وكانت مريم وأطفالها من بين دفعة نازحين سوريين ضمت عوائل مقاتلين من تنظيم الدولة الإسلامية(داعش)، أخرجتها الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا من مخيم الهول بكفالة عشائرية العام 2020. تخشى الأم التي لم تتجاوز الرابعة والعشرين من عمرها، مما يخبئه القدر لأطفالها الذين أنجبت بكرهم من أردني قُتل مبكرًا بعد زواجهما في العام 2016، فيما أنجبت الاثنين الآخرين من زواجها بأردني آخر، اعتقل بعد معركة الباغوز في العام 2019. تضيف بحسرة: “همي الأكبر هو تسجيل أطفالي الثلاثة؛ لا عائلتا زوجيَّ تقبلان أن ينسب أطفالي لهما، ولا مصدر لي لإعالتهم، كما نتعرض لنفور وكراهية المجتمع المحيط”.
وتمثل قصة مريم وأطفالها، نموذجًا لمعاناة فئة جديدة من عديمي الجنسية في سوريا، ظهرت نتيجة زواج مقاتلين أجانب بنساء سوريات بعد منتصف العام 2012؛ حيث تشير دراسات إلى دخول نحو 11 ألف مقاتل إلى سوريا حتى العام 2013. لكن في مقابل تفاقم أعداد عديمي الجنسية في سوريا بعد العام 2011 نتيجة الحرب، يشير حقوقيون/ات ومدافعين/ات عن حقوق المرأة إلى أن إزالة التمييز عن المرأة في قانون الجنسية السوري، بحيث يسمح لها بمنح الجنسية لأطفالها من زوج أجنبي، كان مطلبًا مدنيًا قبل نحو عقدين، وقد يساهم حاليًا في تقديم حلٍ لمعظم حالات انعدام الجنسية.
الباحثة والناشطة النسوية رشا الطبشي، ترى أنه لا يمكن تناول قضية المساواة في حق الجنسية بين الرجل والمرأة بمعزل عن ظاهرة انعدام الجنسية في سوريا. والتشابك هنا، بحسب رأيها يعود إلى أن “الأم السورية تكون موجودة في أغلب حالات انعدام الجنسية، لتتحمل مسؤولية أطفالها بغياب الأب، سواء أكان هؤلاء الأطفال نتاج اغتصاب في معتقل، أو نتيجة زواج من مقاتل أجنبي، قتل أو اختفى، أو غير ذلك”. وترى الطبشي أهمية تعديل قانون الجنسية، بحيث تستطيع المرأة السورية منح الجنسية لأطفالها، وتضيف: “الحل أمامنا، وسيساعد الآلاف من الأطفال، وأن التغاضي عنه كان يتم للإبقاء على قانون يعود لعشرات السنين”.
حجم المشكلة: لا أرقام أو إحصاءات
توجد صعوبة بالغة في حصر أعداد عديمي الجنسية، أو المتضررين عمليًا من فقدان الأم السورية لحقها في منح جنسيتها لأبنائها قبل وبعد العام 2011، بحسب غالبية المصادر في هذا التحقيق.
وتقول عضو رابطة النساء السوريات، المقيمة بدمشق، سوسن زكزك: ” للأسف لا يوجد أرقام، وقد فوجئنا من خلال بحث ميداني قمنا به لرصد حالات السوريات المتزوجات من غير سوريين، قبل العام 2011، أن حجم المشكلة كبير جدًا”. وتضيف أن “تقدير الأرقام أمر غير ممكن، لا قبل الـ 2011 ولا بعده”.
وتذهب الباحثة رشا الطبشي إلى أن صعوبة تقدير الأرقام، تشمل مجمل حالات عديمي الجنسية في سوريا قبل 2011 وبعده، وذلك لأسباب يتعلق بعضها بظروف البلاد، وبعضها الآخر بالأشخاص عديمي الجنسية أنفسهم. وترى “الطبشي” أن التحدي الأكبر لإجراء إحصاء لعديمي الجنسية هو انتشارهم على امتداد جغرافية تتقاسمها أطراف عديدة، مع وجود قيود تفرضها هذه الأطراف، بالإضافة إلى صعوبة الوصول لنساء تزوجن مقاتلين أجانب، أو نساء تعرضن للاغتصاب، نظرًا لحساسية الموضوع وما قد يجره من رفض اجتماعي.
ويقدر المدير التنفيذي السابق لمنظمة “صوت وصورة” محمد الخضر، عدد الزيجات اللاتي تمت بين مقاتلين أجانب وسوريات في محافظة الحسكة بين 150 -200 زيجة، وفي الرقة بأكثر من 600 زيجة، أما في دير الزور فيتراوح عدد الزيجات التي تمت بين مقاتلين أجانب أو مجهولي الهوية مع سوريات بين 250-300 زيجة، قسم منها كان مع نساء من خارج دير الزور”. ويتوقع الخضر أن يكون العدد الحقيقي في دير الزور أكبر من ذلك، لكن عددًا كبيرًا من الزيجات لا يكشف عنها، “نتيجة طبيعة المنطقة العشائرية وما يتصل بذلك من وصمة عار، فضلًا عن اتصال المنطقة بالعراق”. ويقول الخضر إن “هذه التقديرات تمثل ما بين 10 إلى 15 بالمئة من العدد الحقيقي لحالات الزواج في المحافظات الثلاث”.
وتقدر منظمة “صوت وصورة” التي تعنى بتوثيق الانتهاكات في شرق سوريا منذ العام 2015، عدد الأطفال من هذه الزيجات في المحافظات الثلاث بأكثر من 1500 طفل؛ حيث يتواجد قسم كبير منهم في مخيمات الحسكة، بحسب المدير التنفيذي السابق، محمد الخضر. أما مدير مكتب شؤون النازحين واللاجئين في الإدارة الذاتية، شيخموس أحمد، فيصف القضية بأنها “مسألة معقدة؛ ذلك أنها لا تنحصر فقط بالأطفال السوريين في المخيمات؛ بل بأطفال ينتمون إلى عشرات الجنسيات في مخيم الهول”.
ويقيم في مخيم الهول 54390 شخصًا، بينهم 27816 عراقيًا، و18483 سوريًا، فضلًا عن 8091 عائلة في قطاع المهاجرات، بحسب أرقام الإدارة الذاتية، فيما تقدر الأمم المتحدة أن نسبة 94% من مقيمي المخيم هم من النساء والأطفال. ويشير المسؤول في الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا إلى أن كثيرًا من العائلات السورية الوافدة من مناطق سورية أخرى خلال السنوات الماضية فقدوا ثبوتياتهم، كما لم يقوموا بتسجيل ولاداتهم لدى مكاتب الوافدين في مناطق الرقة والطبقة ومنبج.
