يتعامل القانون والعرف مع أبناء الكويتيات على أن هوياتهم الوطنية منقوصة؛ فيتم اعتبارهم متصلين بالوطن عبر كونهم “أبناء مواطنات”، لا عبر صلة مباشرة، وفي هذا السياق تقوم “منطقة رمادية” بمعالجة هذه المشكلة عبر نشر الوعي و تسليط الضوء على الوضع الذي يعيشه أبناء الكويتيات في الكويت، وعبر التطرق لمختلف القضايا التي تمسهم، والعمل على تحقيق المساواة الاجتماعية والقانونية الكاملة لأبناء الكويتيات المتزوجات من غير كويتي؛ بما في ذلك حق منح الجنسية كهدف مركزي، والقضاء على مظاهر التمييز السلبية التي تؤثر عليهم، ترتكز الحملة على المساواة والقبول بالجميع دون تمييز عرقي أو طبقي أو جنسي أو ثقافي، كما تستقل الحملة عن أي انتماء سياسي أو اجتماعي.
عمل "منطقة رمادية"
تقوم الحملة والفريق القائم عليها من مواطنين ومواطنات وأبناء كويتيات بتحريك القضية عبر التفاعل في الفضاء الإلكتروني ومنصات التواصل الاجتماعي؛ كتويتر وانستغرام، فتركز على المرويات والقصص التي تنشر على شكل تصاميم، كما تتفاعل الحملة مع الجمهور بطرح الاستبيانات والأسئلة وجمع الآراء، وفي فترة الانتخابات البرلمانية الكويتية، قامت منطقة رمادية بتصميم بوستر يحتوي على شعار حملة منطقة رمادية مع ثلاث فراغات لكي يملؤها الناخب بأهم ثلاث قضايا تمسه وتمثل أولوياته في اختيار المرشحين للبرلمان؛ مما أدى إلى رواج اسم الحملة بين الناخبين؛ سواء كانت قضايا أبناء الكويتيات ضمن أولوياتهم أم لا، كما قامت الحملة بالتواصل مع أبرز المرشحين للبرلمان وتسجيل أجوبتهم صوتيًا فيما يخص قضايا أبناء الكويتيات وعرضها على حساب الحملة.
تستند الحملة في متانتها على العمل الجماعي للفريق القائم عليها، وعبر مزج المحتوى القانوني والدستوري مع التصميم المرئي على شكل “بوستات” انستغرام، وبالإضافة إلى عرض المواد الدستورية والقانونية والاحصائيات الصادمة؛ مثل أن أغلب دول العالم تسمح للمرأة بمنح جنسيتها لأبنائها، وأن الكويت واحدة من 25 دولة فقط لا تساوي بين مواطنيها في حقوق الجنسية، كما تقوم الحملة بعرض أبرز الأسئلة والاعتراضات التي تثار من قبل المجتمع الرافض لمنح أبناء الكويتيات هذه الحقوق والإجابة عنها عبر الإحصائيات المتوفرة، وتركز الحملة على العمل في الفضاء الافتراضي لقدرته على الانتشار السريع، أما في العالم الواقعي فتقوم الحملة بتنظيم حلقات نقاشية تثبت حضورها على أرض الواقع وأعداد المهتمين بقضاياها من الجمهور، وفضلا عن الحلقات النقاشية قامت الحملة بالتعاون مع “إرا” لإيجاد وظائف مهنية لأبناء الكويتيات بصفتهم فاقدين لمعظم مزايا التوظيف والبحث عن عمل التي يحصل عليها المواطن الكويتي.
تبلور اسم "منطقة رمادية" من كون هذه الفئة لا تنتمي تمامًا إلى الكويت، بسبب التفرقة وإقصاء الأغلبية لهم
أما فيما يخص أعضاء الحملة والجمهور من أبناء الكويتيات؛ فتوفرلهم “منطقة رمادية” مساحة مشتركة وآمنة للحديث عن قضاياهم دون تفرقة بينهم، وفي هذه المساحة تتشابه القصص بغض النظر عن الخلفية الطائفية والعرقية أو جنسية الأب؛ فالجميع أبناء كويتيات؛ سواء كانوا من آباء مصريين، أو ليبيين، أو إيرانيين أو عراقيين؛ أو حتى من آباء عديمي الجنسية “بدون”، ولا يتم سرد القصص في منصات منطقة رمادية لإشارة الشفقة، بل لبيان أن هذه حقوق شرعية ومستحقة وينبغي المطالبة بها ونيلها، تتداخل الحملة في كونها قضية حقوقية مع القضايا الحقوقية الأخرى المطروحة على الساحة المحلية، كحقوق المرأة وحقوق عديمي الجنسية، لكن تلتزم الحملة بالاستقلال عن الحملات الحقوقية الأخرى، كما تبقي تركيزها على قضايا أبناء الكويتيات دون الدخول في قضايا أكثر عمومية وإن تداخلت معها في بعض المطالب.
