تعلقت حبائل قلبه بأشجار البنّ، التي لطالما حملت أزهارها ذكريات طفولته وصباه، وكلما راقب صغاره يلهون بين الأزهار، تذكر نفسه حينما كان طفلًا ممسكًا بيد أبيه في الطريق نحو المزرعة كل صباح، يؤكد أحمد فرحان العليلي صاحب مزرعة السنام لزراعة وإنتاج البنّ: “من بداية حياتي وأنا مع والدي -أطال الله في عمره- أعمل معه في المزرعة وأتعلم منه إلى أن تعلمنا منه الكثير، والحين ننقلها لأبنائنا”. تعد عملية زراعة البن من المهن المتوارثة بين الأجيال في المملكة العربية السعودية، يبدأها الجد، ويساعده الابن، وتبقى مهنة الأحفاد.
أصبحت متابعة أشجار البنّ بالنسبة لأحمد العليلي جزءً رئيسيًا من يومه، منذ أن تُوضع النبتة في الأرض وتنمو وتزهر، وحتى تنتج الثمار التي يتم جنيها في سبتمبر من كل عام، ويضيف لمواطن: “رعاية الشجرة بمكافحة الآفات وتوفير المناخ الملائم والتقليم يزيد من وفرة الثمار، ولن تأتي الوفرة إلا بمحبة الأشجار والاهتمام بها”.
وبعد أن تتحول ثمرة البنّ الخضراء وتكتسي باللون الأحمر، ويكتمل نضجها وترتفع نسبة السكريات بها، يقطف المحصول، وتبدأ مرحلة تجفيفه على الأسطح المستوية، وبعد أن يجف تمامًا يتم فصل القشرة عن البذرة -وهي القهوة-، وبعدها إما أن يتم تحميصها أو بيعها خضراء.
صعوبات زراعة البن في السعودية
لم يكن غزو الكويت وحده هو العائق أمام نمو زراعة البنّ في المملكة؛ بل كانت هناك عوائق أخرى تقف في وجه مستقبل زراعته؛ مثل قلة الموارد المائية، التي أثرت على الزراعة بشكل عام
يرى عبدالله الألمعي أبو زاهر، خبير ومستشار زراعي، ومؤسس مجموعة نباتي الزراعية للإرشاد الزراعي في السعودية، خلال حديثه لمواطن: “إن السعودية اهتمت بالزراعة منذ عام 1980م، بهدف دعم المزارعين وتلبية رغبة المواطنين في توفير فرص عمل، ثم استغلت أكثر من 700 كيلو متر مربع من المرتفعات الجبلية الواقعة في منطقة الطائف غرب السعودية إلى أقصى جنوب المملكة عسير وجازان، وهي ترتفع عن سطح البحر بما يصل إلى 3 آلاف قدم عن قيعان سطح البحر”.
ويستطرد أبو زاهر أن ميزة هذه المرتفعات أنها مطيرة طوال العام، ما ساعد على زراعتها بأشجار البنّ، وعلى الرغم من الاتجاه نحو زراعة البن إلا أن الأمر لم يستمر طويلا “غزو الكويت أرهق السعودية، مما أدى إلى تراجع دعم المزارعين مرة أخرى، ما جعل الناس ينصرفون عن الاهتمام بالزراعة”، ومنها البن بالتأكيد.
ساهمت السعودية بجزء كبير من نفقات تحرير الكويت مشتركة مع دول الخليج الأخرى، إلا أن للسعودية كان النصيب الأكبر من تحمل النفقات المباشرة، وغير المباشرة من أجل التحرير. وهو ما أثر سلبا على الاقتصاد السعودي، ومن ضمن تلك التأثيرات ما وصل إلى مجال الزراعة، وأدى لتباطؤ نموها.
