يستعرض المسلسل الفرنسي “النساء في زمن الحرب“ الأدوار القيادية التي اضطرت المرأة لتحملها في فترة الحرب العالمية، وكيف خرجت النساء من الأدوار التقليدية إلى إدارة المصانع والمستشفيات وقيادة سيارات الإسعاف، وغيرها من الأدوار، حتى النساء اللواتي احترفن العمل الليلي بسبب الحاجة وقلة الأعمال الأخرى وجدن أدوارًا مهمة في خدمة أوطانهن، وعرفن من خلالها قيمتهن الحقيقية التي تتجاوز التكسب من الجسد.
بغض النظر عن أحداث المسلسل ومطابقتها للواقع؛ إلا أن التاريخ تحدث بكثرة عن دور الحروب والكوارث والأزمات في تعزيز مكانة المرأة في المجتمع، ودخولها لمجالات كانت حكرًا على الرجال لأسباب مختلفة، وممارستها لمهام دفاعية ومهنية مهمة.
خرجت المرأة للعمل إبان الحربين العالميتين؛ الأولى والثانية بتشجيع من الحكومات التي أرسلت الرجال للحرب واحتاجت للأيدي العاملة؛ فشجعت المرأة عبر الدعاية الإذاعية على العمل وحفزتها للخروج من المنزل لأن الوطن يحتاجها، فالرجال في ساحة القتال، والصناعات ستتوقف إن لم تأخذ المرأة مكان الرجل في الأعمال كافة، حتى تلك التي تطلب قوة بدنية كالبناء والحديد والصلب والصناعات الحربية وغيرها.
وحتى بعد أن انتهت الحرب وعاد الرجال من ميادين القتال إلى أعمالهم السابقة، كانت المرأة قد حققت مكتسبات؛ أهمها تدمير الصورة النمطية المتعارف عليها في المجتمع، وهي أن المرأة لا تصلح إلا للبيت وتربية الأطفال، فتقبل المجتمع الأدوار الجديدة للمرأة، ولكنه رغم ذلك لم يعاملها بإنصاف، ودخلت المرأة دوامة المطالب بالمساواة في الأجور وتحسين المعاملة التي كانت تتصف بالدونية؛ وخصوصًا مع عدم وجود قوانين رادعة لمنع التحرش والاستغلال.
كانت الحروب بوابة دخول المرأة لعالم الإنتاجية، لكنها أثبتت جدارتها أيضًا في زمن الركود الاقتصادي الذي يسمى بالكساد العظيم في عشرينيات القرن الماضي؛ حيث هوت الأسهم الأمريكية وأفلست المصارف وتم تسريح العمال، لكن المرأة خرجت تبحث عن فرص، وانضمت لقطاعات أقل تضررًا واستطاعت المرأة المتزوجة التي خرجت لسوق العمل أن تؤمن لبيتها قوت اليوم.
لعل ما ساعد المرأة أنها مطلعة على احتياجات النساء أكثر من الرجال؛ فهي تعرف تمامًا ما تحتاجه الزبونة من خدمات، بالإضافة لانخراطها في سوق العمل مع الرجل؛ فأصبحت تملك من الخيارات ما يؤهلها للعمل؛ إما في أعمال كانت سابقًا للرجال، أو أعمال خدمية تخص النساء كالطهي والتجميل وغيرها؛ فتوسعت خياراتها وتنوعت.
أشارت دراسة قامت بها جامعة إلينوي الأمريكية بعد ركود عام 2008 أن النساء المهاجرات كانت أكثر مرونة في التعامل مع الأزمات الاقتصادية وخسارة العمل من الرجل؛ فهي تتمتع بسعة الحيلة والبحث عن خيارات متعددة؛ منها التوظيف الذاتي، وهي أفضل في التأقلم مع المتغيرات الطارئة في العمل من الرجل، وأكثر تحركًا في كل الاتجاهات.