وتشير الباحثة رشا الطبشي إلى أن الفئة الوحيدة من عديمي الجنسية والتي يمكن تقدير أرقام حولها هي فئة مكتومي القيد من الكرد السوريين، مع إمكانية حدوث تغيير في السنوات الأخيرة. ويورد تقرير حقوقي لمنظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” صدر العام 2018، إحصائية، تقول المنظمة إنها وضعتها بـ “الاستناد إلى معلومات حصرية، من مصادر رسمية داخل مديرية النفوس في محافظة الحسكة”. وتقدر هذه الإحصائية أنه وحتى مطلع العام 2011 كان عدد فئة “أجانب الحسكة” والمسجلين ضمن قيود المديرية قد بلغ 346242 فردًا، ومع نهاية شهر أيار/مايو 2018 بلغ عدد الحاصلين على الجنسية السّورية من نفس الفئة 326489 فردًا، فيما لا يزال هنالك 19753فردًا من فئة أجانب الحسكة غير حاصلين على الجنسية السورية بعد”.
وقدر التقرير أن “عدد فئة مكتومي القيد وصل حتى العام 2011 لأكثر من 171300 فرد، حصل حوالي 50400 فرد منهم على الجنسية السّورية بعد تصحيح وضعهم القانوني من فئة المكتومين إلى فئة أجانب الحسكة، وبالتالي إلى فئة المواطنين السوريين. ولكن هنالك حوالي 41000 حالة لم تستطع تصحيح وضعها القانوني بسبب مشاكل صادفتها المديرية أثناء إدخال ملفاتهم إلى قيود فئة أجانب الحسكة. ومازال هناك أقل من 5000 شخص لم يقوموا بالمجيء إلى دوائر النفوس من أجل تصحيح وضعهم القانوني. وبالتواصل مع عبد الرحمن خليل، عضو مجلس الشعب السوري عن الحزب الشيوعي السوري، الذي كان مطلب إعادة الجنسية لمكتومي القيد ضمن برنامجه الانتخابي، قال إن “أعداد مكتومي القيد لا تكشف وغير معروفة حاليًا”، مضيفا أن فئة مكتومي القيد في الحسكة كانوا في غالبيتهم من الكرد السوريين، بالإضافة إلى وجود أعداد من العائلات العربية والسريانية، فضلا عن وجود عدد غير قليل من البدو المتنقلين في منطقة البادية السورية”.
بالانتقال إلى شمال غرب البلاد، نجد أن الأرقام حول أعداد السوريات ممن تزوجن من مقاتلين أجانب في إدلب وما ولد من أطفال صدرت أولًا عن حملة “مين زوجك؟“، التي يقول المسؤول عنها، نسيب عبد العزيز في تصريحات صحفية، أنهم استطاعوا ما بين العام 2013 و2018 “تسجيل 1735 حالة زواج؛ من ضمنهنّ حالات زواج قصّر، 1124 منهن أنجبنَ 1826 طفلًا، و193 من النساء تمّ طلاقهنّ أو أصبحن أرامل جرّاء مقتل أزواجهنّ في المعارك، وفي 165 حالة هرب الزوج وبات مصيره مجهولًا”.
ويؤكد بحث “بشر بلا حقوق” الصادر عن مبادرة القضاء على انعدام الجنسية – سوريا، عدم وجود أرقام عن النساء اللاتي تعرضن للاغتصاب في معتقلات السلطات السورية، نظرا لحساسية الموضوع، ولا عن الأطفال المكتومين نتيجة ضياع ثبوتيات عائلاتهم. وتتيح التقديرات السابقة وضع تصور مبدئي لحجم مشكلة انعدام الجنسية داخل سوريا، لكن الباحثة رشا الطبشي توضح أن المشكلة منتشرة خارج البلاد أيضًا؛ إذ أن هناك حالات من أبناء السوريات اللاجئات اللواتي تزوجن من مواطني بلدان الجوار، أصبحوا عديمي الجنسية، ولم يتم تسجيلهم لظروف وأسباب تتعلق بقوانين تلك البلدان. ضمن ذات السياق، يذكر تقرير اللجنة العربية لحقوق الإنسان لعام 2004، تحت عنوان “عديمو الجنسية في سوريا من غير اللاجئين الفلسطينيين“، أن عدد حالات عديمي الجنسية من معارضي الحكومة السورية المقيمين خارج البلاد بعد العام 1970، “بلغ 27 ألف شخص من الجيل الأول فقط، لكنه رقم يتضاعف إذا ما أضيف إليه الأبناء والأحفاد.”
لا حياة دون جنسية
تتذكر فاطمة أحمد (اسم مستعار)، من سكان مدينة قامشلي، شمال شرقي سوريا، أنها ألحت على زوجها لسنوات، أن يتزوج من امرأة أخرى، تحمل الجنسية السورية، لعله يحصل على دفتر للعائلة ويسجل طفليهما باسم زوجته الجديدة. تقول السيدة الأربعينية:” كنت مستعدة أن أتحمل الضرة مقابل ألا يتذوق أطفالي مرارة أن يقضوا عمرهم مكتومي القيد، مثلي”. ورغم أن زوج فاطمة يحمل الجنسية السورية، إلا أنه لم يستطع تسجيل أطفاله إلا بعد مرور ست سنوات على زواجهما.
وتتحدث المحامية نالين عبدو المقيمة بقامشلي عن حالات مشابهة: “خلال عملي قابلت أعدادًا من النساء مكتومات القيد متزوجات من مواطنين سوريين، كان يتم تحويل معاملة إثبات زواجهن وولادات أولادهن لموافقة وزارة الداخلية في دمشق، وهذا ما يرهق ويكلف الزوجين الكثير من الوقت والمال والجهد لغاية اتمام المعاملة”.
ومكتوم القيد مصطلح إداري سوري يشير إلى عدم وجود الشخص المعني في السجلات الرسمية للدولة، وجاء اتساع هذه الفئة من عديمي الجنسية في سوريا بعد العام 2011، نتيجة ولادة جيل جديد من الأطفال، إما مجهولو النسب، أو نتيجة زواج سوريات من مقاتلين أجانب، أو نتيجة اغتصاب داخل المعتقلات، أو نتيجة فقدان عائلات لأوراقهم الثبوتية جراء الحرب. وأما فئة مكتومي القيد الذين تنتمي إليهم فاطمة، فهم مجموعة من الكرد السوريين ممن جردت عائلاتهم من الجنسية السورية في العام 1962 بعد إحصاء استثنائي، قسمهم إلى فئتين: “أجانب الحسكة” و”مكتومي القيد”. وبحسب تقرير اللجنة العربية لحقوق الإنسان الصادر في العام 2004؛ فإن الإحصاء المذكور أدى إلى “ظهور فئة المحرومين من الجنسية لأول مرة في سوريا”. ويقول الباحث السوري محمد جمال باروت في بحث بعنوان “الإحصاء الاستثنائي في سورية وجروح الهوية الوطنية السورية“، إن “الإحصاء تسبب بتجريد ما لا يقل عن 28% من سكان محافظة الحسكة من الجنسية”.
