حسناء بن سليمان، وزيرة العدل التونسية السابقة، واحدة من أبرز المشتغلات في الشأن العام التونسي. حاصلة على إجازة في القانون وشهادة ختم الدراسة بالمرحلة العليا للمدرسة الوطنية للإدارة في تونس. جلست على كرسي القضاء منذ العام 1999 وتولت في العام 2019 عضوية مجلس الهيئة العليا المستقلة للانتخابات. في 2020 عيّنت وزيرة لدى رئيس الحكومة مكلفة بالوظيفة العمومية، وفي 2021 تولت وزارة العدل.
حسناء واحدة من أبرز التونسيات الداعمات للمساواة بين المواطنين في الحقوق؛ لاسيما المساواة في حقوق الجنسية. التقيناها لنقف على رؤاها حول المساواة بين الجنسين وأهميتها لخلق مجتمع قوي قادر على التطور.
ترى حسناء أن المجتمعات، مع بعض الفوارق البسيطة تتكون من نصفين متساويين من النساء والرجال، وهما عمادان للمجتمع يؤثر عدم توازنهما والإخلال بالمساواة بينهما على تقدم المجتمع، تماما مثل ساقين في جسم الإنسان؛ كل اختلال بينهما يجعل السير عسيرًا، بطيئًا بل وذا أثر أليم على كامل الجسم بما في ذلك على الساق الأطول (على الرغم من أن خرق المساواة قد يبدو لصالحها) لأن العبء يكون عليها أكثر فتهترئ وتتعب؛ فيما يؤدي عدم حراك الساق الأقصر إلى فتورها وضمورها إلى حين موتها؛ فالمساواة ترتبط بطبيعتنا البشرية والإخلالات التي قد تبدو للبعض منا “خصوصية مجتمعية” نكتشف في العديد من الأحيان أنها لم تكن كذلك عندما نغور في أسبار ثقافتنا وتاريخنا أو ننظر لتجارب نتشارك معها تلك الثقافة فنجدها تتعامل مع نفس المسائل بصورة مختلفة أو نراها في مجتمعات تختلف ثقافتها عنا جذريًا.
تعتقد حسناء أننا اليوم أمام تحديات كبرى وآمال أكبر لكل فرد من أفراد مجتمعاتنا، لم يعد من الممكن إقناعهن وإقناعهم بأن الإشكالات التي تعترض طريقنا قدر” لا يقبل التغيير”. شعوبنا تعلّمت وتطوّرت وعاشت (بصفة تامة أو بنسب معينة) المساواة في التعليم والعمل والمشاركة السياسية والقيادة بالمعنى الحسي (العربات وغيرها…) أو الذهني (المؤسسات والشركات والمنظمات…) ولامس أصحاب القرار كالمنتفعين والمنتفعات به الأثر الإيجابي للمساواة بين النساء والرجال على المجتمعات والأفراد.
التصدي لبقية معاقل الإخلال بالمساواة مسيرة لن تقف دون بلوغ غايتها السامية، لأن مجتمعاتنا أيقنت بقدراتها وطاقاتها الحقيقية وهي تعمل على مقارعة بقية الأمم والتقدم المستمر.
الرابط الذي يجمعنا بالدولة بما هو مؤسّسة عادلة ودامجة يتجاوز انتماءاتنا الشخصية والعقائدية والعائلية والعرقية والفئوية. الدولة هي السقف الذي نحتمي به جميعًا والذي يستمدّ وجوده وشرعيته من إرادة الأفراد في الاحتماء بسقفه
وحول ما يمكننا فعله كأفراد وحكومات ومنظمات مجتمع مدني لتكريس المساواة الكاملة بين الجنسين، ومن ضمنها المساواة في حقوق الجنسية؛ تعتقد حسناء أنه من المهمّ أن ننطلق من صفة المواطنة ومن أنّ قوامها هو المساواة.
فالرابط الذي يجمعنا بالدولة بما هو مؤسّسة عادلة ودامجة يتجاوز انتماءاتنا الشخصية والعقائدية والعائلية والعرقية والفئوية. الدولة هي السقف الذي نحتمي به جميعًا والذي يستمدّ وجوده وشرعيته من إرادة الأفراد في الاحتماء بسقفه. يجب أن يعي المواطنون والمواطنات ومن ثم الحكومات أن حماية هذا الرابط من الظواهر التمييزية يقوّي موقع الأفراد؛ نساءً ورجالاً بما هن وهم فاعلات وفاعلون في أوطانهم يعتزون بانتمائهم لدولتهم ويكونون بذلك الداعم الحقيقي والأكبر لحكوماتهم.