نحن في هذا الزمن أكثر عرضة للكوارث والأزمات الاقتصادية؛ بل إن حياتنا أصبحت مجموعة أزمات وعراقيل لا يمكن التنبؤ بها، منذ عشر سنوات والعالم العربي يخرج من أزمة ليدخل أخرى، الربيع العربي وما تلاه من تهجير، ثم الكوفيد 19 الذي أوقف الحياة وأجلس الناس في بيوتهم وهوى بالاقتصاد، وبعدها مباشرة الحرب الروسية الأوكرانية والتي امتدت آثارها السلبية على الأمة العربية؛ فعم الغلاء وارتفعت الأسعار وزاد التضخم، وأخيرا كارثة الزلزال التي حلت بسوريا وتركيا ولم ننته من تعداد آثارها المدمرة حتى هذه اللحظة، وبين كل أزمة وأزمة هناك المشاكل المعيشية اليومية والفساد المستشري وانهيار العملات وارتفاع نسب البطالة.
اليوم يتحدث الرجل الواعي عن المرأة "السند"، ويرغب بها أكثر من المرأة "العبء " التي تقيمه بناء على إمكانياته، لكنه للأسف يريدها سندًا بدون أن يتخلى عن مكتسباته
خسر عدد كبير من الناس عملهم في فترة الكوفيد، الأسر التي كانت أقل تضررًا هي الأسر التي تعتمد على دخلين، هذه الأسر كانت الأكثر على الصمود في الأوقات الصعبة، اليوم لم يعد بالإمكان أن تعتمد الأسرة على دخل واحد؛ إن انقطع توقفت الموارد المالية ودخلت الأسرة مرحلة الديون ثم التسول، وبات استقرارها مهددًا بالأزمات التي تعصف بها من كل جانب، وآثار تلك الأزمات المادية والنفسية على كل من الرجل والمرأة، لا يستطيع أحد أن يعيش في خوف مستمر من انقطاع الرزق. اليوم بات عمل المرأة ضرورة لما على الأسرة من التزامات ومصاريف، لم يعد خيارًا لكل مضطلع على مآلات الاقتصاد والسياسة، هذه الهزات التي تحل بالعوائل باتت أخبارًا يومية يلزم معها تغيير أدوار الرجل والمرأة وما يتبعه من تغيير للقوانين تحترم شكل العائلة الجديد.
التأثير النفسي لتدهور الأوضاع المادية اليوم يعاني منه الرجل أكثر من المرأة، فالدور التقليدي للرجل هو جلب المال، بل إن وجوده وقيمته المجتمعية تعتمد على هذه القدرة، وجملة “لا يعيب الرجل إلا جيبه” أصبح مدخلاً للاضطراب النفسي والشعور بالدونية والعدمية عند كثير من الرجال، فهذه الجملة تعني أن الرجل بلا مال بات” معيوبًا”، وهذا مصطلح غير إنساني له تأثيرات مدمرة على الرجل قد تنعكس عليه بهزات نفسية تصل إلى ممارسة العنف أو الاستسلام للاكتئاب.
اليوم يتحدث الرجل الواعي عن المرأة “السند”، ويرغب بها أكثر من المرأة “العبء ” التي تقيمه بناء على إمكانياته، لكنه للأسف يريدها سندًا بدون أن يتخلى عن مكتسباته، فيتحدث عن غلاء المهور ويطالبها بالزواج البسيط والمشاركة المادية دون أن يقدم لها شيئًا في المقابل، يريدها عصرية في الواجبات لكن بحقوق المرأة في زمن جدته، وهذا غير ممكن.
إن تغيير الأدوار التقليدية في الأسرة بات واقعًا ملموسًا، العمل ضرورة لكل إنسان، وهو أمان لكل من الرجل والمرأة وللأسرة التي تجمعهما، لكنه يجب أن يكون مبنيًا على تفاهمات تقسم الأعمال المنزلية والاعتناء بالأطفال بطريقة عادلة، كما يجب أن تدعم القوانين هذا التوجه باعتبار الزواج شراكة بين اثنين لهما حقوق متساوية.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.