وتستعيد فاطمة مواقف تركت أثرًا لا يمحى من ذاكرتها، وهي تسرد كيف أن عائلات تراجعت عن التقدم لخطبة واحدة أو أكثر من أخواتها الستة، فيما رفضت عائلات تزويج واحد على الأقل من أخوتها الثلاثة، ما أن تناهى إلى مسامعهم أنهن/هم من مكتومي القيد. فأن تكون مكتوم القيد، يعني هذا في الجانب العملي، أنك ستعيش دون مجموعة كبيرة من حقوقك التي تبدأ بحرمانك من حق التعلم، مرورًا بحق التملك والبيع والشراء وحق السفر وصولاً إلى الحرمان من حق المشاركة في الحياة السياسية أو الحصول على الخدمات الصحية أو الاجتماعية أو الحصول على فرصة عمل في المؤسسات العامة. ولا يقتصر الأمر على ذلك فقط؛ بل يتعداه ليصل إلى عدم تسجيل زواجك رسميًا، ما يعني أن أطفالك سيتحولون تلقائيا إلى مكتومي القيد، وفي الغالب سيترافق هذا الحرمان المديد بأشكال من التمييز المجتمعي، تتعرض لها وعائلتك بأكملها. لذا فالحرمان من الجنسية بالنسبة لفاطمة وغيرها من مكتومي القيد، يعني حرمانًا من العيش بشكل طبيعي، ذلك أنه يلقي بتأثيره على أدق تفاصيل حياة المرء وأكثرها حساسية.
القانون يناقض الدستور (التمييز في قانون الجنسية السورية)
رغم أن والدة فاطمة المتوفاة قبل عامين، كانت تحمل الجنسية السورية، إلا أن ذلك لم يحدث أي فارق في حياة أولادها العشرة طوال عقود، والأمر ذاته ينطبق، على حالة مريم وأطفالها الثلاثة منذ ستة سنوات. وبحسب الحقوقية والناشطة النسوية نالين عبدو فإن ذلك يعود إلى “التمييز الواضح في قانون الجنسية السوري، الذي يحرم المرأة حق منح جنسيتها لزوجها الأجنبي أو لأولادها من زوج غير سوري أو مكتوم القيد، بينما يستطيع الرجل منح جنسيته حال زواجه من أجنبية”.
وباستعراض البند الأول من المادة الثالثة في قانون الجنسية السوري الصادر العام 1969 الذي يقول: ” يعتبر عربيا سوريا من ولد في القطر أو خارجه من والد عربي سوري”، نجد أن القانون يكسب أبناء الرجل الجنسية تلقائيا في حال ولدوا داخل أو خارج البلاد، بينما نجد في البند اللاحق من القانون، “يعتبر عربيا سوريا من ولد في القطر من أم عربية سورية ولم تثبت نسبته إلى أبيه قانونا”. وهذا يعني أن الأم السورية لا تستطيع منح ابنها جنسيتها إلا إذا كان مولودا غير شرعيا، مع شرط إضافي، وهو أن يولد داخل البلاد. ويرى عدد من الحقوقيين أن البند الأخير لا فائدة منه من الناحية العملية؛ ذلك أن تسجيل الطفل تحت بند أنه غير شرعي يبدو خيارًا صعبًا للغاية بالنسبة للفرد أو للعائلات في المجتمع السوري، لما يترتب عليه من وصمة عار ورفض اجتماعي.
تمييز آخر بحق المرأة تقره المادة 12 من قانون الجنسية والتي تقول: “تحتفظ المرأة العربية السورية التي تتزوج من أجنبي بجنسيتها، إلا إذا طلبت اكتساب جنسية زوجها، وكان قانون هذه الجنسية يكسبها إياها..”، وهذا التمييز الذي اتفق عليه نحو خمسة حقوقيين لدى استشارتهم، يتعلق بحرمان المرأة من ازدواجية الجنسية، بينما لا تمنع القوانين السورية ازدواجية الجنسية للرجل. وتشير لينا بركات الناشطة النسوية والرئيسة السابقة لمجلس المرأة السورية في شمال وشرق سوريا، إلى أن التمييز في القانون بحق المرأة السورية استمر لعقود رغم وجود “تناقض بين قانون الجنسية وبين الدستور”.
صادق مجلس الشعب السوري في العام 2019 على قانون خاص بحقوق الطفل، حيث تذكر المادة الخامسة منه على ضرورة أن " لكل طفل الحق في أن يكون له جنسية وفق أحكام القوانين
وبالعودة إلى دستور عام 2012 نجد أن المادة 23 تلزم الدولة بتوفير “جميع الفرص التي تتيح للمرأة المساهمة الفعالة والكاملة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وتعمل على إزالة القيود التي تمنع تطورها ومشاركتها في بناء المجتمع”، كما أن المادة 33 منه تعتبر المواطنين “متساوين في الحقوق والواجبات، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة”؛ وهو ما كان مكررًا بمواد مشابهة في الدستور السابق. وتقول “بركات” بوجود اتفاقيات دولية تلزم الحكومة السورية بحل مشكلة عديمي الجنسية.
وبحسب تقرير اللجنة العربية لحقوق الإنسان الصادر في عام 2004، فإن سوريا صوتت على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، الذي يتضمن مبدأين أساسيين هما: “حق كل فرد في التمتع بجنسية ما” و”عدم جواز حرمان شخص من جنسيته تعسفًا أو إنكار حقه في تغييرها”. كما وقعت سوريا على الإعلان العالمي للدفاع عن حقوق الطفل 1959، الذي أكد في المبدأ الثالث “حق الطفل في الحصول على الجنسية بصرف النظر عن كون والديه عديمي الجنسية أم لا”، فضلا عن تصديقها على العهدين الدوليين للحقوق السياسية والمدنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية 1969، دون تحفظ على المواد الخاصة بالجنسية.
وكان مجلس الشعب السوري قد صادق في العام 2019 على قانون خاص بحقوق الطفل، حيث تذكر المادة الخامسة منه على ضرورة أن ” لكل طفل الحق في أن يكون له جنسية وفق أحكام القوانين”. إلا أن كل ذلك لم يدفع الحكومة السورية إلى حل مشكلة عديمي الجنسية، كما لم يتغير من واقع التمييز بحق المرأة السورية طوال عقود، وفق ما يذهب حقوقيون/ات وناشطات نسويات.
