ينتشر على الطريق الرابط بين مدينة المكلا بمحافظة حضرموت (جنوب شرقي اليمن) إلى محافظة عدن (جنوب غربي اليمن) الكثير من العمال الذين يكابدون ظروفًا مناخية قاسية واقتصادية خانقة، ويعملون بأدوات بدائية بسيطة؛ لمساعدة سائقي السيارات والمركبات على امتداد الطريق؛ حيث يقومون بتعبيدها من الأحجار والصخور والحفر المميتة والأتربة المتراكمة؛ خصوصًا في بعض المناطق التي تعاني أوضاعًا سيئة، وتتخللها مجاري السيول، مسببة تجمعًا للمياه؛ الأمر الذي يفاقم أوضاعها التي تعاني أصلاً من سوء إنشاء في بنيتها التحتية، وهو ما يعيق مرور المركبات فيها، خصوصًا الصغيرة منها.
بعد الشروق بقليل، وتحديدًا عند السادسة صباحًا من كل يوم ينطلق الأربعيني (محمد سعيد) للعمل في تعبيد جزء من طريق ترابي وعر بيديه العاريتين، في منطقة (غيظة البهيش)، بين مدينتي المكلا وميفع (جنوب شرقي اليمن)، في مقابل هذه الخدمة ينتظر محمد شيئًا -ولو يسيرًا- من المال مما تجود به أيدي بعض سائقي هذه المركبات المارة على هذا الطريق.
باندلاع الحرب ظهرت أزمة شحة وانعدام غاز الطبخ المنزلي، والارتفاع الخيالي في سعره، مما ضاعف من الطلب على الحطب والفحم كبديل للغاز، فبدأت العمل أنا ومعي اثنان من إخوتي في الحطب
يحكي محمد لمواطن، أنه يعيل أسرة مكونة من سبعة أفراد، وما يجمعه من مبالغ يصفه بالقليل جدًا، مقارنة بالجهد الذي يبذله في هذا العمل المنهك طوال اليوم. ويؤكد بأنه ينفق أغلب هذه المبالغ في توفير الاحتياجات اليومية الضرورية لأسرته، وبكلمات ثقيلة يواصل حديثه: “لكني أبقى عاجزًا عن توفير قيمة الذهاب للطبيب، أو العلاجات اللازمة في حال أصيبت زوجتي أو أحد أبنائي بوعكة صحية، ومجرد التفكير في مثل هذا الأمر بات يخيفني كثيرًا”.
ويتحدث الكثير من هؤلاء العمال كما (محمد) عن ألوان وصنوف من المعاناة اليومية في توفير لقمة العيش الكريم لهم ولأسرهم، بطرق تحفظ لهم كرامتهم وماء وجوههم، وفي المقابل يشكو عدد من السائقين ما يجدون من وعورة، ومصاعب تواجههم على هذه الطرقات، وما تلحقه من أضرار جسيمة بمركباتهم خصوصًا في طرق هامة كهذه تربط بين محافظتين يمنيتين مهمتين، في حين تغيب السلطات عن دورها في تحسين هذه الطرقات، والقيام بصيانتها؛ لاسيما بعد اندلاع الحرب في البلاد، التي أدت إلى غياب كلي للدور الخدمي للدولة.
حطب وفحم بدلا من الغاز
وعلى جانب ذلك الطريق نفسه وليس ببعيد عن (محمد) ترى كميات من حزم الحطب المرصوص، يقف إلى جوار بعضها شاب عشريني اسمه (سالم علي)، والذي يقاسي هو الآخر ظروفًا وأوضاعًا صعبة، يحدثنا عنها قائلاً: “باندلاع الحرب ظهرت أزمة شحة وانعدام غاز الطبخ المنزلي، والارتفاع الخيالي في سعره، مما ضاعف من الطلب على الحطب والفحم كبديل للغاز، فبدأت العمل أنا ومعي اثنان من إخوتي في الحطب؛ لأنه شكل بالنسبة لنا مصدرًا جيدًا نوعًا ما للدخل مكننا من إعالة أسرنا؛ حيث أصبحت ظروف المعيشة وتوفير أبسط مقومات الحياة اليومية صعبة للغاية في هذه البلاد”.