كيف يعيش أبناء الكويتيات في الكويت؟
يواجه أبناء الكويتيات الواقع التمييزي الذي يعيشونه في سن مبكرة عبر مواقف يتعرضون لها تفرزهم عن أٌقرانهم الكويتيين، بشكل يطرح أسئلة أساسية حول الهوية والانتماء قبل أن تصل إلى المستحقات والخدمات، فإن تولد لأم كويتية يجعلك تواجه أسئلة بشكل شبه يومي طوال حياتك حول سبب اختلاف ملامحك عن الكويتيين، أو غرابة اسم عائلتك، وفي موضوع اسم العائلة بالذات يكون أبناء الكويتيات الذين تتشابه أسماؤهم الأخيرة مع أسماء عوائل كويتية مشهورة محظوظين في قدرتهم على تجاوز الأسئلة اليومية في الحياة العامة حول كيف ولماذا، يصرح بعضهم أنه يتمنى لو كان يحمل مطوية تحتوي على كل الأسئلة المتكررة التي يجيب عنها كل يوم، وتقول إحدى بنات الكويتيات أنها فقط تريد تجنب الشعور بالعنصرية والتفرقة، وذلك ما يزعجها في الأسئلة، كما يستهلك تنشيط وسائل دفاعية في الحديث قدرًا مزعجًا من الطاقة حين تتكرر الحوارات بشكل دائم ومستمر؛ “لست كويتيا ولكن والدتي كويتية”، “ولكن أبي بقي هنا خلال الغزو العراقي”، “ولكن والدي خليجي”…إلخ.
تبلور اسم “منطقة رمادية” من كون هذه الفئة لا تنتمي تمامًا إلى الكويت، بسبب التفرقة وإقصاء الأغلبية لهم، فضلاً عن الاختلافات الثقافية الناتجة عن كون الأب من جنسية أخرى، وأيضا بسبب عدم انتمائهم إلى أوطان آبائهم تماما، يتحدث المشاركون في حوارات “منطقة رمادية” عن النظرة لهم ككويتيين حين يزورون بلدان آبائهم، ولعل العنصرية لا تمس أبناء الكويتيات ذوي الآباء من جنسيات “راقية”؛ أوروبية غربية، لكن أغلب البلدان تصنف على أنها أقل طبقة من الكويت.
آية صالح، الرحيل ومسيرة منطقة رمادية المستمرة
التزم أعضاء حملة “منطقة رمادية” من مواطنين ومواطنات وأبناء كويتيات بالكتمان وبالعمل الجماعي باسم الحملة بعيدًا عن الأسماء الشخصية للأفراد، وباستثناء المحيطين بالفريق في بداياته، فإن الأغلب لا يعلم بأن آية صالح كانت هي المؤسس الأول للحملة والحاملة للقضية، تمثل منطقة رمادية تجربة آية الشخصية بصفتها ابنة لأم كويتية وأب عربي الجنسية حصل لاحقًا على جنسية أجنبية (حالة نمطية لأبناء الكويتيات الذين يحتاجون سرد قصة أصلهم وعائلتهم)، كانت منطقة رمادية معاناة آية الشخصية، في التخرج كقانونية والبحث عن عمل والإصابة بالاكتئاب بسبب البطالة رغم التفوق الدراسي بتقدير امتياز والحصول على درجة الماجستير، كان عدم القدرة على التصويت في انتخابات الجامعة وتغيير ألوان الهويات لغير الكويتيين -وإن كانوا أبناء كويتيات- سيرة شخصية لآية، وحين أطلقت منظمة “إن في” غير الحكومية وغير الربحية مبادرة لاختيار أفضل فكرة لحملة حقوقية؛ كانت آية تتساءل حول فكرة مناسبة لمشروع حقوقي مستحق، وتأسست “منطقة رمادية” بعد مخاض بين أفكار لمشاريع تمس العمالة المنزلية عديمي الجنسية وغيرهم من فئات المجتمع.
كانت آية تنظر دائمًا بعين التواضع والقصور لما أنجزته “منطقة رمادية“، كانت تردد أنها لم تفعل أي شيء ولم تنجز أي شيء، ولعل ذلك بسبب بعد الغاية وكبر الأهداف النهائية التي سعت إلى بلوغها، ترى آية أن “منطقة رمادية” هي نتاج عمل الفريق لا عملها هي، بالرغم من أنها كانت المحرك المركزي والصلة بين أعضاء الفريق، انعكست إحدى صور هذا التواضع في الجلوس مع أي جهة على الساحة المحلية وطلب العبر والخبرة من التجارب الأخرى، كان النجاح الأساسي لآية هو قدرتها على خلق اعتماد متبادل بين أعضاء الفريق وجعل كل واحد فيهم دافعًا للآخر نحو المزيد من العمل الذي كان أشبه بمتعة وتلاقي أصدقاء، تلقت “منطقة رمادية” سيلاً هائلاً من التحبيط عبر مقولات مثل: “إلى أين ستصلون؟!” و “هل تظنون أنكم قادرون على عمل مثل هذا التغيير القانوني؟”، لكن كل ذلك لم يكن مثبطًا لفريق العمل الذي قادته آية وإن لم تكن واعية بأنها هي التي تحرك الفريق، مع تنامي كرة الثلج للحملة الحقوقية كان الفريق يدرك عبر مقولات الإطراء والثناء على العمل، وعبر فعاليات جماهيرية مثل الحوارات في الجامعة الأمريكية في الكويت واللقاء بناشطين وأكاديميين على المستوى المحلي بأن الحملة تتنامى، وبعد مشاهدة الثمار ونتائج الحملة، أصبح من الصعب التوقف عن العمل.
كالأبطال التاريخيين، الذين يبتليهم الله ليختبرهم؛ أصيبت آية بمرض السرطان، لم تبلغ أحدًا بمرضها ، أوصت أسرتها والمقربين من أصدقائها وزملائها بأن يبقوا الأمر سرًا لأنها لا تريد أن تقلق أحدًا، وبشهادة أختها، بقيت تعمل حتى الأسبوع الأخير في حياتها قائلة: “أخشى أن يشعر الفريق أنني مقصرة”، كانت إحدى وصاياها الأخيرة أن يتم الاهتمام بهذه الحملة، فكانت تقول: “منطقة رمادية هي ابنتي التي أريد أن أربيها وأكبرها، إذا أردتم أن تربوا شيئًا من بعدي فربوا منطقة رمادية”.