الجهود المدنية: تراجع حكومي يبقي التمييز
يوضح عضو مجلس أمناء منظمة حقوق الإنسان في سوريا(ماف)، محمود عمر، أن توقيع دولة ما على أي اتفاقية دولية يعني أن تصبح جزءً من منظومتها القانونية، وألا تتعارض قوانينها مع نص الاتفاقية، “لذلك كان توقيع سوريا على اتفاقية سيداو العام 2002، الحافز وراء النشاط الحقوقي والمدني آنذاك”. وعملت منظمات حقوقية كردية بشكل سري في سوريا، حتى قبل العام 2011؛ حيث تفيد مصادر حقوقية أن هذه المنظمات وجدت أن حصول المرأة السورية على حقها في منح جنسيتها لأولادها، من شأنه أن يساهم في حل جزء من ملف الكرد المجردين من الجنسية، نظرًا لأن كثيرًا من الأمهات في هذه العائلات المجردة من الجنسية، كن يحملن الجنسية السورية. ويذكر عمر أن نشاطهم في منظمة (ماف) حينها كان “يتركز على رفع البيانات إلى الأمم المتحدة عبر الشبكة الأورو-متوسطية لحقوق الإنسان (EMR)”
وكانت سوريا قد سجلت 15 تحفظًا على اتفاقية “سيداو”، شملت بنودًا وفقرات من المواد (2،9، 11،13، 15، 16، 29)، إلا أن التحفظ على المادة الثانية من الاتفاقية والتي تتعلق بحظر التمييز في الدساتير والقوانين الوطنية، اعتبر من جانب منظمات حقوقية ونسائية تحفظًا على “متن الاتفاقية ومضمونها الرئيسي”. وترى الناشطة النسوية، لينا بركات أن “التحفظات السورية ألغت فعليًا مفعول التوقيع على “سيداو”، وكان من الأفضل عدم التوقيع، بدل تسجيل كل هذه التحفظات”. لكن رغم جميع هذه التحفظات جاء إطلاق رابطة النساء السوريات (تأسست بدمشق عام 1948)، حملة “جنسيتي” في العام 2004، كأول جهود علنية للمطالبة بحق المرأة في منح جنسيتها لأطفالها من زوج أجنبي.
وتقول الناشطة النسوية والعضوة في رابطة النساء السوريات سوسن زكزك، إنهن “تمكنَّ من تحويل القضية إلى قضية رأي العام، ليساندها عدد كبير من الكتاب والصحفيين والفعاليات الاجتماعية” وتضيف أن الرابطة “تمكنت في العام 2006 من الحصول على توقيع 34 من أعضاء مجلس الشعب للمطالبة بتعديل قانون الجنسية” ويحتاج تعديل أي قانون في سوريا إلى موافقة خُمس أعضاء مجلس الشعب (عددهم 250) مع موافقة رئيس الجمهورية. وتشير “زكزك” إلى أن 10 أعضاء من مجلس الشعب كانوا قد صاغوا قبل ذلك مشروعًا لتعديل المادة الثالثة من قانون الجنسية، “لكن المؤسف بعد تقديم المشروع إلى محمود الأبرش، رئيس مجلس الشعب السوري آنذاك، لم يعرضه على المجلس، وبقي مصيره المشروع درج رئيس المجلس”.
وبحسب الحقيبة الإعلامية لحملة “جنسيتي حق لي ولأسرتي” (2005 -2008) والتي جاءت بمبادرة من مجموعة الأبحاث والتنمية (CRTD)، وشملت سبع دولة من بينها سوريا، فقد رفعت رابطة نساء سوريات، المُشارِكة في الحملة، مذكرة لتعديل القانون مع عريضة موقعة بآلاف التواقيع إلى رئيس الجمهورية ورئيسي الوزراء ومجلس الشعب في العام 2006. وتقول “زكزك” إن “رئيس الجمهورية أرسل مذكرة إلى وزارة العدل لسؤالها حول شرعية هذا الطلب، وكان جواب وزارة العدل أن المطلب محق، ويجب تعديل قانون الجنسية، لأنه قانون تمييزي ضد النساء السوريات وغير منسجم مع الدستور السوري”.
وتؤكد بيانات حملة “جنسيتي حق لي ولأسرتي” أن وزارة العدل السورية أفادت بأن “المشروع بات في إدارة التشريع، وأن الاتجاه في العمل هو السعي لتعديل القانون خلال وقت قريب”. لكن “زكزك” تقول “إنهن تفاجئن حين لم يتغير أي شيء في القانون”. في الأثناء كانت جهات حكومية ونقابية، كالهيئة السورية لشؤون الأسرة والاتحاد النسائي، قد انضمتا إلى جهود المطالبة برفع تحفظ سوريا عن المادة الثانية من اتفاقية “سيداو”، سواء في تقديم دراسة قانونية لرفع التحفظ أو في رفع مذكرة إلى مجلس الشعب لتعديل قانون الجنسية 2007. وبحسب صحيفة تشرين الحكومية، فإن رئاسة مجلس الوزراء أوصت في العام 2007 بإلغاء مجموعة من التحفظات منها التحفظ على المادة الثانية من الاتفاقية، ولكن وفق التوصية تمت إضافة جملة، “وذلك بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية”.
وفي العام 2009 عادت رابطة النساء السوريات إلى رفع نداء إلى مجلس الشعب لتعديل البند الأول من المادة الثالثة من قانون الجنسية، لكن هذا النداء أيضا بقي كجميع المحاولات التي سبقته دون نتيجة. ورغم أن الجهود المدنية قبل العام 2011 لاقت دعمًا من مؤسسات نقابية وحكومية، وأسفرت عن إيصال مطلب تعديل قانون الجنسية، إلى رئاسات الجمهورية ومجلسي الوزراء والشعب، لكن يبدو أن السلطات السورية كانت تلجأ إلى تقديم مبررات مختلفة لعدم تعديل القانون، كلما تزايد زخم المطالب، ومن ثم تراجعت عن وعود قطعتها لتعديل القانون في فترات أخرى.
ماذا بعد 2011؟
تقول حسناء (اسم مستعار) إن من سوء حظها أن يكرر أطفالها تجربة اليتم التي عاشتها هي في صغرها؛ ذلك أن زوجها توفي إبان سيطرة تنظيم الدولة “داعش” على محافظة الرقة وريفها، فأصبحت الصدقات هي المورد الوحيد التي كانت تعيل بها أطفالها الخمسة حينها. وتضيف السيدة الأربعينية، إنها اضطرت للقبول بالزواج من مقاتل أوكراني، قدم لها المساعدة، وقال لها، قبل أن يقتل مع التنظيم، إنه “يريد أن يكسب ثواب إعالة أيتامها”. وأنجبت حسناء لاحقًا طفلاً يحمل ملامح والده الأوكراني، وبات مؤخرًا يعمل مع أخوته الخمسة، في جمع المواد البلاستيكية من حاويات ومكبات القمامة، دون أن يمتلك وثائق، تخوله ارتياد المدرسة. وتضيف الأم أن ملامح ابنها الشقراء، ظلت مثار تنمر الوسط المحيط وكراهيته، منذ أن خرجوا من مخيم الهول العام 2019، وهو ما يفاقم من حزنها على مصير عائلتها.