لم يكن غزو الكويت وحده هو العائق أمام نمو زراعة البنّ في المملكة؛ بل كانت هناك عوائق أخرى تقف في وجه مستقبل زراعته؛ مثل قلة الموارد المائية، التي أثرت على الزراعة بشكل عام، والبنّ بشكل خاص، ويعلق أبو زاهر، على هذا قائلًا: “أصبح هناك تقصير واضح من قبل الجهات المعنية بعدم الدعم بالإمداد المائي للمزارعين، مما أثر بدوره على مختلف المحاصيل الزراعية”.
البن، لماذا؟
في ضوء ما تتضمنه رؤية السعودية 2030، استهدفت الزراعة لتكون واحدة من أذرع الاقتصاد السعودي، ولهذا فإن وزارة البيئة والمياه والزراعة تبذل جهودها للقفز بالزراعة إلى مسارات النمو الاقتصادي، ولهذا فقد أطلقت العديد من المبادرات ومن ضمنها، إطلاق مبادرة استزراع التجمعات المائية، وكذلك أطلقت مبادرة استزراع روضة “أم حمام” الواقعة بمحافظة الأسياح باستخدام مصائد الأمطار، إلى جانب بذل العديد من المحاولات الجادة للاستفادة من المياه المتجددة من أجل إنشاء واحة “بريدة” وغابة عنيزة بمنطقة القصيم، وغيرها من الجهود التي تقدمها المؤسسات الحكومية والمستقلة بالسعودية من أجل دعم قطاع الزراعة والنهوض بالزراعة.
وبحسب تقرير نشر على موقع وزارة الاقتصاد والتخطيط السعودية، فإن الإنتاج الزراعي بالمملكة يساهم بنصيب كبير في تعزيز نمو الاقتصاد السعودي، إذ بلغ نمو الناتج الزراعي، لعام 2021، إلى ما يزيد عن 72 مليار ريال سعودي، بما يعادل 7.8 % من قيمة الإنتاج المحلي بشكل عام، مما يظهر نمواً واضحاً على نمو الإنتاج الزراعي في عام 2020 الذي بلغ 67 مليار ريال.
وفي ظل توجهات المملكة لتحقيق الدخل لها ولمواطنيها عن طريق الزراعة، ولأن البنّ من المحاصيل الواعدة؛ فقد حظي برعاية خاصة. “أخذ البنّ جانبًا كبيرًا من الاهتمام، لأن بيئة زراعته المناخية متوفرة بالسعودية، لكنها كانت مهملة، الآن الدولة متوجهة لزراعة البنّ، وبشكل مكثف وبتوجيهات حكومية، وتمت زراعة أربعمائة ألف شجرة”. حسبما أكد أبو زاهر
وعلى إثر أعمال تنمية زراعة البن، يصدر تعميم لكل المقاهي باعتماد اسم القهوة السعودي بدلا من القهوة العربي، كما تسعى المملكة إلى زراعة 1.2 مليون شجرة بن خولاني بحلول عام 2025. خاصة في ظل ارتفاع معدل الاستهلاك المحلي بنسبة 4% ما بين 2016 وحتى 2021، ومن المتوقع أن ترتفع النسبة إلى 5% خلال السنوات القادمة، ما يجعل من صناعة البن فرص استثمارية في مجال الأعمال السعودي.
ويستطرد أبو زاهر: “أن المملكة العربية السعودية تساهم من جانبها في دعم زراعة البنّ عن طريق منح قروض للمزارعين المتخصصين في زراعة البنّ، وإنشاء مراكز أبحاث تهتم بجودة البنّ، مثل مركز البنّ السعودي في جازان، ويتم توجيه المزارعين إلى زراعة البنّ المطلوب من قبل المستهلك المحلي والدولي، حتى يزيد من فرص التصدير”، ويضيف ختاما: “الدولة عملت مجال للاستثمار للراغبين في استثمار أموالهم في مجال البن، وتسهل له إجراءات الاستثمار”.
مهرجان البنّ السعودي
في عام 2013، أطلقت السعودية النسخة الأولى من مهرجان البنّ السعودي، وهو مهرجان تسويقي يستهدف بالأساس دعم إنتاج البنّ ومزارعيه؛ إلا أنه يضم العديد من الفعاليات الثقافية؛ مثل عروض الرقص الشعبي السعودي، وفعاليات رياضية مثل المباريات المحلية لكرة القدم، وأيضًا فعاليات تراثية مثل المعارض.
