لا يمكنني الاحتفال بيوم المرأة العالمي الذي يصادف الثامن من مارس، دون أن أتذكر إنسانة ومفكرة عربية شجاعة تحدت المنظومة الذكورية، التي ترى في أجساد النساء ملكية شخصية للذكور، وطالبت بأن تكون السلطة على جسد المرأة للمرأة وحدها، فحوربت في حياتها، وهوجمت حيّة وميّتة؛ إنها نوال السعداوي.
كتابها “المرأة والجنس” كان طوق نجاة لفتيات نشأن على كراهية أجسادهن ورغباته، فأسقط نظريات قائمة على معلومات مضللة تناقلتها نساء مرعوبات من المجتمع، وجدن في كراهية الجنس صك شرف يضمن القبول والرفعة، فتيات عشن في صراعات داخلية عميقة بين الرغبة والكراهية والخوف والترهيب من الجسد؛ فإن ثرن وعبرن عن رغباتهن اتهمهن المجتمع بالعهر وقلة الحياء، ففضّلن أن ينافقن المجتمع ليحتفظن بصورتهن المحترمة في أعينه، بل ويهاجمن -أحيانا- أي امرأة تتحدث أو تتصرف بحرية، في هجوم استباقي منهن كدفاع عن الشرف وإثبات للعفة.
أتذكر نوال السعداوي وكتابها وأنا أقرأ اعترافات الفتيات والنساء على جروبات الفيسبوك المنتشرة؛ فالسوشيال ميديا وإمكانية الكتابة عليها بهوية مستعارة أو مخفية، أعطت للمرأة العربية حرية غير مسبوقة في التعبير عن نفسها ورغباتها دون أن يتم تهديدها بالرقيب، تخلت المرأة عن قناع الوقار الزائف والنفاق والكذب، وإن كانت الأغلبية لا تملك أن تتكلم بأسمائها الحقيقية، هذه الجروبات كشفت الوجه الحقيقي للمرأة العربية الذي لا نراه ولا نسمع عنه.
من بين قصص الحرمان المنتشرة على هذه الجروبات، ما تكتبه نساء متزوجات عن البرود الجنسي والعاطفي، مراحل غالبًا ما يجد الرجل لها مخرجًا سهلاً؛ إما بالعلاقات خارج إطار الزواج، والتي -يا للغرابة- “مبررة مجتمعيًا” له، أو بالزواج الثاني، بينما تعلق المرأة في حلين أحلاهما مر ومشبع بالحرمان؛ فإن قررت أن تُطلّق فلا ضمان لها بالزواج مجددًا بسبب قوانين الحضانة التي تحرمها من أطفالها من جهة، أو بسبب وصمة المجتمع التي لا ترحم المطلقة وتحدد خياراتها من جهة أخرى، وإذا قررت البقاء فإنها تدرك أنها ستعيش مقهورة ومحرومة جنسيًا وعاطفيًا، بالإضافة لشعورها بالدونية لتفضيل زوجها لنساء أخريات عليها، ووجودها في زواج مرهق وقبولها بأوضاع تسحق كرامتها وأنوثتها.
أحل الإسلام تعدد الزوجات وحرم تعدد الأزواج الذي كان موجودًا قبل الإسلام، وعلى الرغم من أن عقوبات الزنا كانت تطال المرأة أكثر من الرجل، لأن الرجل يستطيع أن يتزوج أربعًا (بالإضافة لملكات أيمانه آنذاك)، إلا أن المرأة لم تكن تعاني من الكبت الجنسي والعاطفي الذي تعانيه اليوم؛ فطبيعة الحياة كانت توفّر مرونة عالية في الزواج والطلاق بالنسبة للمرأة، فكانت تتزوج ثم تُطلق وتتزوج من جديد بكل سهولة، والقصص المتواترة من عهد النبوة عن زواج امرأة بأكثر من صحابي من صحابة الرسول معروفة وفي كتب التراث، حتى إن الزواج من صديق الزوج السابق لم يكن كارثة أو خيانة، كان الزواج حقًا من حقوق المرأة؛ خصوصًا وأن زيجات المرأة والرجل لم يكن يترتب عليها دمار الأطفال وضياعهم؛ فالأطفال أبناء الجميع (بالمفهوم الاجتماعي)، إن لم تستطع الأم إرضاع طفلها أرضعته مرضعة، أما التربية فيشارك فيها المحيط من العائلة الممتدة والقبيلة كلها، ولهذا كان من الممكن ببساطة أن تفكر المرأة بالطلاق والزواج لعدم اكتفائها عاطفيًا وجنسيًا، ولم يكن لطلاقها أبعاد مدمرة على الأطفال كما هو اليوم في الأسرة الحالية (الأسرة النووية) التي تتكون من أم وأب وأطفال.