ولفت سالم إلى أنه كلما ارتفع سعر الغاز المنزلي أو انعدم، عندئذ فإنه وإخوانه يشهدون إقبالاً كبيرًا في شراء الحطب منهم. ويكمل قائلاً: “في الغالب أحصل يوميًا على ربح يصل إلى (20,000 ريال يمني؛ ما يعادل 17 دولارًا أميركيًا حسب تقلبات أسعار العملة المحلية)”. وفي الوقت ذاته يعي سالم جيدًا خطورة ما يقومون به، وضرره على البيئة، وهو ما يصفه بـ: “الكارثة الكبيرة والاعتداء والتنكيل بالبيئة وأشجارها”، ولكنه سرعان ما يبرر ذلك بقوله: “ماذا نصنع؟ نفعل كل هذا من أجل أن نعيش، والإنسان والحفاظ على حياته أهم من النبات”.
ارتفاع أسعار المشتقات النفطية، والنقص الحاد في الغاز المنزلي وانعدامه، أسهما بشكل كبير في استخدام الحطب والفحم؛ الأمر الذي تسبب في رواج تجارتهما، وزيادة الطلب عليهما بشكل ملفت، وهو ما يشكل ضغطًا هائلاً على الغطاء النباتي ويستنزفه
والحق أن الجهات الرسمية تقابل ما يحدث على مرأى ومسمع منها بكثير من اللامبالاة، بالرغم أنه يتوجب عليها التدخل السريع؛ لمنع استمرار هذه الكارثة البيئية، وإيجاد حلول ومعالجات مناسبة، وحماية الغطاء النباتي الذي طاله العبث بصورة لم تشهدها البلاد طوال تاريخها؛ لاسيما مع دخول مناشير الخشب الكهربائية الحديثة ووصولها إلى أيادي (الحطابين)، وبهذا تكون البيئة النباتية على وشك التعري التام، بعد اعتماد -مؤخرًا- عدد من الأفران والبيوت وحتى المطاعم في بعض المدن على الحطب كبديل مجد عن الغاز والديزل والكيروسين.
وفي هذا الصدد يؤكد عبد الله أبو الفتوح لمواطن، خبير يمني في الإدارة البيئية: “إن ارتفاع أسعار المشتقات النفطية، والنقص الحاد في الغاز المنزلي وانعدامه، أسهما بشكل كبير في استخدام الحطب والفحم؛ الأمر الذي تسبب في رواج تجارتهما، وزيادة الطلب عليهما بشكل ملفت، وهو ما يشكل ضغطًا هائلاً على الغطاء النباتي ويستنزفه، ويساهم بوضوح في تناقص الأشجار في الأرياف والمدن الحضرية، وهذه المشكلة -بمرور الوقت واستفحالها المستمر- ستكون لها عواقبها ونتائجها المدمرة والوخيمة”.
عمال الشمال في الجنوب، من أجل لقمة العيش
وهناك في مدينة المكلا نفسها وعلى امتداد شارع (الغويزي) بمنطقة (الديس) كل يوم صباحًا، وعلى شكل مجموعات بين عاملين اثنين إلى خمسة يبدأ عمال البناء والطلاء يومهم في انتظار زبائنهم الذي يأتون إليهم؛ للتعاقد معهم للعمل بأجر اليومية.
ومع ارتفاع الشمس شيئًا فشيئًا في السماء، تبدأ هذه المجموعات (والتي جميعها تقريبًا تتكون من عمال جاءوا بغرض العمل من شمال اليمن إلى جنوبه) بالتحرك عبر الشارع نفسه، ومعها أدوات العمل التي تتكون غالبًا من: فأس، مجرفة، معول، فرشاة الطلاء، وجزمات (أحذية) بلاستيكية طويلة؛ متقدمة غربًا إلى منتصفه، وربما وصلت إلى أوله الذي يشكل أحد مداخل مدينة المكلا، أملاً في الوصول أولا للسيارة التي ستصل وتطلب عمالاً.
