بين المرتفعات الجبلية في شرق اليمن، على سفح جبل نقم، تقع مدينة هائلة مليئة بالبنايات التاريخية العالية، التي تزينت بلون الطبيعة، فتوافقت معها كأنها ابنتها التي أنبتتها وسط تلك الرقعة الصحراوية الشاسعة. تدخل إليها عبر بوابة تاريخية واحدة بقيت من أصل ثمانية أبواب، أطلق عليها اسم “اليمن” إلى الحارات والأزقة التي ظللها ارتفاع البنيان وميلُه. بين منزل وصل ارتفاعه إلى الطابق الثامن، ومسجد كان حدًا فاصلًا بين حيين، ووكالة تجارية، تذوب المدينة بين سكانها لتقوم صنعاء القديمة بأناقة غير معهودة واستثنائية.
أسست مدينة صنعاء القديمة في القرن الخامس قبل الميلاد تقريبًا، كانت عاصمة لمملكة سبأ في القرن الأول للميلاد، وتعددت الأزمنة والحكومات عليها على مدار التاريخ، لكنها ثابتة كحجر زاوية لا تنفك أن تعبر عن نفسها بقوة وشموخ، تربطها علاقة واحدة بالبيئة من حولها؛ فهي مدينة صنعت من البيئة وإلى البيئة لتعبر عنها، تراعي اتجاه الهواء وطلوع الشمس، تنسجم مع كل فصل من فصول السنة الأربعة بانسيابية لينة، وأخذت هوية بصرية معينة اختلطت فيها بين أنماط المنازل وتعرجات الطرق.
ولم تكن صنعاء وحدها كذلك؛ فتاريخ اليمن موزع على محافظات المختلفة شمالًا وجنوبًا، عدن وتعز والحديدة ومأرب وأبين وإب وحضرموت والبيضاء وحجة وصعدة، كل مدينة منها عبرت بشكل معين عن نمط عمراني واحد، لا تشبه مدينة الأخرى، حافظت كل واحدة منهن كذلك على رمز قوي، دينيًا كان أو سياسيًا، لكنهم اتفقوا جميعًا على تقديس ماضيهم والتعبير عن حاضرهم فيه.
تعرجات العاصمة القديمة
“هي مدينة كثيرة الأهل طيبة المنازل بعضها فوق بعض، إلا أنها مزوقة بالجص والآجرّ والحجارة المهندمة” – ابن رسته.
هكذا وصف ابن رسته الجغرافي الفارسي ذو الأعلاق النفيسة مدينة صنعاء، وهي كذلك مذ أن وصفها لم تتغير ولم تتبدل مع تغيرات الأزمنة، وأول ما يلفت الانتباه ناحية العاصمة القديمة، تلك المباني شاهقة الارتفاع، كثرة النوافذ والأدوار، على غير عادة المباني التراثية في أي مكان حول العالم، تزداد الدهشة عندما تعلم أن تلك المباني لم تستخدم النوع المعروف من الدعامات أو السقالات؛ بل بنيت هكذا بتناسق حاد وعظيم، فقط مجموعة من العوارض الخشبية التي عملت على توازن الأسقف والأدوار.
كان هناك سبب وجيه لعلو تلك المباني بهذا الشكل المعجز، بجانب الطبيعة الوظيفية للغرف والأدوار فيها، وهو حاجة الإنسان في المدينة إلى توفير الأمن ضد القوات المعادية أو في أوقات الحروب الأهلية والنزاعات القبلية. لكن ربما نضيف سببًا وجيهًا آخر، وهو حاجة تلك المباني إلى الظل في تلك الظروف الصحراوية القاحلة؛ فارتفاعها أتاح للشوارع الساكنة أسفلها مساحة مظللة كبيرة، فضلًا عن انسجام الهواء بداخلها التي أتاحته طبيعة البناء بالطوب اللبن والطين، وهذا يفسر طبيعة استخدامه حتى الآن في اليمن في تلك المدن القديمة، مما يبرز فعاليته على مدار تلك السنوات الطويلة.