ومعاناة عائلة حسناء وأمثالها من العائلات، كانت الدافع لمجموعة من وجهاء عشائر وناشطين/ات في مدينة الطبقة إلى تأسيس “لجنة فض النزاع” أواخر العام 2021، بهدف “حل قضايا عوائل مقاتلي داعش الخارجين من مخيم الهول وإدماجهم مع المجتمع المحلي، حيث وصل عدد هذه العائلات حاليا إلى 374 عائلة”، وفق تقديرات اللجنة. ويقول حسن الخمري عضو “لجنة فض النزاع”، إن “هؤلاء الأطفال يشكلون قنبلة موقوتة، ذلك أنهم بحاجة إلى إعالة وإعادة تأهيل، ولكن العائق الأكبر أنهم بلا وثائق رسمية، ما يعيق تسجيلهم في المدارس ويحرمهم من إمكانية الحصول على الخدمات عبر كومينات الأحياء” (أصغر وحدة إدارية في الإدارة الذاتية تتولى إدارة حي أو قرية).
في العام 2009 عادت رابطة النساء السوريات إلى رفع نداء إلى مجلس الشعب لتعديل البند الأول من المادة الثالثة من قانون الجنسية، لكنه بقي ككل المحاولات التي سبقته دون نتيجة
ويضيف الخمري أنهم تلقوا خلال لقاءات جمعتهم، في شهر آب/أغسطس الفائت، برئاسة المجلسين التشريعي والتنفيذي ومؤسسات أخرى من الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، وعودًا بمنح هؤلاء الأطفال بطاقات ووثائق تخولهم ارتياد المدارس، مع إمكانية أن توفر لهم “الكومينات” مخصصات من مواد الخبز والمازوت، كغيرهم من سكان الحي الذي يقيمون فيه. كما يشير إلى سعيهم لتأمين فرص تدريب لبعض الأمهات من خلال برامج “سبل العيش” التي تنظمها منظمات محلية من أجل الحصول على فرصة عمل، كما يسعون إلى تأمين فرص تعليم هؤلاء الأطفال عبر برامج تعليمية مضغوطة تنظمها منظمات محلية.
وترى الباحثة رشا الطبشي أن تسليط الضوء على مشكلة انعدام الجنسية بعد العام 2011 كان مهملاً اجتماعيًا ومدنيًا وسياسيًا، وأن عدد الجهات المدنية المستعدة للعمل فعليًا على الملف لا يتجاوز حاليًا أصابع اليد الواحدة. في المقابل تشير الناشطة النسوية سوسن زكزك إلى أن جهودهن في رابطة النساء السوريات توقفت بعد العام 2013، “نتيجة تعقيد قضية المطالبة بمنح السوريات المتزوجات من أجنبي حق منح الجنسية لأبنائها، بشكل كبير إثر دخول مقاتلين أجانب إلى سوريا وزواجهم مع سوريات”.
الأسباب والتحديات
يرجع تقرير اللجنة العربية لحقوق الإنسان عام 2004، ظهور فئة المحرومين من الجنسية “لأول مرة في سوريا” إلى “عوامل ذات طابع سياسي بحت” مع تجريد عشرات الآلاف من الكرد السوريين من الجنسية في العام 1962. ويبدو أن هذه العوامل ما تزال سببًا لاستمرار التمييز ضد المرأة السورية في قانون الجنسية حتى بعد توقيع سوريا لاتفاقية “سيداو” العام 2002، ورغم ظهور فئات جديدة من الأطفال عديمي الجنسية بعد العام 2011، بحسب ما تذهب غالبية المصادر في هذا التحقيق. ويعزز هذا الرأي، ما يشير إليه حقوقيون/ات من وجود تناقض بين قانون الجنسية وبين الدستور السوري، فضلاً عن توقيع سوريا على مجموعة من الاتفاقيات الدولية (اتفاقيات حقوق الطفل، الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، العهدين الدوليين لحقوق الإنسان،) حيث يترتب على سوريا من جرائها التزامات دولية تلزمها بحل مشكلة عديمي الجنسية، لكن ذلك لا يغير في القضية أي شيء.
الاستنتاج ذاته يتكرر بالانتقال إلى كيفية تعامل الحكومة السورية مع الجهود المدنية المطالبة بتغيير قانون الجنسية بعد توقيع سوريا على اتفاقية “سيداو”، إذ نجد أنها كانت تستند في رفضها لهذه المطالب إلى أربع مبررات تلخصت في، “التعارض مع أحكام الشريعة الإسلامية” و”الحفاظ على حق العودة للاجئين الفلسطينيين”، و “وجود قضية الكرد السوريين المجردين من الجنسية”، و”تهديد السيادة الوطنية والأمن القومي”. عن احتمالية وجود تعارض بين منح المرأة حق منح الجنسية لأبنائها وبين الشريعة الإسلامية، يقول أستاذ الفقه الإسلامي في جامعة أبو ظبي، محمد حبش، بـ “عدم وجود موقف للشريعة ضد مح جنسية المرأة لأولادها، لكونه موضوعًا اجتهاديًا بحتًا، ولأن الجنسية كلمة غير موجودة في الحديث أو القرآن”.
وكان “حبش” من بين من ساندوا مساعي تعديل قانون الجنسية قبل العام 2011 من خلال التواصل مع المسؤولين السوريين، كما شارك في إعداد دراسة فقهية عن قانون الجنسية لصالح الهيئة السورية لشؤون الأسرة. ويضيف: أن “التذرع بالشريعة الإسلامية في غالبية البلاد العربية غير مبرر”، لأن اتفاقية سيداو بحسب رأيه “تنصف النساء وتمكنهن، ولم تكتب ضد الإسلام أو ضد الأديان، بل كتبت حتى بمشاركة فقهاء مسلمين، في الأمم المتحدة”. كما يقول: إن عدم إنصاف المرأة في حق المساواة الجنسية، سببه عدم “وجود إرادة سياسية، لأن الفقه الإسلامي في الواقع السوري حاليًا لا يستطيع وحده أن يغير، لذا لابد أن تكون هناك إرادة سياسية يكون الفقه الإسلامي ظهيرًا لها، ويقدم الحجج الشرعية التي تدعم حق الأم في منح جنسيتها لأبنائها”.