وتقول: أنا قاضية منذ ثلاثة وعشرين سنة، وأحس عند كل حالة تعرض بأوجاع الشاكي الذي يسعى إلى رفع ظلم تسلّط عليه، كما عملت في المجال الانتخابي وخبرت أهمية النظرة الإدماجية والعادلة في إرساء مجتمعات تتطوّر على نحو سلمي وسليم، وتكون قادرة على تجاوز المخاطر الناجمة عن الحيف والتمييز؛ فتجاوز هذه المخاطر والتقليل منها نقطة أساسية للبناء والتقدّم المستدام والسيادي.
وترى حسناء أننا عشنا لسنوات عديدة وضعيات تمييزية، تم تسخير الجهود لرفعها وتجاوزها، وكان على عدد من المواطنات والمواطنين والمنظمات والفاعلين العمل للإقناع بجدوى إقرار المساواة فيها وتغييرها. هناك من دفع راحته وأحيانًا حريته أو حياته ثمنا لذلك. لنتذكر فقط صدمة الإنسانية إزاء التمدد الفاشي النازي القائم أساسًا على فكرة الأفضلية وعدم المساواة ونضالات شعوبنا للتحرّر من الاعتداءات الغاشمة والنزعات الاستعمارية، ومعاناة فئات واسعة في القارة الأمريكية وغيرها أو في جنوب إفريقيا لمناهضة التمييز العنصري، أو تاريخ الحركات النسوية التي عملت على الاعتراف بحق النساء في التعليم والعمل وغيره في جميع أنحاء العالم وعلى نحو يثبت أن المساواة ليست حكرًا على بعض الشعوب، وأن التمييز ليس قدرًا لشعوب أخرى، وأن معركة المساواة هي إنسانية بالأساس.
فحين ننظر اليوم في المرآة العاكسة لكل تلك المراحل نشفق على أنفسنا مما عشناه؛ المساواة التي كانت تراق الدماء للمطالبة بها تبدو لنا طبيعية اليوم، ولعلنا نندهش كيف أمكن للبشر عدم الاعتراف بها بل ومناهضتها، تعوّدنا على مشهد جديد ينبني على المساواة في تلك المجالات ويجعلها تبدو لنا “طبيعية”، والحقيقة أنها كانت “طبيعية” (مرتبطة بالطبيعة البشرية) منذ البداية وحتى قبل “تعوّدنا” عليها، ومناهضة البعض لها عبر التاريخ لم تكن لها مرتكزات موضوعية سليمة؛ وإنما كانت قائمة على “تعوّده” على التمييز عوض التعوّد على المساواة تعوده على الخطأ عوض تعوّده على الصواب، تعوده على ما هو غير طبيعي عوض تعوّده على ما هو طبيعي. التعوّد يجعل السائد بمثابة منطقة الرفاهية بالنسبة لنا، ويجعل التغيير ولو كان للأفضل، ولو كان للأصلح يتطلب صراعًا ومقارعة. قدرة مجتمعاتنا على إحداث التغييرات الإيجابية ترتبط بإقبالها على التفكير في السائد بما هو قبول مبدئي للخروج من منطقة الرفاهية، والسعي من أجل الأفضل والأصوب؛ أي أن تلك القدرة ترتبط بالقبول المبدئي للحوار والنقاش المفتوح المتحرر من النتائج المحددة مسبقًا والإقدام عليه.
وتدرك حسناء أن بعد كل ما عرفته الإنسانية من تطوّر قد يكون من الجدير قلب آليات النقاش في مجتمعاتنا لنتجاوز سلطة التعوّد بإلزام من يبرّر عدم المساواة بعبء الإقناع، كثيرًا ما يتمّ التحرر من عبء الإقناع تحت غطاء السلطة؛ مختلف أنواع السلطة، لتصبح اللامساواة “معقولة” لمجرد ارتباطها بمصدر سلطوي.
المجتمعات الديمقراطية الكفيلة بتحقيق الرفاه تقوم على تعليل أعمال الدولة بناءً على مبدأ المساءلة والمحاسبة، ولا تكتفي بشرعية مصدر السلطة. تعليل يجب أن يقوم على منطق موضوعي يتخذ الإنسان في حقوقه محورًا له، ويعدّ بالتالي من العسير عدم معارضة المنطق متى تم خرق مبدأ المساواة بين المواطنات والمواطنين.