يتكون المنزل عادة من غرف نوم، وديوان لاستضافة الغرباء، فضلًا عن غرفة المقيل التي خصصت لمجالس القات التي اشتهرت بها اليمن على مدار التاريخ، ومجالس القات لا تنفصل عن التاريخ الثقافي لكل مدن اليمن بلا استثناء، بالإضافة إلى المطابخ والحمامات والأفنية التي تتصدر عمارة المنزل. أما العنصر الفريد فهو ما يطلق عليه المفرج، وهي تلك الغرفة التي تعلو المنزل في آخر طابق وتتخذ في تخطيطها شكل البنيان كله، واستخدم كقاعة استقبال رسمية كذلك وفرصة للنظر إلى المدينة من أعلى نقطة فيها، لذا سمي أحيانًا بالمنظر. الجدير بالملاحظة هنا أن القصور اليمنية القديمة عرفت بهذا أيضًا؛ حيث يذكر الهمداني أن قصر غمدان كانت تعلوه غرفة تسمى بالمنظر، يبرز هذا تسلسل العنصر المعماري منذ قديم الأزل حتى حاضر اليمن اليوم.
في ملمح عبقري آخر يبرز حيوية تلك العمارة، هو تلك النوافذ التي تملأ الواجهات الجنوبية دون غيرها من الواجهات، وهي عبارة عن نوافذ مستطيلة أو قمرية “على شكل دائرة” تتسع أكثر كلما صعدت إلى أعلى، واستخدم فيها شتى أنواع الزخارف والفنون حتى تكون واجهة أنيقة للمنازل من الخارج، واستعملت في الجهة الجنوبية تحديدًا، حيث الرياح التي تنساب داخل المنازل في الصيف، أما غلقها في الشمال فبسبب رياح الشتاء الباردة التي تأتي من تلك الجهة، ووعي المعماري بتلك المسألة حيوي.
مساجد وأولياء
تاريخ اليمن في الإسلام طويل متنوع، متشعب بين محافظاتها المختلفة باختلاف مذاهبها، الدولة التي لم تكلف المسلمين في المدينة عناء الغزو أو المواجهة، حيث دخلت في الإسلام بدعوة واحدة، وهو ما جعلها ذات خصوصية وتفرد في تاريخ الإسلام، وسابقة في تاريخه بسهم كبير، هو ديني قبل أن يكون سياسي؛ فالأفكار خرجت من هناك وحفظت هناك أيضًا، والعمارة ليست بعيدة عن هذا السجال الفكري الذي استمر طوال تاريخ الإسلام، فهي المعبر عنه ومرآته.
ظفرت المدينة القديمة صنعاء بعدد كبير وضخم من المساجد القديمة، إلا أن أهم مسجد فيها وأقدمها كان الجامع الكبير، الذي يرجع تاريخه إلى أول الإسلام؛ حيث تذكر الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ببنائه في بستان باذات؛ القائد الفارسي الذي حكم اليمن وجعل من قصر غمدان مقرًا له.
بني المسجد على أنقاض القصر القديم الذي كان مقرًا لحاكم اليمن قبل الإسلام، ويلاحظ هذا من خلال أبواب القصر الفولاذية الباقية حتى الآن بكتاباتها التي كتبت بالخط المسند، خلق المسجد حالة روحانية عالية في اليمن كلها وصنعاء تحديدًا؛ فمن خلاله ارتبط أهل اليمن بالدعوة الأولى للنبي وتأثيره عليهم وخصوصيتهم عنده، وفيه صلى الصحابة الذين أرسلهم النبي للدعوة فيها؛ لذا لا يستغرب أبدًا الأعداد الكبيرة التي تتزاحم على أعتابه في كل صلاة.
هذا فضلًا عن عمارته الأنيقة؛ حيث يتزين بمئذنتين صبغتا باللون الأبيض، فيما يأخذ نمطًا تقليديًا عرف في العمارة الأولى للمساجد في العالم الإسلامي. تتزاحم من حوله المنازل القديمة والطرقات الضيقة المتفرعة، لكنه يبقى مركزًا في البلدة القديمة، لا يمل الناس من النظر إليه والعبور نحوه.
لم يكن هذا المسجد الوحيد الذي أسس في السنوات الهجرية الأولى؛ فجامع صعدة على سبيل المثال أحدها، وهو الذي أسسه الإمام يحيى بين الحسين الإمام الزيدي الذي يمتد نسبه إلى علي بن أبي طالب، وهو الذي حكم اليمن في القرن الثالث الهجري، وأسس فيما عرف لاحقًا بالدولة الهادوية؛ حيث أطلق على نفسه لقب الهادي إلى الحق.