“جميع من تراهم يقفون هنا عمالاً، كلنا شماليون، نعمل باليومية في البناء أو الطلاء، ومؤخرًا صرنا نعمل في أي عمل، المهم ألا ينقضي يوم أحدنا دون أن يجني مالاً، أنا مثلاً من العمالة الماهرة في هذا المجال، لكنني اضطررت ذات يوم للعمل في حفر مجاري الصرف الصحي، وفي يوم آخر عملت على تجهيز وتهذيب أشجار حديقة أحد الزبائن؛ وبالرغم من ذلك فإني أجد يومًا عملاً، وربما أقف أيامًا بلا عمل”؛ هكذا يشرح لمواطن عبد الرزاق شايع (37 عامًا) من محافظة المحويت (شمال اليمن) حاله الذي مضى عليه أكثر من خمس سنوات -رفقة أسرته- عاملاً في البناء بمدينة المكلا (جنوب اليمن).
ويضيف شايع: “ما يزيد من معاناة العمال أكثر ويضاعفها بشكل لا يوصف؛ هي عمولات التحويل الباهظة للأموال التي نجنيها هنا من العمل في الجنوب، ونرسلها لأهالينا في الشمال؛ فما يقوم العمال بتحويله من مال ندفع أضعافه كعمولات تحويل لمحلات الصرافة بسبب فارق صرف العملة في الجنوب عنه في الشمال؛ حيث ندفع (78,000 ريال يمني؛ ما يعادل 65 دولارًا أمريكيا كعمولة لتحويل مبلغ 100,000 ريال يمني؛ ما يعادل 83 دولارًا أمريكيًا)، تخيل.. أليست مأساة ومعاناة؟”
الحرب يا صاحبي! لا تبقي ولا تذر، أجبرتنا على ترك أهلنا ومناطق عيشنا الأصلية واغتربنا بعيدًا بحثًا عن عمل، وكثيرًا ما نقبل بشروطه المجحفة التي لا تحتمل؛ لنتمكن من تأمين لقمة العيش لنا ولأسرنا
ولإيضاح صورة أخرى من فصول هذه المأساة الفاجعة يشير عبد الرزاق بجواره إلى صديقه عبد الحق ناشر (35 عامًا) من محافظة المحويت أيضًا قائلاً: “اسأل عبد الحق؛ متى كانت آخر مرة زار فيها أهله وأطفاله في المحويت؛ إنه لا يراهم إلا في السنة مرة واحدة أو مرتين، والتي غالبًا ما تكون في أيام الأعياد، بسبب عمله هنا من أجل توفير أبسط مقومات الحياة الضرورية لهم هناك”.
ويبدو أن السبب الرئيس وراء تباعد فترات زيارات العمال لأهاليهم في المحافظات الشمالية هو بعدها جغرافيًا عن مناطق عملهم في محافظة حضرموت، وهذا يجعل تكاليف السفر باهظة ومرتفعة، وتستهلك مالا كثيرًا -ربما- كل ما قام العامل بجمعه والحصول عليه خلال أشهر عدة من العمل المضني، وهو ما يدفعهم لتقليص زيارتهم لأهاليهم عدا في مناسبات محددة، وفق ما تسمح ظروفهم المادية.
وينهي عبد الحق الحديث معنا قائلاً: “هي الحرب يا صاحبي! لا تبقي ولا تذر، أجبرتنا على ترك أهلنا ومناطق عيشنا الأصلية واغتربنا بعيدًا بحثًا عن عمل، وكثيرًا ما نقبل بشروطه المجحفة التي لا تحتمل؛ لنتمكن من تأمين لقمة العيش لنا ولأسرنا، فقط لأننا نريد أن نعيش بكرامة، ومن عرق جباهنا دون امتهان من أحد”.
وفوق هذا كله يعيش هؤلاء العمال على مبدأ اختصار تكلفة كل شيء؛ أملاً في جني قليل من المال وادخاره، حيث يسكنون بطريقة لا تضطر الواحد منهم ليدفع أكثر من (30,000 ريال يمني في الشهر ما يعادل 25 دولارًا أمريكيًا)، قد تضاف لها تكاليف الكهرباء والمياه، فيستأجرون البيت سويًا، وفي كل غرفة ينام عدد قد يصل لخمسة أشخاص، ليوزع مبلغ الإيجار على الكل، وإذا ارتفعت الأجرة من مالك البيت مثلاً، لا يرفعون على الواحد منهم الأجرة، إنما يدخلون عاملاً آخر معهم، وهكذا يحافظون على السعر المتفق عليه ضمنًا.
