ماذا يعني أن تجد صوتك وإحساسك متجسدًا على جدار ما صدفة، وأنت سائر دون هدى تفكر في خيالاتك الحاضرة والقادمة، لوحة على جدارية تنقلك من عالم إلى آخر، خدمة فنية مجانية مقدمة لك خصيصًا، مليئة بالجمال والسعادة والأمل وكذلك بالحياة، في زمن الجري وراء الماديات والاستهلاك المفرط. حقيقة، هذا هو فن الرسم على الجدران، فن خدمة العالم مجانًا.
عندما رأيت تلك الجدارية للوهلة الأولى بألوانها الحاضرة وخطوطها الواضحة، أحسست بشعور غريب يبعث فيَّ التجدد والنشاط والبسمة في آن واحد، والتي أعطتني دافعية أكبر وإحساسًا عميقًا ودافئًا، بأنني حاضرة حتى لو لم أتكلم. وما إن دققت النظر أكثر، حتى سمعت صوت الإنسانية والحرية وشاهدت الإصرار والتغيير الذي يطمح إليه شباب الوطن وأطفال الحي ونسوة الصباح.
بحثت عن الفنان صاحب الجداريات حتى عثرت عليه، حاملًا ريشته الذهبية وألوانه الدافئة، ليعبر عن هويته ونفسه وحكايا الناس وأسرار الحياة بخطوط عريضة تثبت في وجدان القلب والروح بعمق دفين، التقيت بالفنان مصطفى الحلواجي، ليحدثنا عن فنه وتجربته وعن الصعوبات التي واجهها في خدمته المجانية التي يقدمها للعالم.
يرى مصطفى الحلواجي أن الفنان عندما يرسم، فإنه يحرك كل أعضاء جسده من الأعلى للأسفل من أجل أن يرسم، مقابل أن يحاكي الجدار الذي أمامه بكل كيانه، بالإضافة إلى وجوده في الشارع؛ أي أنه فن شعبوي خالص، ويعتبر الرسم الترجمة الأولى للمشاعر الإنسانية، من خلال إثبات الوجود والتعبير عن الذات، وهذا ما دلت عليه الرسومات في الكهوف؛ حيث استخدم الإنسان البدائي الحصى من أجل أن يعبر عن أفكاره ومشاعره بلا تردد.
بدأ الحلواجي الرسم على الجدران في دولة الإمارات العربية المتحدة بعد رجوعه من الدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية في التسعينيات: “توقف فترة عن ممارسة فن الجرافيتي لكونه جديدًا على الساحة الفنية العربية آنذاك، وتوجهت لعمل ديكورات على جدران المنازل في بداية الألفية، حتى عاد شغفي من جديد في العام 2013 فأقام ورش عمل وجداريات في باب البحرين والتي لاقت إقبالاً كبيرًا عن السابق”.
عندما رأيت هذا الفن للوهلة الأولى وجدته كالسحر وأعتبره الفن الأول، ولو رجعنا إلى عالم الفن القديم في مصر، لوجدنا أن الفن عندهم انطلق من خلال الجداريات
مصطفى الحلواجي Tweet
يتذكر مصطفى انطباعاته الأولى عن الجرافيتي: “عندما رأيت هذا الفن للوهلة الأولى وجدته كالسحر وأعتبره الفن الأول، ولو رجعنا إلى عالم الفن القديم في مصر، لوجدنا أن الفن عندهم انطلق من خلال الجداريات”. ويعتقد “أن هذا الفن يخاطب الجميع بلا استثناء ويعيش حالة زمنية متقلبة مثلما تمر على الإنسان؛ فعندما تتغير الفصول، فإن الجدران أيضًا تتعرض للمطر والرياح والرطوبة، ما يعني أنها تعيش حالة شعورية وتواكب ما يحيطها من تغيرات، على عكس اللوحات التي تعرض في المعارض الفنية؛ فإنها تكون محصورة لفئة دون أخرى، لاسيما أن ثقافة المجتمع والإقبال عليها ضعيف جدًا لا يقارن بما يكون في الخارج”.