ابتنى الهادي له مسجدًا في صعدة المدينة التي أحسنت وفادته، وهي إحدى المحافظات الشمالية في اليمن الآن. لكن تأسيس المسجد في البداية لم يكن كما هو الآن؛ حيث تم تطويره وزيادة العمل عليه من خلال أبنائه الذين استكملوا تأسيس الدولة. كان ثقل الشمال الديني يمكن في هذا المسجد؛ حيث كان منطلق الزيدية ليكون موزايًا للجامع الكبير الذي في صنعاء، فتأسيسه من قبل الإمام الهادي إلى الحق كفيل بأن يجعله محط زيارة مئات الناس يوميًا حتى الآن، فضلًا عن كونه مدرسة دينية رائدة في عصور حكم دولة الأئمة الزيدية.
يظهر المسجد الآن بمئذنة مرتفعة عن كل المباني حوله، تلتف من حوله القباب والأضرحة التي دفن فيها الأئمة الزيدية، ويأخذ النمط المعماري لمدينة صعدة نمط نجران القريبة منها والتي كانت تابعة لها، وهو النمط الذي انتشر في تلك المنطقة من الجزيرة العربية، حيث يميل اللون الغالب فيه إلى الرمادي، بالإضافة إلى الزخارف التي زينت الأحزمة الأفقية أعلى المباني. تحافظ تلك المدينة كذلك على السور التاريخي الذي يدور حولها ليحفظها من كل عدوان قديم. يحتفظ المسجد بعدد كبير من النقوش القديمة؛ مثل تلك التي تزين المنبر، وشواهد القبور التي ترجع إلى تاريخ مبكر من حكم الدولة، مما يجعل له ثقلاً تاريخيًا.
بقيت في اليمن كذلك عدة مساجد تحمل نفس القدر من القدسية إما لارتباطها بأئمة دينين بعينهم، أو ارتباطها بقادة حكموا البلاد على مدار سنوات معينة؛ فالجامع الكبير في زبيد المدينة التي يطلق عليها اليمنيون في الجنوب الغربي مدينة العلم والعلماء، ارتبطت بشخصية الصحابي أبي موسى الأشعري يحمل نفس القدر من التقدير بين الناس.
للنساء نصيب في المساجد أيضًا، يتمثل هذا مثلًا في مسجد الملكة أروى بنت أحمد الصليحي، الواقع في مدينة جبلة اليمنية، وهو مسجد أقامته الملكة أروى الشهيرة، ملكة الدولة الصليحية التي حكمت اليمن في القرنين الحادي عشر والثاني عشر الميلادي. والمسجد متسع يشبه الجامع القديم في صنعاء إلى حد كبير في التكوين المعماري، لكن تفرده في منشئه وبانيه.
بنو رسول والمماليك
ارتبط تاريخ بني رسول سياسيًا بالمماليك في مصر، لذا لم يكن مستغربًا أن تجد بعض القطع الفنية التي تأثرت بالفن المملوكي في القاهرة، ولم يكن مستغربًا كذلك أن تجد بعض الملامح المعمارية والفنية التي قامت بين طيات الصخور والجبال في اليمن، تقارب ما تم بناؤه في القاهرة، حتى الاسم منها.
فالمدرسة الأشرفية التي بناها الملك الأشرف الثاني إسماعيل بن الملك الأفضل عباس في القرن التاسع الهجري في تعز، شاهد على هذا الامتزاج؛ فالمدرسة بنيت بشكل أنيق عال الفن جيد الصناعة؛ فالزخارف الكتابية والجصية التي تزين كل ركن في المدرسة لم تترك مجالًا لنقطة فارغة، إلا ما يتناسب مع مفردات الهندسية والنظر، والخط شبيه نسبيًا إلى ما نفذ في القاهرة؛ خاصة في الفترة الأولى للمماليك، بالإضافة إلى الجص كذلك وطريقة الزخارف فيه. وانتشار المدارس في تلك الفترة تحديدًا كان لهدف سياسي؛ وهو نشر المذهب السني بداية من حكم الدولة الأيوبية إلى الدولة الرسولية التي تلتها في الملك وتوائمت مع الدولة المملوكية في القاهرة.
خاتمة
صحيح أن عمارة اليمن تنوعت بشكل كبير ومتعدد، لكنها امتلكت ميزة ربما لم تتوافق لكثير من الدول التاريخية في المنطقة؛ وهو أنها ذات هوية بصرية؛ فالناظر لعمارة اليمن في كل ركن ومحافظة يعرف أنها يمنية، وهو ربما لم تظفر به مناطق أخرى غير تلك الدولة الواقعة جنوب الجزيرة العربية في ركن استراتيجي وحيوي.