عبد الرزاق، وعبد الحق وأمثالهما ممن يعملون في الأعمال الإنشائية والبناء هم الفئة الأشد هشاشة بين العمال ككل، ومن أقلهم أمنا من حيث الأجر واستقرارًا في العمل، علاوة على خطورة عملهم، واحتمالية تعرضهم لحوادث العمل. كما حصل مع الحاج علي قاسم (53 عاما من محافظة ذمار شمال اليمن) الذي سقط أثناء عمله من إحدى البنايات بمنطقة (المساكن) في المكلا، وتسبب له هذا الحادث بعدد من الكسور، ويرقد حاليًا في أحد مستشفيات مدينة المكلا؛ لتلقي العلاج على حسابه الشخصي؛ وفق ما أخبرنا بذلك عبد الرزاق وعبد الحق.
فوضى سوق العمل.. وعمالة بلا حقوق
وائل الحيفي -المستشار القانوني في قضايا العمل- يصف لمواطن ما يحدث حاليًا في سوق العمل والعمالة اليمني بـ: “الفوضى؛ وذلك لاختلاله، وسيطرة العشوائية، والعمالة غير المنظمة عليه، وافتقاده إلى المعايير القانونية والتنظيمية الصحيحة والمناسبة، التي يمكن أن تحفظ للعامل عمله وأجره وكرامته وحتى سلامته، وما زاد هذا الوضع وفاقمه هو اندلاع الحرب، وتأثيراتها وتداعياتها”.
التبعات الكارثية التي أفرزتها الحرب أجبرت اليمنيين على التوجه إلى سوق العمل، وتعلم عددًا من المهن والحرف والأنشطة التي لم يعتد البعض عليها، أو تلك التي كانت في يوم من الأيام مبتذلة
وفي أحد جولات الشارع الرئيسي لمنطقة (فوة) في قلب مدينة المكلا يقف صالح ملوحًا بكلتا يديه بعِشرة وألفة كبيرتين، وكأنه يعرفك منذ زمن طويل، ويدعوك كبقية زبائنه للإقبال إليه. تحدث معنا برحابة صدر قائلاً: “أمنت لنفسي هذا العمل كمصدر دخل إضافي منذ حوالي سنتين، أصبح هذا الشارع صديقي؛ إنه يعني لي الكثير، أكبر أمنياتي أن أستمر في عملي هذا لأستطيع تربية أبنائي بشكل جيد، لا أريد شيئًا آخر، العمل في التدريس أصبح مرهقًا، ولا يغطي حتى مصاريفنا اليومية، راتبي الشهري في المدرسة لا يتعدى (55,000 ريال يمني ما يعادل 46 دولارًا أمريكيًا) ولدي زوجة وثلاثة أولاد”؛ بهذه الكلمات العفوية البسيطة، اختصر صالح علي (39 عاما، يحمل درجة البكالوريوس في التربية، ويعمل في الصباح معلمًا متعاقدًا لدى أحد المدارس الخاصة جوار منزله) مطالبه جميعها، ويعمل في شواء وبيع أحشاء الأغنام، والتي تعرف محليا بــ (المغاضيف والكرش) للمارة في الجولة، كمصدر دخل إضافي؛ لتوفير لقمة العيش.
ويضيف صالح ضاحكًا: “قد يبدو هذا العمل محتقرًا من وجهة نظر البعض، لكنه وفر لي مصدرًا إضافيا للدخل، لم أنجح في الحصول على عمل آخر مما كنت أحلم به مطلقًا، فعملت بكل فخر وشرف في هذا العمل”. وعن كيفية التوفيق بين عملين في اليوم يقول: “يبدأ يومي من الساعة الخامسة فجرًا، أصلي الفجر ثم أركب دراجتي النارية هذه وأنطلق إلى المسالخ التي أتعامل معها لأجمع الأحشاء، وأعود بها إلى البيت، ومن ثم أذهب إلى المدرسة. وهنا يأتي دور زوجتي (أم أحمد)؛ فهي تقوم بمساعدتي في تنظيف وتجهيز هذه الأحشاء لحين عودتي من المدرسة، أرتاح قليلاً إلى ما بعد صلاة العصر، وبعدها -كما ترى- أفترش هذا المكان وأبدأ العمل، الحمد لله، صرت أحصل على دخل يكفيني على الأقل في الفترة الحالية أنا وزوجتي وأبنائي، مستورين الحمد لله”.