تعود كلمة جرافيتي المشتقة من الكلمة الإيطالية graffito “نقش”، إلى تاريخ العثور على رسومات في الآثار الرومانية القديمة، في بقايا مدينة تيكال في المايا في أمريكا الوسطى، على الصخور في إسبانيا التي يرجع تاريخها إلى القرن السادس عشر، وكذلك في الكنائس الإنجليزية في القرون الوسطى. وخلال القرن العشرين، ارتبط فن الرسم على الجدران في الولايات المتحدة وأوروبا ارتباطًا وثيقًا بالعصابات الذين استخدموها في مجموعة متنوعة من الأغراض منها: تحديد أو المطالبة بالأرض، أو لإحياء ذكرى أفراد العصابات المتوفاة في “نعي” غير رسمي.
كما اشتهر فن الرسم على الجدران منذ قديم الأزل في جميع أنحاء العالم؛ وبالأخص الولايات المتحدة لاستخدامها في الحملات الإعلانية، بعد ذلك تم اعتبار الرسم على الجدران شكلًا من أشكال الفن العام، واستمرارًا للتقاليد، على سبيل المثال، في الجداريات التي كلف بها مشروع الفن الفيدرالي لإدارة الأعمال في الولايات المتحدة أثناء فترة الكساد الكبير، وعمل دييغو ريفيرا في المكسيك.
يشكل الجرافيتي لمصطفى نوعًا من التحدي والحضور، خصوصًا أن أغلب دول العالم يمنع فيها للآن الرسم على الجدران، ولكن لحفظ هذا الفن، فإن عامة الفنانين يحاولون قدر المستطاع البعد عن كل ما يهدد الاستقرار العام للبلدان والشعوب”.
وعن قيمته الشعورية والحسية يقول:” يحرك هذا الفن في الكثير، ووجودي في مكان عام بحد ذاته يغير من تكنكيك اللوحة وشعورها، من الناحية التقنية والفنية والأداء؛ لاسيما أن عرض الجدار لا يقل عن 5 أمتار، ما يعني أنك لا تستطيع أن تقوم بمسح وإعادة الرسم مرة أخرى، فيحتم عليك أن تكون دقيقًا ومنظمًا بشكل كبير، ما أضاف لي الكثير من الحماس والتحدي والأهمية والحضور والقوة أمام اللوحة، بعدما كنت أستخدم فرشاة صغيرة وألوانًا محدودة، فإنني انتقلت إلى شيء أكبر وخبرة أعمق؛ سواء أكان على المستوى الفني أو على المستوى الشخصي بين الناس في المجتمع”.
يفضّل الحلوجي استخدام الألوان الدافئة؛ “فالفن بالنسبة له يعبر عن محطات في حياة الإنسان، وهذا ما ودته في التعامل مع كل لوحة واستخدام الألوان فيها”، يقول: ” كانت تعكس حالتي المزاجية والنفسية في كل مرحلة من مراحل عمري، واستخدامي لعدد محدد من الألوان، بسبب كوني عفويًا ومجنونًا من الداخل في ذات الوقت، ولو أخذنا اللون الأحمر مثال على ذلك، لوجدنا أنه يجذب بشكل لافت وجريء أكثر من غيره”.
وينحاز الحلواجي لرسم الوجوه، بالأخص الطفولية، فهو يرى أن: “لكل فترة في حياته الفنية، أستخدم “ثيم” معين، ومن خلاله أحاول أن يوصل رسالته الفنية، وهذا ما حملته جداريات البورتريه الطفولية والتي ركزت فيه على اختيار شخصية لها قصة ومعنى في الحياة؛ حيث تعبر عن حالة شعورية خاصة مختلفة عن الأخرى، وهذا ما تضمنته الجدارية التي رسمها في مهرجان تونس 2020 والتي حازت المركز الأول في شمال أفريقيا كونها أكبر لوحة بورتريه لوجه طفل حقيقي في الحي الذي أقيم فيه المهرجان.
يؤمن مصطفى بحضور الثقافات المتباينة وضرورة تداخلها، يُعلن تعلقه الشديد باللغة العربية، وأن أكثر جدارياته تحتويها، رغم ذلك استخدم الكتابة الهندية. يرى الحلواجي أن لكل حرف مذاقه الخاص، بالأخص الحرف اللاتيني عندما يتطور ويدخل عليه اللمسة الحديثة.
يعاني فن الجرافيتي من عدة تحديات، أصعبها أن جهات الدعم قليلة جدًا، في الجانب الفني، خاصة في مجتمعاتنا العربية التي يُعد الجرافيتي فيها فنًا حديثًا نسبيًا، وبالرجوع إلى التجربة الأوروبية، فإن الوضع يختلف هناك؛ فقد قامت الحكومات بتخصيص مساحات مخصصة لهذا الفن حتى يعمل الفنانون فيها دون أي معوقات أو شكاوى، من خلال اشراك كبرى الشركات عن طريق دعم الفنون والبرامج الثقافية مقابل خفض الضرائب التي من قبل الحكومة، وهذا ما يطور الفن حقيقة.