مواضع عدم المساواة في قوانين الجنسية ستظل جرحًا في أجسام المجتمعات التي لم تصلحها، لأنها لن تنفك عن إيذاء المعنيين بها وعن تذكير النساء بعدم اعتراف الدولة بمواطنتهن الكاملة
وتشير إلى أن الحكومات التي تعتمد منطق المحاسبة ستكون منفتحة لتطبيق المساواة المطالب بها من المواطنين والمواطنات، وملتزمة بالقرارات القضائية الصادرة تكريسًا لها، والمواطنات والمواطنون ستتكرّر مطالباتهم وتكون أقوى وأوسع متى تشبعوا بتطبيق مبدأ المحاسبة المواطنية، وستكون المنظمات التي ينشئونها والإعلام المنبثق عنها أقدر على خلق الإطار المجتمعي الكفيل بمنع التراجعات والتصدي لإنكار قيمة المساواة والمراكمة على ما تحقق منها وتطويره.
وتشير أن المجتمعات هي المسؤولة مؤسسيًا عن إدارة الحوارات بخصوص ما يشغل مجتمعاتها، ومن ثم عن النجاح في حل الإشكالات التي تعترضها وتحقيق الرفاهية والنماء لها أو الفشل.
وفي مجتمعاتنا تنامت المطالبة المواطنية بالحقوق الإنسانية، ومنها المساواة في الجنسية بناء على مبدأ المساواة وتطوّر رصد حالات التمييز وتوثيق تأثيراتها السلبية من قبل الأفراد لدى منظمات المجتمع المدني أو أمام القضاء (أو من شأنه أن يتطوّر)، كما أن تعدّد وسائل التواصل والاتصال وانتشارها، والقدرة الكبرى للعموم على النفاذ إليها يمكّن من التأثير في الرأي العام على نحو أوسع وأكبر، وهذا من شأنه أن يجعل من العسير على الحكومات عدم إدارة الحوار بخصوص الإشكاليات المطروحة، لأن ثمنًا سياسيًا معينًا يرتبط بإدارة وطريقة إدارة الحواء بهذا الشأن.
وعن التجربة التونسية في تعديل قانون الجنسية في العام 2010 ليكرس مبدأ المساواة بين الجنسين في منح الجنسية للأبناء عند الولادة؛ ترى حسناء أن الدرس الأول في التجربة التونسية هو الوعي بأنه كان يمكن الوصول إلى نفس النتيجة قبل 2010، لأن كل المخاوف والتبريرات التي قدّمت لمدّة سنوات لم تثبت صحّتها، وبالنتيجة فإنّ التأخير في اعتماد القانون لم يحقّق نفعًا عامًا للدولة، ولكنه أدّى إلى إشكاليات واقعية على مدى سنوات.
والدرس الثاني هو اعتماد أقصى درجات التوقيف من التبريرات المستندة للخصوصيات الثقافية المجتمعية، لأنها تبدو بعد مواجهتها وتغيير القانون من بلد ينتمي للمنطقة العربية الإسلامية المتوسطية أنها قد تكون في الحقيقة درعًا يسعى من يرفضون التغيير استعماله لاستبعاد المنطق والنقاش؛ فهو معطى لا يقوم على أرقام أو إحصائيات؛ ولكن في غالب الأحيان على مسلمات من العسير مقارعتها بالفكرة. لذلك فإن التجربة المقارنة تغدو عنصرًا أساسيًا للحجاج.
وأخيرًا من المهم الاستفادة من التجربة التونسية على المستوى المنهجي، لأن قضية المساواة في الجنسية ظلت مرفوعة من مجتمع مدني يقظ ونشط متشبع بالمبادئ الكونية لحقوق الإنسان، عمل في محطات مختلفة وبوسائل متنوعة على دفع القرار السياسي إلى مواكبة التطلعات المواطنية للمساواة التامة.
وفي رسالة لصناع القرار غير المؤمنين بحق الجنسية المتساوية بين الجنسين تقول حسناء إنه: “من المهم لرجل وامرأة السياسة قراءة سيرورة التاريخ وتسجيل مبادرات إيجابية، مواضع عدم المساواة في قوانين الجنسية ستظل جرحًا في أجسام المجتمعات التي لم تصلحها، لأنها لن تنفك عن إيذاء المعنيين بها وعن تذكير النساء بعدم اعتراف الدولة بمواطنتهن الكاملة؛ من يدفعون الساسة لعدم المبادرة بوضع حد للممارسات التمييزية؛ سيظلون يختلقون ويقدمون المبررات المختلفة، لذلك حتى يحافظوا على سبب لوجودهم في محيط القرار. ولكن مسؤولية عدم الفعل لن تلاحقهم؛ بل ستلاحق الساسة أنفسهم. الشهادات المريرة عن آثار عدم المساواة في الجنسية يحمّل مسؤولية لأصحاب القرار؛ لن يرفعها عنهم إلا تغيير الوضع. اتخاذ القرار من سياسيين في تجارب مماثلة يجب أن يكون دافعًا لاتخاذه ممن لم يفعل بعد لأن التاريخ في النهاية سيحصي الفعل وعدم الفعل.