ويردف: “على الرغم من أن المكسب قليل مقارنة بالتعب الذي أواجهه جراء هذا العمل، لكن التعب دائمًا منسي، والحمد لله على كل حال، ربنا بيفرجها من عنده، لا أريد أن أمد يدي لأحد مطلقا”.
وهنا يشير مطيع القدسي -الخبير في أنظمة العمل- إلى أن: “التبعات الكارثية التي أفرزتها الحرب أجبرت اليمنيين على التوجه إلى سوق العمل، وتعلم عددًا من المهن والحرف والأنشطة التي لم يعتد البعض عليها، أو تلك التي كانت في يوم من الأيام مبتذلة؛ في محاولة للبقاء والصمود في وجه الأزمات المعيشية التي لم تتمكن قدرات الكثيرين من تحملها”.
وفي شارع آخر من شوارع مدينة المكلا، تحديدًا في منطقة (أمبيخة بحي الضيافة)، يقف سمير عثمان بعمره الممتد ثلاثين عامًا في منتصف الشارع الرئيسي ليبيع المياه المعدنية والمشروبات الغازية للمارة وأصحاب المركبات وركاب حافلات الأجرة العامة. يجوب سمير اتجاهي الشارع ذهابًا وإيابًا دون كلل أو ملل ليوفر طلبات زبائنه؛ أملاً في الحصول على هامش ربح يكفيه لضروريات يومه -كما يقول-.
الحرب أجبرتنا على مغادرة بيوتنا ومزارعنا وأعمالنا، وفراق أهالينا وأحبائنا، والبحث عن أي مصادر دخل جديدة؛ لنتمكن بها من العيش بكرامة؛ بل جعلتنا نعمل في أعمال لا يعلم مدى صبرنا عليها إلا الله وحده
يحكي سمير: “مع تقدم الوقت نحو الظهيرة وهي ساعة الصفر لدى الكثير من العمال، تبدأ احتمالات الحصول على يوم عمل تتناقص شيئًا فشيئًا، وإن توفر فإن الأجر يبدأ بالانخفاض إلا في عملي والحمد لله، صدقًا أظل أعمل بنفس الوتيرة طوال اليوم بكل طاقتي لكسب لقمة عيش حلال لي ولأسرتي، نحاول الادخار ما أمكننا ذلك على حساب بطوننا، ونعيش بالحد ربما أقل من الأدنى من مستلزمات العيش، باختصار يا أخي نحن عايشين على قدنا، ورؤوسنا مرفوعة، والحمد لله”.
وبأريحية عالية يحسب لنا سمير ربحه اليومي: “أبيع القارورة الواحدة بإضافة خمسين ريالاً يمنيًا عن السعر المعتاد؛ أي بـ (250 ريالاً يمنيًا ما يعادل 0.2 دولارًا أمريكيًا)، تعال نحسبها.. لنفرض بأني أبيع في المتوسط 40 قارورة؛ سيكون ربحها (2,000 ريال يمني ما يعادل 1.6 دولارًا أمريكيًا)، لكنني مقابل ذلك أقف هنا منذ الصباح الباكر، ولا أعود إلى بيتي إلا ليلاً، أعتقد بأني أستحقها.. صحيح؟”.
“ببلاش.. ببلاش”.. على أحد أرصفة (حي المساكن) وسط مدينة المكلا؛ هكذا تتعالى أصوات مجموعة من ملمعي وخياطي الأحذية والحقائب المفترشين الأرض (وهم مجموعة من النازحين من محافظة الحديدة غرب اليمن)، في محاولة مستمية منهم لجذب المارة إليهم؛ لتلميع أو خياطة أحذيتهم أو حقائبهم، لقاء الظفر -في أحسن الأيام والأحوال- بحوالي (5000 خمسة ألف ريال يمني ما يعادل 4 دولارات أمريكية) تعينهم وأسرهم في حياتهم اليومية. بحسب مختار أحمد (29 عامًا) الذي حكى لنا بأن الحرب رمت به وأسرته نازحين من غرب اليمن حتى جنوبها؛ هربًا من لظاها المستعر.