وتتحدث الناشطة سوسن زكزك، أن رابطة النساء السوريات، “ردت أيضا على حجج الحكومة السورية وفندتها، سواء بالحصول على رأي فقهي من الدكتور محمد حبش بأن مسألة الجنسية لا علاقة لها بالنسب، وبالتالي فهي مسألة مدنية سياسية وليست فقهية”. كما تضيف: إن “حجة حماية السيادة والأمن القومي، تتعارض وقانون الجنسية الذي يسمح بحصول الزوجات الأجنبيات للرجال السوريين وأولادهم على الجنسية، لكنه لا يسمح بمنح الجنسية لأبناء المرأة السورية المتزوجة من أجنبي”. أما فيما يتعلق بـ “حق العودة للاجئين الفلسطينيين”؛ فتضيف الناشطة أنهم أجروا “دراسة تحليلية لحق العودة للفلسطينيين، ليتبين أنه حق مضمون وفق قرارات دولية لكل من كان في فلسطين بتاريخ 14 أيار 1948، وكذلك لأبنائه وبناته وأولاده بغض النظر عن الجنسية التي كان يحملها في ذلك الزمان أو حملها بعده”.
وبالعودة إلى القرار الدولي رقم 194 تاريخ 11 كانون الأول/ديسمبر 1948 سنجد في بنده الحادي عشر تأكيدًا على هذا الحق وتنظيم ممارسته: “تقرر (الجمعية العامة للأمم المتحدة) وجوب السماح بالعودة، في أقرب تاريخ عملي، للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم…. ووجوب دفع التعويض ….” وفيما يتعلق بحجة الكرد المجردين من الجنسية؛ فترى الناشطة “سوسن زكزك” أن تعديل قانون الجنسية هو أحد أبواب حل هذه المشكلة”، مضيفة أنهن في رابطة النساء السوريات أرسلن مذكرة للرئيس السوري بشار الأسد بعد إصداره المرسوم 49 القاضي بمنح الجنسية لبعض الأكراد في نيسان/أبريل عام 2011، و”طالبناه بتعديل قانون الجنسية بعد حل جزء كبير من مشكلة منح الجنسية للأكراد، ولكننا لم نجد الاستجابة المطلوبة“.
ويتذكر العضو السابق في مجلس الشعب السوري محمد حبش فترة هامة كانوا فيها “قريبين عام 2008 من إنجاز خطوة جريئة؛ حيث كانت هناك مطالب ممكنة وتجاوب من القيادة السورية”، بحسب تعبيره. ويوضح: أن “من أوقف مشروع تعديل قانون الجنسية، هما التعصب القومي والديني”، مضيفًا أن “أعضاء في البرلمان تذرعوا بأن تعديل القانون سيؤدي إلى اهتزاز الشخصية السورية، وأن كثيرًا من الأمهات السوريات تزوجن من خليجيين، وأن السورية قد تمنح جنسيتها لخليجي”. ولفت “حبش” إلى أن “هذه النظرة كانت مؤسسة على موقف حاقد على الخليج والسعودية في تلك المرحلة، وأنها أثرت في القيادة السورية التي ترددت ولم تجرؤ على التقدم بمشروع القانون إلى مجلس الشعب”، بحسب قوله.
وتوضح الناشطة سوسن زكزك أن آراء فقهية لبعض شيوخ الدين، ممن تعتبرهم السلطة مرجعًا في هذا الأحكام، تقول بأن مسألة الجنسية تتشابك مع مسألة النسب. وتضيف أنهن وجدن خلال فترة مطالبتهن بمنح المرأة السورية حق منح الجنسية لأبنائها أن “السلطة لم ترغب أن تغضب هؤلاء الشيوخ وبقيت على تحالفها معهم، من خلال تثبيت رأيهم بأن هناك تشابكًا بين مسألة الجنسية ومسألة النسب”.
أين وصلنا؟
“أولادي وأولاد أخوتي الاثنين، هم الجيل الثالث من مكتومي القيد في عائلتنا، رغم امتلاكنا اثباتات توجب إعادة الجنسية إلينا”، يقول أحمد سليمان الشقيق الأكبر لفاطمة. ويضيف أن والده أسعد مراد وعمه حسين مراد كانا يمتلكان وثائق سورية، قبل الإحصاء الاستثنائي في العام 1962، لكن والده سجل مكتوم قيد، فيما سجل عمه ضمن أجانب الحسكة، بينما بقيت عمته الوحيدة، حسناء مراد، تحمل الجنسية السورية. وبعد صدور القانون رقم 20 لعام 2011، المعدل لقانون الأحوال المدنية (المرسوم 26 لعام 2007) توجه أحمد شقيق فاطمة كحال عشرات الآلاف من مكتومي القيد لاستعادة جنسيتهم، وأوكل محاميًا لإتمام معاملة منح الجنسية لأخوته وأخواته، العشرة.
يقول أحمد إنهم تعرضوا العام الفائت، للابتزاز ماديًا من مديرية منطقة القامشلي، واضطروا لتقديم مبلغ مليون و400 ألف ليرة بهدف تسهيل استكمال بعض الأوراق، لكن دون جدوى. ويضيف أنه ومنذ بداية العام الجاري تحول ليعمل على حصول عائلته الصغيرة فقط على الجنسية دون أخوته، بتوكيل محام، لكن دون أي نتيجة تذكر حتى الآن.
عضو مجلس الشعب، عبد الرحمن خليل يشير إن “القانون رقم 20 الصادر العام 2011 وتعديلاته وصولا للعام 2017 سهل أمر إعادة الجنسية للمكتومين”. لكنه يوضح أن قرار إعادة الجنسية للمكتومين “لا يزال القرار إفراديًا رغم المطالبات المتكررة، كما أن متابعة المكتوم لملفه إذا ما تمت عن طريق المحامين تكون مكلفة أحيانًا، بسبب الإتاوات المرفوضة التي تفرضها حالة الفساد المتفشية”. وفي الرد (أدناه) الذي تلقاه “خليل” من وزارة العدل السورية، بتاريخ 4 كانون ثاني/يناير 2021، كجواب على كتاب طالب فيه بإيجاد حل لقضية المكتومين، تحصر وزارة العدل السوري مكتومي القيد بفئتين تصفهما بـ (المهملين والمتقاعسين)، وهما إما “سوريون مسافرون ومغتربون منذ فترة طويلة وأهملوا تسجيل أولادهم في سجلات الأحوال المدنية حتى تجاوز عمرهم الـ18 عاما”، والثانية “حالات نتجت عن الإحصاء الاستثنائي عام 1962، وإن تقاعس البعض من مكتومي القيد، وحالات أخرى لم يشملهم الإحصاء الاستثنائي، أوجدت حالة لأبناء مكتومي القيد وآبائهم”.
وينفي الرد مسؤولية الحكومة آنذاك عن نتائج الإحصاء، الذي تسبب بتجريد عشرات الآلاف من جنسيتهم، وفق تقارير منظمات حقوقية سورية ودولية. كما يوضح رد وزارة العدل أن الأوراق المطلوبة لمعاملة مكتومي القيد هي:
- بيان مكتوم يحصل عليه من مختار المحلة بحضور الولي والولد واثنين من الشهود.