لم يضع رجال الدين أي تصور لتعويض المرأة جنسيًا وعاطفيًا في الآخرة؛ بل إن كل التصورات التي ابتدعوها تقوم على نعيم جنسي للرجل
تشدد المجتمع مع المرأة حتى خنقها؛ فحتى بعد أن ضعفت عقوبات الزنا لصعوبة ضبطه، حلت محلها قوانين المجتمع الأكثر فتكًا وتجبرًا؛ فهي لا تحتاج لوقائع وأدلة، والمجتمع الذي يبرر العلاقات المتعددة للرجل ويتعامل معها على أنها نزوات، هو نفسه الذي ربط شرف الرجل بنسائه، الأخت والزوجة والابنة، فأصبح مصير المرأة القتل إن فكرت بالخروج عن المألوف. أما رجال الدين فقد فتحوا باب التعدد بلا شروط، ولم يعد التعدد مقرونًا بالقسط في اليتامى ولا مشترطًا للعدل؛ بل أنه لا يشترط المقدرة المالية، ولعل القصة المعروفة للاجئة التي خرجت تصيح على أحد القنوات وتشتكي بأن زوجها تركها في خيمة مع أولادها الثلاثة وتزوج امرأة أخرى في خيمة أخرى لدليل على عدم وجود أي اشتراطات للزواج الثاني، لم يكن الزواج تملكًا للمرأة في أي عصر كما هو الآن، وفكرة الأسرة النواة وضعت عاتق مستقبل الأولاد على الأم في وجود مخارج شرعية ومجتمعية للرجل، وما يحصل اليوم من حرمان لا دخل له بالدين بالقدر الذي يحقق فيه أمنيات مجتمع ذكوري ظالم.
على الرغم من كل هذا الظلم؛ فإن رجال الدين لم يضعوا أي تصور لتعويض المرأة جنسيًا وعاطفيًا في الآخرة؛ بل إن كل التصورات التي ابتدعوها تقوم على نعيم جنسي للرجل، و فيديوهات الشيوخ التي تحصي أعداد الحور العين الذي سيتمتع بهن الرجل كثيرة ومنتشرة؛ بل إن بعض هذه التصورات أتى وكأنه مفصل على مقاس الرجل الشرقي، كأن يقال إن الزوج يحظى بكل الحور العين بالإضافة لزوجته التي ينزع الله من قلبها الغيرة، وتتساءل المرأة لماذا لا ينزع الله الغيرة من قلب الرجل مثلا؟ ولماذا يبدو هذا التصور منسجمًا مع خيالات الرجل الشرقي اللعوب والغيور على عرضه في آن معًا؟
الكبت الجنسي والحرمان العاطفي من أشد أنواع القمع قساوة، آثاره تظهر على شكل عدوانية في كثير من الأحيان، لكنها أيضًا قد ترتد إلى الداخل فتخرج من المرأة أسوأ ما فيها، كأن تصبح كارهة للحياة وحاقدة على الناس، ومن النساء من تُحّمل الأطفال مسؤولية تعاستها لأنها هي التي تصبر من أجلهم، فتتحول العلاقة معهم لعلاقة سامة أو مستنزفة، ومنهن من تلجأ إلى الله في علاقة اتكالية تفقد المرأة فيها كل رغبة بالحياة، ومنهن من تدخل عوالم الخيانة بكل ما يعقبها من كراهية للنفس وعذاب للضمير، وبعضهن يتأرجح بين هذا وذاك، وكل ما ذكر يخلق امرأة مهزوزة ممزقة وأطفالاً مهملين وأسرة في مهب الريح.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.