ونظمت المملكة في فبراير هذا العام النسخة العاشرة من المهرجان، ووصلت مبيعات البنّ في هذه النسخة ما يزيد عن 10 ملايين ريال سعودي، ويعلق محمد المالكي، عضو اللجنة الإعلامية بمهرجان البنّ السعودي، خلال حديثه لمواطن: إن هدف المهرجان هو الترويج للبن السعودي، وأن البنّ موجود في شبه الجزيرة العربية منذ القدم. ويضيف: “المهرجان استقطب الكثير من خبراء البنّ في البلاد المشهورة بتصديره وأن البنّ السعودي يرمز إلى القهوة العربية الأصلية”.
ضم المهرجان عروضًا مسرحية للألعاب الشعبية بالمملكة بهدف المساهمة في نقل الموروث الشعبي السعودي، وعمل على جذب مختلف الفئات والشرائح للتعرف على البنّ السعودي، كما شمل ورشًا تدريبية في مجالات عدة لا ترتبط بالزراعة من أجل الترويج الأمثل للمهرجان والتعريف به، كما أقيمت في المهرجان عروض خاصة لتقديم القهوة على الطريقة السعودية.
ويضيف محمد المالكي: “عندما يأتي لي ضيف عزيز فإنني أصب له القهوة بالزي الشعبي السعودي، واستخدم اللهجة الشعبية في الترحيب به، وهذا نحرص على نقله في مهرجان البنّ إلى ضيوفه”.
اجتمعت جهات عديدة في مهرجان البنّ السعودي، على هدف دعم زراعة وصناعة القهوة، ويتمثل هذا الدعم في تقديم خدمات للمزارعين من قبل جمعيات تعاونية خاصة وشركات أهلية، وتدير هذه الإسهامات وزارة البيئة والمياه والزراعة المشرفة على تنظيم المهرجان، ويستطرد المالكي هذه الخدمات قائلًا: “يتم دعم المزارعين بخزانات وشبكات ري ودعم بالأسمدة، وهناك مراكز تدريبية تقدم دورات تدريبية للمزارعين لحماية الأشجار من الآفات وممارسة الأساليب الحديثة في الزراعة”.
القهوة مشروب للضيافة
يحتل البنّ السعودي مكانة رائدة اقتصاديًا، ويفتح أبواب فرص العمل التجارية للشباب؛ خاصة من يعيشون في المناطق الجنوبية الجبلية من السعودية
العلاقة الثقافية والتراثية بين البنّ والسعوديين قديمة جدًا، وتظهر هذه العلاقة في الترحيب بالضيوف؛ إذ تعتبر القهوة في بيوت السعوديين رمز الكرم، وتقدم للضيوف بمجرد دخولهم المنزل، تعتبر محافظة الدائر بمنطقة جازان عاصمة البنّ، لأن 70% من مزارع البنّ توجد بها، كما يوجد بها متحف تراثي يخص البنّ والقهوة، ويعقب محمد المالكي على هذه النقطة قائلًا: “يضم المتحف محتويات تنقل ثقافة المواطن السعودي مع البن، الزي الشعبي والأدوات والعطور وأدوات طحن البنّ، والنار التي يجفف عليها البنّ وأدوات التحميص، كل هذه الأشياء من المقتنيات التراثية لدينا”.
في كتاب ” جازان فرص الاستثمار والتنوع الاقتصادي” يتحدث الكاتب السعودي أحمد الزيلعي، عن الجدوى الاقتصادية، التي تعود على المملكة العربية السعودية من زراعة البنّ والاهتمام بمناطق زراعته؛ إذ يتوقع أن يحتل البنّ السعودي مكانة رائدة اقتصاديًا، ويفتح أبواب فرص العمل التجارية للشباب؛ خاصة من يعيشون في المناطق الجنوبية الجبلية من السعودية، ويضيف خلال حديثه لمواطن: “البنّ سلعة هامة في الأسواق العالمية، ومع الاهتمام به في المملكة يساهم في تحول مسار الزراعة، وحتى لو كانت أسواق البنّ داخل السعودية أسواقًا في مرحلة النشأة؛ فإن مستقبلها مليء بالآمال الواعدة”.