- ضبط شرطة يبين أسباب المكتومية يكتبه الأب، بحضور شاهدين جدد.
- تحال الأوراق هذه إلى لجنة تسجيل المكتومين في السجل المدني بالمحافظة التي ينتمي إليها.
- يتم هناك تنظيم ضبط مشاهدة وتقدير العمر من قبل لجنة تقدير الأعمار.
- بعدها ترسل الأوراق إلى اللجنة الأمنية المختصة.
- تقوم الجهة الأمنية المختصة بالدراسة ثم تعيده، مع القبول أو الرفض.
لكن سليمان محمد (اسم مستعار) وهو من عائلة فيها أربعة أجيال من مكتومي القيد، يتحدث من واقع تجربته عن خطوات أكثر عددًا لاستكمال أوراق معاملة مكتوم القيد بين دمشق وقامشلي والحسكة، وهي خطوات احتاجت منه جهدًا وكلفته وقتًا ومالا منذ العام 2012. وتشمل هذه الخطوات
- بيان مكتوم من مختار الحي.
- مراجعة مديرية المنطقة بقامشلي.
- تحويل لمخفر شرطة للحصول على ضبط شرطة يبين أسباب المكتومية.
- مراجعة لجنة تسجيل المكتومين في السجل المدني بالحسكة.
- مراجعة لجنة تقدير الأعمار بالحسكة.
- مراجعة السجل المدني في دمشق.
- مراجعة فرع الأمن السياسي في قامشلي.
- في حال الموافقة ترسل للفرع 300 بدمشق.
- وفي حال الموافقة تراجع الهجرة والجوازات.
- ومن ثم إلى السجل المدني بدمشق
- وأخيرا تقديم البصمات في السجل المدني بقامشلي.
ويضيف محمد أن جهوده منذ العام 2012 لم تفلح في الحصول على الجنسية، رغم أن جده وأخويه الاثنين كانوا يحملون الجنسية في العام 1962، كما أن والدته أيضا كانت تحمل الجنسية السورية، وقد عاد منذ بداية العام الجديد لتجديد أوراق عائلته الصغيرة دون أخوته عبر توكيل محام. وفضلاً عن الإجراءات المربكة؛ يتحدث محمد عن تكاليف تتجاوز الألفين دولار (نحو 9 ملايين ليرة سوريا)، الأمر الذي يفوق قدرة الكثيرين من أصحاب الدخل المحدود للتقدم لاستكمال أوراقهم.
أصدر الرئيس السوري بشار الأسد في العام 2017 مرسومًا يقضي بإزالة تحفظ سوريا على المادة الثانية من اتفاقية "سيداو" بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية
ويقول الحقوقي محمود عمر إن مكتومي القيد ممن لديهم أقارب مواطنون من الدرجة الأولى أو من الأصول والفروع يتحولون إلى مواطنين لكن بإجراءات معقدة. ويوضح عمر أن التعامل مع مئات الحالات يتم بشكل فردي؛ حيث يتقدم مكتوم القيد بشكوى، ومن ثم يقوم بتثبيت زواج أمه وأبيه، ومن ثم يقوم برفع دعوة تثبيت نسب لكي يرتبط بوالده. فضلاً عن أن المكتوم الذي يتجاوز الـ 18 يقوم بالتقدم بنفسه فيما يتولى الأب إتمام المعاملة عن الأطفال.
وتتفق السياسية الكردية نارين متيني مع سليمان محمد على أن موافقة فرع الأمن السياسي في قامشلي تلعب دورًا حاسمًا في إعادة الجنسية لمكتومي القيد، وهو أمر قد يكون مستحيلاً الحصول عليه بالنسبة لأي شخص يشتبه بانتمائه لأحزاب كردية أو ممارسة نشاط معارض في السنوات الماضية. وتقول متيني التي عملت إلى جانب المعارض الكردي البارز مشعل التمو في تيار المستقبل إن “جدها جرد من الجنسية بعد الإحصاء الاستثنائي 1962، وأن والدها لا يزال يسعى لاستعادة جنسيته. وقد تسبب تجريدهم من الجنسية بحرمانها وأخوتها من الدراسة الجامعية، وكما منعها من “حضور مؤتمرات بشأن الأزمة السورية والقضية الكردية وقضية المرأة منذ 2011”.
المحامية نالين عبدو ترى إن “مكتوم القيد بات ملزمًا مؤخرًا بالحصول على موافقة أمنية متى ما أراد منح محاميه وكالة قضائية للعمل على معاملته للحصول على الجنسية”. في المقابل نجد أن عبد الرحمن خليل، عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري؛ أحد أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية التي تعتبر الائتلاف الحاكم في سوريا، يقول: “إذا تابع مكتوم القيد ملفه بشكل شخصي فمن الممكن أن يحصل على الجنسية ما لم يكن هناك ملاحظات تتعلق بالجوانب السياسية والأمنية تدين عمله”. ويبدو أن الاعتبارات السياسية والامنية تلعب دورًا رئيسًا في حسم قضية المجردين من الجنسية، التي يقول الحقوقي محمود عمر إن اعتراف الحكومة بها كان “بهدف تحييد الأكراد عن الصراع في العام 2011”.
بالانتقال إلى الجانب الآخر من القضية، نجد أن الرئيس السوري بشار الأسد أصدر في العام 2017 مرسومًا يقضي بإزالة تحفظ سوريا على المادة الثانية من اتفاقية “سيداو” بما لا يتعارض مع الشريعة الإسلامية. لكن الحقوقية نالين عبدو ترى أن التحفظ بقي قائمًا في جوهره على اعتبار أن المرسوم جاء مترافقًا مع عدم التعارض مع الشريعة الإسلامية، وهو ما يبقي على التمييز في القوانين السورية ضد المرأة ساريا إلى إشعار آخر. وكان طرح قانون جديد لمجهولي النسب عام 2018، أول مناسبة يتم فيها إثارة قضية زواج السوريات من مقاتلين أجانب ضمن مجلس الشعب السوري، حيث اعتبر بعض الأعضاء أن “القانون جاء لتلبية حاجة إنسانية”، فيما وجد آخرون أنه قد “يكرس سلالة الإرهابيين بوثائق رسمية”. وقال بعض المعارضين من الأعضاء بإمكانية أن يكون “بعض مجهولي النسب من أبناء إرهابيين أجانب جاؤوا من مختلف دول العالم”، ورغم موافقة المجلس بالأغلبية على المادة 20 من مشروع القانون التي تجيز منح الجنسية لمجهولي النسب، بعد الجدال، إلا أن القانون لم يصدق بعدها.