مثلا: تتصدر المملكة المتحدة قائمة الدعم بوجود عدد كبير من فناني ” الطباشير”، -كما تسميهم- والتي ترجع تسميتهم إلى حوالي 1500 سنة، ومن أشهر فنانيها العالميين “بيسترول” الذي يقوم باستغلال الأماكن المهمشة في مدينته ووكينغهام، وذلك من أجل رسم لوحات مليئة بالحياة والأمل والإبداع خصوصًا بين الأحياء الصغيرة والمعدمة من أجل بث روح الإبداع والجمال والسعادة في أرواح قاطنيها.
ولا يخفى على أحد عند زيارته كبرى العواصم العالمية، أن يشاهد ما صنعته يد الفنان “ جوليان بيفر”، والتي تجعلك تندهش بسبب جودة إبداعها وإتقانها وتناسق ألوانها وروحها الحاضرة أمامك بجودتها ثلاثية الأبعاد؛ حيث تحثك على استمرارية طرح الأسئلة على نفسك حتى تصل إلى الشك بعينيك، فتسأل أهي حقيقة أم خيال مدروس ومتقن؟
كما أن للجدران روحًا للتعبير عن مطالب الشعوب، وهو ما فعله فنانو تونس إبان أحداث الربيع العربي من خلال رسم جداريات تعبر عن روح الشباب وقصائد الشابي في شارع “الحبيب بورقيبة”، وساحات الاعتصام في “سيدي بوزيد” و”القصبة”، والتي تؤكد أن الفن لا ينفصل عن واقع الحياة المعيش، ولا يمكن للمبدع أن يعيش في برج عالٍ دون أن يحس بآهات الآخرين ومشاعرهم الإنسانية.
وحول التجربة العربية مقارنة بالأجنبية، يقول مصطفى عن الجرافيتي:” بدأ يأخذ زخم ممتاز ويركب الموجة بجد، ومن هذه الدول مصر والإمارات والسعودية والأردن والمغرب وتونس التي شارك في مهرجانها الأخير 75 فنانًا، لا ننسى أن العالم العربي له لمسة مميزة في مجال الحرف العربي، ولكن يجب أن نتذكر أيضًا موضوع ” الترند” الذي يأخذ حيز آخر.”
يتذكر مصطفى أبرز المحطات الفنية التي أثرت فيه:
- مهرجان العش لكونها السنة الأخيرة في المهرجان، حيث قمت برسم أربع جداريات، والتي خضت فيها تجارب ودروسًا متنوعة اختلفت عن السنوات الأخرى.
- مهرجان تونس، حمل لي نقلة نوعية من جميع النواحي، كون البلد وشعبها مهتمًا ومحاطًا بالفن من كبيرهم إلى صغيرهم؛ فحتى أطفالهم كانوا يشاركونا لحظات الرسم ولا يبخلون بتقديم المساعدة.
- دخول معبد ” حتحور” في مصر؛ تحديدًا منطقة الأقصر يستهلم روح الجمال والأمومة والحب والفن، وطلب مني رسم أحد رموز الإله هناك من خلال دراسة فلسفتها، مما جعل لدي نظرة أخرى للفن؛ وهي نظرة روحانية، والتي ساهمت في تغيير أسلوبي في الفن”.
وعما يطمح إليه في السنوات القادمة يخبرنا الحلواجي: ” أن مصر هي المحطة التي بدأت فيها منذ 2021 تحديًدا من منطقة الأقصر، حيث أقمت فيها لمدة سنة ونصف، وقمت بدراسة الفن، وقمت بعمل بحث عن ماهية الألوان الخاصة بالقبور والمعابد هناك، كما قمت بتقديم ورش فنية خارجية ومحلية، وأعتبر أن التدريس يعطيني دافعية للاستمرار في التعليم والتطوير على الصعيد الشخصي والمجتمعي، بالإضافة إلى إقامة مهرجان فني عالمي للتلاحم مع الفنانين الآخرين وفتح سوق العمل وصناعة خاصة لهذا الفن، لإيماني بتأثير الفن على جميع الأصعدة، وهذا ما أطمح إليه حاليًا”.