للأفضل دائمًا؛ بل لعوامل خاصة؛ قد يتطور الدين للأسوأ حسب علم ورغبة وقدرة أصحابه على امتلاك رؤية صحيحة وإمكانية تطبيقه وقدرتهم على هزيمة التحديات، مما يعني أيضًا أنه لا يصلح تناول القرآن ولا قصصه وأحكامه بمعزل عن فكرة التطور الاجتماعي والأحداث السياسية في عصر التنزيل، ولا يجوز نزع كلماته وآياته من سياقها وبنيتها العامة الفكرية.
أخيرا سوف أناقش النبوات بالمنهج البنيوي الذي سبق وشرحته على مواطن، وهو منهج عقلي نادى به الفيلسوف الفرنسي ” كلود ليفي شتراوس”، الذي خرج بمنهج فكري يعتبر ثورة عقلية مستقلة، قال فيه إنه لا يجوز فهم النصوص فقط بالتاريخ، ولكن بالتحليل البنيوي الذي يحاكي جوانب (السياق والنسق والبنية الخاصة والعامة) إضافة للغة، وقال بأن هذا الفهم له علاقة بعلم الأنثروبولوجي، ولو تتبعنا منهج هذا الفيلسوف في فهم الكتب المقدسة سيكون من السهل فهمها وفقا للبيئة واللغة والعرق (أي الشعب والقومية) الذي نزل فيه، لأن الفيلسوف البنيوي يعتقد أن اختلاف الأعراق والشعوب جنسيًا وشكليًا ولغويًا له دور في صناعة معارفهم، وبالتالي فهو يعتد باختلاف القبائل والعشائر والقوميات كمادة (بنيوية) لفهم الكون، والبنيوية عند شتراوس تعني الجسم؛ فيصف الفيلسوف البنيوي الموضوع الذي يبحث فيه (بالبنية) التي لها جسم وقاع وقمة؛ ليبحث في القاع حتى يفهم كيف تشكل الجسم والقمة، وهذه البنية في الأخير تكون مميزة عن بنيات أخرى مختلفة حسب التنوع العرقي واللغوي؛ فلكل أصحاب لهجة ولغة مختلفة. ثقافة مختلفة وتصور للكون مختلف يجب فهمه بمعزل عن الدين بالخصوص؛ فالناس تعتقد أن وحدة المذهب والدين تعني وحدة الفكر، وهذا غير صحيح؛ فلكل شعب تصوره الخاص للدين، يضيف إليه ويحذف منه وفقًا (لبنيته) الخاصة.
عن طريق البنيوية – مثلاً - نفهم أن سؤال "هل القرآن كلام الله" هو خطأ علمي بالأساس كونه لم يحرر أولا (من هو الله)، وما مفهوم الإله والخلافات حوله، وما مفهوم (الكلام) وبنيته الفكرية وسياقات ذكره
عن طريق البنيوية – مثلاً – نفهم أن سؤال “هل القرآن كلام الله” هو خطأ علمي بالأساس كونه لم يحرر أولا (من هو الله)، وما مفهوم الإله والخلافات حوله، وما مفهوم (الكلام) وبنيته الفكرية وسياقات ذكره. مع التحليل اللغوي للفظة (كلام) وموضعها عند القبائل العربية التي شهدت ظهور القرآن الأول، وهذه بحاجة لجهد أتيمولوجي كبير ودراسات اجتماعية وتاريخية للوصول لتلك المعلومات، وحقيقة أعيب على الأخوة اللادينيين تسرعهم في طرح هذه الأسئلة دون الإلمام بطرق الفلاسفة والمؤرخين وعلماء الاجتماع، وردود فعلهم عندي في معظمها (عاطفية)، علمًا بأن الفيلسوف البنيوي لا يعتد بالتصورات الشخصية للكون، وبالتالي هو (ضد الوجودية) ويتهمها بالتواطؤ مع الأوهام والخرافات، مما يعني أن هذه التصورات الوجودية عند البنيوي مدخل كبير للخرافة، حلها سيكون بإخضاع تلك التصورات الوجودية للتحليل البنيوي القائم على أدوات فهم (كالنسق واللغة)؛ ففهم المسلمين مثلا للسماء وفقا للقرآن هذا نسق مخصوص يجري بحثه بمعزل عن تصور المسلمين للظواهر الكونية، ما يعني أن رؤية الناس لظواهر الكون مرفوضة عند البنيوي، ويسمي ذلك “رفض الفينومينولوجيا” والسبب أن هذا التصور الفينومينولوجي مصدره الوجودية التي هي تعد خصمًا للفكر والتحليل البنيوي.
فيكون بحث البنيوية في مفهوم السماء الإسلامي مثلاً عن طريق اللغة العربية كبنية خاصة، وعن طريق دراسة علم الأعراق والقوميات التي خرجت بهذا المفهوم ونقد تصورها للكون؛ فإذا كانت اللغة العربية هي المصدر فقط دون مؤثرات فارسية وتركية –مثلاً–، يخرج الفيلسوف البنيوي بنتيجة؛ وهي اتساق هذه البنية اللغوية مع الواقع لو كان يؤيدها، أو معارضة هذه البنية اللغوية مع الواقع لو كان يرفضها. ومن هنا خرجت فلسفات أحدث كالتفكيكية معترضة على هذا المنهج البنيوي وتتهمه بمركزية الأحكام المسبقة في التحليل. وأقوال جاك دريدا مشهورة في الطعن بكثير من أبحاث الإنسان العلمية الاجتماعية واللغوية كونها نشأت تحت سياط الرغبات والمصالح والأحكام المسبقة.
عن طريق رفض البنيوي للوجودية وظواهر الكون الفينومينولوجية، يكون الاعتماد على رؤى الفقهاء المسلمين والشيوخ (لا معنى له) ، ولا يصبح حجة على أي نص أدبي كان أو مقدسًا، فرؤاهم جميعها خرجت من طرح وجودي فينومينولوجي في الغالب، لا عقلي أو علمي مجرد، وبالتالي فمحاكمة النبوات بفتاوى الشيوخ وأي مفكر حداثي مؤمن بالمطلق هو عمل (غير علمي)، ويندرج تحت بند (الأحكام المسبقة)، وأضيف أنه مُشبّع بخوف مبالغ فيه من الدين لسيادة تطبيقاته الشريرة في التاريخ، واعتقاد راسخ باستحالة إصلاح المؤمنين بالمطلق؛ علمًا بأن فلاسفة كبار غيروا البشرية كانوا من المؤمنين بالنبوات والوحي، منهم جون لوك الذي كان مؤمنًا بنوعين من الوحي أصلي ونقلي في كتابه “بحث في الفاهمة البشرية”، ويبقى معيار الحكم على النبوات له شرطان في الأخير:
أن يكون ما جاء به (قطعي الدلالة)؛ وهو ما سماه الفقهاء (بالآيات المحكمة) في النص الإسلامي. ويكون أيضًا ملتزمًا (بمصلحة العموم) وهو المقصد والغاية العظمى وراء الدين..
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.