المسؤولية والحلول: دوران في حلقة مفرغة
من البديهي أن القرار الأخير في حسم ملف عديمي الجنسية في سوريا، كما وإزالة التمييز ضد المرأة في القوانين يعود للسلطات السورية في دمشق، لذا كانت غالبية المصادر التي لجأنا إليها في هذا التحقيق تحملها مسؤولية تعقيد الملف وتأخر معالجته حتى الآن. لكن ماذا عن تفاقم الظاهرة في السنوات الأخيرة؟ وهل يمكن إعفاء بقية الأطراف السياسية والسلطات في مختلف المناطق السورية من المسؤولية، فضلاً عن النشطاء المدافعين عن حقوق المرأة والطفل، بالإضافة إلى المنظمات المدنية والمجتمعات المحلية، وأخيرًا وليس آخرًا المجتمع الدولي؟!
ضمن هذا السياق، يقول عضو مجلس الشعب السوري عبد الرحمن خليل، إن الحزب الشيوعي السوري تبنى مطلب إعادة الجنسية للمجردين نتيجة الإحصاء الاستثنائي 1962 حتى صدور المرسوم 49 القاضي بمنح الجنسية، لأجانب محافظة الحسكة في العام 2011، وأن القرار 20 الصادر عام 2011 وتعديلاته حتى العام 2017 سهل إعادة الجنسية إلى مكتومي القيد “. ويشير إلى أن قرار إعادة الجنسية “لا يزال إفراديًا، وأن المطلوب هو أن يصدر قرار بأن تعاد الجنسية لكل مكتومي القيد لأنهم مواطنون يمتلكون وثائق ويملكون مبررات قوية لاستعادتها”. لكن الحقوقي محمود عمر يتحدث عن لزوم أن يترافق إصدار أي قانون أو قرار لحل قضية مكتومي القيد جذريا، بـ “تعويض لسلب حقهم في الجنسية طيلة عقود”. وأوضح “خليل” أن “قضية المكتومين طرحت تحت قبة البرلمان لمرات عديدة، أما قانون الجنسية فهو قيد الدراسة وقد يعرض على مجلس الشعب لاحقًا، ولكنه لم يعرض خلال الفترة الماضية”.
بالانتقال إلى مسؤولية الأطراف الأخرى في المناطق خارج سيطرة الحكومة، ترى الباحثة رشا الطبشي أن هناك إهمالاً سياسيًا اجتماعيًا مدنيًا لهذه القضية خلال الفترة الماضية وهو ما تسبب بتفاقمها، إذ لم تكن هناك جهات تعمل على إيجاد حل للمشكلة أو حتى مناقشتها. وتضيف الطبشي أنه ورغم أن الأوضاع تحسنت قليلاً؛ إلا أن عدد الجهات المدنية المستعدة للعمل على قضية انعدام الجنسية فعليًا لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة حاليًا. وتشير الباحثة إلى أن السلطات المختلفة التي تتقاسم النفوذ في سوريا، لم تهتم، لا سابقًا ولا حاليًا بملف عديمي الجنسية أو حق المرأة في منح جنسيتها لأبنائها، بينما كان الحال أسوأ على مستوى السياسيين؛ حيث إن طرح القضية للنقاش في الاجتماعات التحضيرية للجنة الدستورية كان خجولاً جدًا، وأن عدد المهتمين بالملف قليل على مستوى السياسيين المعارضين.
في السياق ذاته ترى الرئيسة السابقة لمجلس المرأة السورية في شمال وشرق سوريا، لينا بركات أن “عدم وجود إحصاءات عن أعداد الأطفال المولودين لسوريات تزوجوا من مقاتلين أجانب تتحمل مسؤوليته المؤسسات المعنية في الإدارة الذاتية”. وتعتبر بركات أن هناك “تقصيرًا داخليًا، لأن القائمين على العمل في هذه المؤسسات لا يمتلكون خبرات كافية، كما أن الوفود الدولية التي زارت المنطقة لم تتجاوب مع مطالب لتدريب المؤسسات المعنية وتطويرها”. وتتهم بركات التحالف الدولي بـ “عدم الجدية في التعامل مع الأزمات الحقيقة التي ظهرت بعد خسارة التنظيم؛ كملف أطفال مقاتلي التنظيم في مناطق الإدارة الذاتية”، ذلك أن هؤلاء الأطفال مرشحون ليكون أكثر فئة بين فئات عديمي الجنسية في سوريا “خطورة”. وتوضح” بركات” أنه ليس معلومًا كيف تقوم الأم بتربيتهم في المخيمات، وكيف سيكون مستقبلهم في ظل حرمانهم من حقوقهم المدنية، لذا فإن هذا الجيل المحروم من الجنسية مهيأ ليتحول إلى مقاتلين جدد في صفوف التنظيم، وبالتالي قد “نعود للدوران في حلقة مفرغة”.
في المقابل فإن، شيخموس أحمد، مدير مكتب شؤون اللاجئين والنازحين في الإدارة الذاتية يحمّل المجتمع الدولي “مسؤولية الأعداد الكبيرة من الأطفال عديمي الجنسية في المخيمات، والذين ينتمون لعشرات الجنسيات، لأنهم يكبرون وتكبر معهم مشكلة اجتماعية وقانونية وسياسية”. ويضيف “أحمد”: “نحن لا نستطيع منحهم الجنسيات أو الإقامات، بحكم أن الإدارة الذاتية لا تحظى بأي اعتراف رسمي، كما أن الكثير من البلدان لا تقوم باستعادة رعاياها”.
وفيما يتعلق بالمقترحات والحلول الممكنة، تقول الباحثة رشا الطبشي إن “هناك حاجة ملحة لتوعية شاملة على القضيتين؛ ذلك أن المرأة لا تعرف أنها محرومة من حقها في منح الجنسية لأبنائها، كما أن الرجال لا يعرفون، وهناك فئة كبيرة من المجتمع متمسكة بأن ذلك مخالفة للشرع”. وترى الباحثة أن هناك ضرورة للتوعية على المستوى الدولي مع الضغط دوليًا على السلطات السورية عبر المناصرة والحشد لفكرة أن “هذا النظام يدعي العلمانية، إلا أن قوانينه لا تحقق المساواة بين الرجل والمرأة”. وتشير الطبشي أخيرًا إلى أهمية “إدراج هذه الفئة من الأطفال ضمن الفئات المستفيدة من المساعدات الدولية، كما والضغط على الجهات القادرة على منح هؤلاء الأطفال وثائق ليمارسوا حياتهم بشكل طبيعي”.
بينما نجد الناشطة النسوية لينا بركات، ترى أهمية “لإنشاء مراكز أبحاث أو توثيق أو إحصاء، لأن عدم وجودها يعيق التواصل مع المنصات الدولية، بلغة الأرقام”. وعلى المستوى السوري ترى “بركات” أن التناقض الواضح بين قانون الجنسية السوري وبين الدستور الحالي، فيما يخص التمييز ضد المرأة، “يمكن أن يكون بابًا لرفع دعوى لدى المحكمة الدستورية السورية وإعادة إثارة القضية من جديد”.