ويستطرد مختار: “الحرب أجبرتنا على مغادرة بيوتنا ومزارعنا وأعمالنا، وفراق أهالينا وأحبائنا، والبحث عن أي مصادر دخل جديدة؛ لنتمكن بها من العيش بكرامة؛ بل جعلتنا نعمل في أعمال لا يعلم مدى صبرنا عليها إلا الله وحده، دفعتنا إليها فقط الحاجة والبؤس والضرورة، بالرغم من قلة مردودها وفائدتها علينا”.
ويشير د/ أحمد سعيد شماخ -الخبير الاقتصادي اليمني، ورئيس مؤسسة الإعلام المالي والاقتصادي للدراسات والاستشارات- إلى أنه وبسبب الحرب فقد بات العرض في سوق العمل أكثر من الطلب، وهذا جعل الكثير من اليمنيين يفكرون ويعملون في أعمال ملفتة وغير معهودة من قبل؛ سعيًا في تأمين مصدر للعيش والرزق يقتاتون منه، في ظل ظروف اقتصادية طاحنة تعصف بالجميع، والسبب ذاته جعل السوق يتقبل ويستلطف منتجات ومخرجات هذه الأعمال، وبالتالي يساهم في انتشارها.
غصص جمة تعايشها وتراها رأي العين مما تتعرض لها هذه الفئة من اليمنيين، كما بقية اليمنيين على امتداد رقعة البلاد الجغرافية، الذين ساءت أوضاعهم وظروفهم المعيشية كثيرًا بعد نحو ثماني سنوات من الصراع، في ظل توسع مهول لفجوة الفقر والبطالة، وتمدد الأزمة الإنسانية لتشمل معظم السكان، وضبابية الحلول في الأفق بين الفرقاء، وتصنيف البلاد بأنها تمثل أسوأ أزمة إنسانية في العالم تستدعي وقف الحرب، التي أفرزت تصاعدًا مخيفًا في أزمات توفير الغذاء، والمتطلبات الأساسية لليمني.
وبالمجمل فإن انتشار مثل هذه الأنواع من الأعمال والعمالة على الطرقات يعبر عن مستوى المعاناة وتردي الأوضاع المعيشية في معظم البلاد، واستقطابها لعدد كبير من اليمنيين من مختلف الشرائح العمرية يمثل نتيجة حتمية لانتشار الفقر وفقدان سبل كسب العيش. ومما لا شك فيه بأن الصراع قد ترك آثاره المدمرة على الأمن الغذائي لليمنيين؛ حيث تواجه 80% تقريبًا من الأسر وضعًا اقتصاديًا أكثر سوءً مقارنة مع الوضع الاقتصادي قبل نشوب الصراع، بحسب منظمة الأغذية والزراعة (FAO) التابعة للأمم المتحدة.
ويعد الغلاء وقلة فرص العمل هما المعضلتان الأساسيتان اللتان تواجهان اليمني وترهقه، إلى جانب عدم انتظام صرف الرواتب لموظفي الدولة منذ نحو سبع سنوات؛ هي مجمل الأسباب التي أثرت بشكل كبير على سبل العيش، وكذلك على الملايين من اليمنيين المعتمد عليهم كمعيلين. وقد اعتبر البنك الدولي في تقرير له صادر في العام 2021 أن دعم الشعب اليمني أصبح أكثر أهمية من أي وقت مضى، وذلك من خلال مشاريع تعمل على خلق فرص العمل، وريادة الأعمال لليمنيين الذين عانوا من سنوات طويلة من الصراع، وانعدام الأمن الغذائي، مؤكدًا التقرير ذاته بأن انكماش الاقتصاد اليمني وصل إلى أكثر من 40% منذ العام 2015، وهو من أعلى المعدلات في العالم.