يطمح مزارعو البنّ في تحول مستقبل زراعته في المملكة؛ بحيث لا يقف عند حد تحقيق الاكتفاء الذاتي فقط؛ بل جعله أحد موارد الاقتصاد بعيدًا عن الثروة النفطية، ويعلق الزيعلي، قائلًا: “لاحظنا في الفترة الماضية اهتمام الدولة بزراعة البنّ بشكل كبير، ونذكر مثلًا إنشاء الشركة السعودية للقهوة التي تم تأسيسها من قبل صندوق الاستثمارات العامة السعودي، بهدف رفع إنتاج البنّ”.
بلغ إنتاج البنّ في منطقة جازان ما يزيد عن 500 طن بعد حصاد حوالي 100 ألف شجرة، خلال عام 2019، بينما الناتج المحلي وصل إلى 646 طن، وتضم المملكة 847 مزرعة بن، وبالرغم من هذا الإنتاج الكبير إلا أن السعودية تستورد سنويًا ما يصل إلى 10 آلاف طن، ولأن السعودية تصنف بأنها واحدة من البلاد الأكثر استهلاكًا للبن بين دول العالم، فإنها تنفق على إعداد القهوة أكثر من مليار ريال سعودي سنويًا.
تحاول جهات حكومية عدة دفع عجلة التنمية الزراعية وخاصة زراعة البنّ، وبدأت بمطالبة مجلس الشورى السعودي لوزارة الزراعة عام 2018، بتشجيع المزارعين على زراعة محصول البنّ على أن يتكاتف القطاع الحكومي مع القطاع الخاص لدعم هذا المحصول، واستجابت شركة أرامكو لهذه الدعوات وأطلقت مبادرة تستهدف دعم المزارعين في منطقة جازان، إضافة إلى وضع برامج تدريبية لتأهيل المزارعين على استخدام الطرق الزراعية الحديثة للزراعة، كما أطلقت الحكومة السعودية مشروع تأهيل المدرجات الزراعية في عدة مواقع وصل عددها إلى 158 موقعًا، وشملت ثلاث محافظات؛ “محافظة الداير، ومحافظة فيفا، ومحافظة العارضة”.
لم تقف إسهامات الجهات المعنية عند هذا الحد؛ بل شملت محاولات عدة لتنمية وتشجيع زراعة البنّ، حيث أطلقت وزارة البيئة والمياه والزراعة برنامج التنمية الريفية الزراعية المستدامة، وقدمت من خلاله الدعم لــ 30 ألف مزارع، كما أطلقت الوزارة بالتعاون مع صندوق إيفاد للتنمية الزراعية مشروعًا آخر يستهدف تقديم المساعدات الفنية للمزارعين الصغار، وتم إنشاء حوالي 60 مزرعة نموذجية للبن السعودي، إضافة إلى تمكين الكوادر البشرية وإطلاق مشروع تنمية سلاسل القيمة للبن في منطقة جازان، وأيضًا إنشاء مصنع للبن.
السعودية تحاول ربط الثقافة والتراث بالزراعة لتنطلق في هذا المجال الإقتصادي الهام وتغير من الفكرة المغلوطة المأخوذة عنها؛ ليس عند العالم الغربي وحده؛ بل حتى في بعض البلاد العربية يظنون أنها مجرد صحراء بها آبار نفط، لذلك تسعى لبناء تقدم وتنمية في مجال الزراعة، مستغلة السلع الأكثر استهلاكًا لدى المواطن السعودي، ولها علاقة وثيقة بالحياة اليومية والتراث الشعبي، ويمثل البنّ واحدًا من هذه السلع الهامة لدى السعوديين بشكل خاص؛ وهو مشروب الضيافة الرسمي.