طالما اعتُبر الفن بمختلف أشكاله وأنماطه، أحد أهم أدوات قياس التحضر المجتمعي، كلما كان قادرًا على عرض ومناقشة الأفكار دون قيود، وبمساحات من شأنها خلق أنماط جديدة من الفكر الاجتماعي بعيدًا عن الدوائر النمطية، كلما اقترب من تحقيق أدوار كاملة يمكنها أن تسهم في ترسيخ قيم الإنسانية وتطويرها، وتحقيق درجات مُثلى من الوعي بما يخدم البشر، دون مبالغة، و”ربما الحرية التي يحصل عليها الفنان حين يقدم عملًا ما، ترسخ أنماطًا من الوعي والحرية لسنوات طويلة ولمجتمعات متنوعة”. كما يقول الأديب والفنان التشكيلي الفلسطيني جبرا خليل جبرا.
وقد ظلت الدراما، منذ نشأتها البدائية في العصر اليوناني، مرورًا بمراحل تطور التصقت بتاريخ التطور البشري، ذلك التطور الذي عبرت عنه النصوص الدرامية كأحد أهم آليات التأريخ، ظلت مرآة عاكسة للحياة الاجتماعية إلى حد كبير، معبرة عن درجات التحضر في المجتمع أو الانتكاسات الفكرية والأخلاقية، لذلك صنعت الدراما لنفسها بين بين كل الفنون مساحة دافئة وحميمية في قلوب الجمهور، جعلتها الوجه الأقرب للحياة الاجتماعية اليومية والمعبر الأكثر واقعية عن التفاعلات الإنسانية.
وبالحديث عن الدراما الخليجية، التي تشهد قفزات ملحوظة، تزامنًا مع صحوة فنية غير مسبوقة شهدتها السنوات القليلة الماضية بمختلف الدول بدرجات متفاوتة، نجد أنها قد قطعت شوطًا كبيرًا نحو التصورات المأمولة منها، وإن لم تصل الدراما الخليجية حتى اللحظة الراهنة لما يأمله القائمون على صناعتها، إلا أنها تسير بخطا ثابتة نحو مكانة أكثر انفتاحًا وتحررًا في المستقبل القريب، ما يجعلها في قلب المنافسة.
بداية هادئة وتحولات سريعة
ظهرت الدراما الخليجية تزامنًا مع انتشار شاشات التلفزيون في الكويت، التي تتقدم حتى اللحظة الراهنة مجال الريادة الفنية فيما يتعلق بصناعة الدراما، ثم انتشرت بباقي العواصم الخليجية، التي شهدت منذ ذلك التاريخ إنتاجًا دراميًا متفاوتًا من حيث الأفكار والموضوعات أو آليات الإنتاج والتسويق.
وقد شهدت الانطلاقة الخليجية نحو الدراما، تحركات جادة من جانب القائمين عليها، للتحول نحو أعمال أكثر احترافية، والميل الدائم للتطوير؛ فعلى مستوى الإنتاج، افتتحت دولة الإمارات “استديوهات عجمان” الخاصة في بداية سبعينات القرن الماضي، والتي مثلت قبلة لرواد وصناع الدراما في الخليج، حتى إن بعض الكتاب يصفونها بـ”أم الدراما الخليجية”.
ومنذ ظهور البث الفضائي، خلال العقدين الماضيين، حقق الإنتاج الخليجي ما يمكن وصفه بطفرات فارقة، ساهمت فيه العديد من العوامل؛ منها سخاء الإنفاق على الأعمال الفنية والاهتمام بها على المستوى الرسمي، وأيضًا تضافر الجهود الخليجية في أحيان كثيرة لإنتاج محتوى مشترك بين صانعي الدراما في عدة دول من أجل منافسة أقوى.
إلا أن تلك المحاولات نحو التقدم سريعًا ظلت تواجه العديد من التحديات، يرتبط بعضها بالمجتمع الخليجي الذي يضع قيودًا على صناع الدراما فيما يتعلق بمناقشة العديد من القضايا التي تعد مثار جدل، وثانيًا فيما يتعلق بالمنافسة الإقليمية والانتشار عربيًا، ولعل أبرز التحديات في هذا الصدد تتعلق باللهجة الخليجية التي قد تكون صعبة إذا ما قورنت بالمصرية على سبيل المثال.
وحول تطور الدراما في الخليج من حيث المحتوى، تقول الناقدة الفنية الكويتية ليلى أحمد لـمواطن، إنه كبير كمًا ونوعًا، وتشير إلى أنه في الكويتية على سبيل المثال يعد هذا التطور أمرًا طبيعيًا للدراما التي بدأت من الستينيات من القرن الماضي.
وفيما يتعلق بآليات الإنتاج ترى ليلى أنها شهدت تطورًا كبيرًا هي الأخرى؛ فقد نجح صناع الدراما خلال السنوات الماضية في توظيف أحدث التقنيات التكنولوجية واستخدامها في مجال الإنتاج التلفزيوني، مثل (الكاميرات وتقنيات الإضاءة والصوت والموسيقى والمؤثرات).
بالنظر إلى التطورات الحاصلة في الدراما الخليجية خلال السنوات القليلة الماضية، ربما يغلب عليها سمة تجاوز "الخطوط الحمراء" ، ومحاولة القفز بعيدًا عن الأنماط التقليدية، وهو إجراء عادة ما يمثل صدامًا مع المجتمع الخليجي "المحافظ".
وعلى مستوى صناع الأعمال الدرامية، تشير إلى أهمية الدراسة الأكاديمية في مجال الدراما، وتذكر معهد الفنون المسرحية في الكويت، الذي تعتبره الابن الشرعي لمعهد الفنون المسرحية بمصر، يتخرج فيه المئات من شابات وشباب دول الخليج، تصب طاقاتها في الدراما التلفزيونية الأوسع والأكثر في الإنتاج والانتشار.
وساهم عصر السماوات المفتوحة أيضًا في تطور وثقل مهارات العاملين على الدراما في الخليج؛ فأصبح الشباب منفتحين بشكل أكبر على أدوات الإنتاج الحديثة التي تستخدمها منصات مثل “نتفليكيس”، أيضًا ترى الناقدة الكويتية ليلى أحمد أن الأفكار والمعالجات الدرامية تشهد بالتزامن حالة من التطور اللافت.
فيما تعلق الإعلامية السعودية بدور الأحمد لـمواطن، أن هناك تطورًا كبيرًا في الدراما الخليجية على كافة الأصعدة، وهناك طرح مختلف نوعًا ما من حيث المواضيع والقضايا التي تعالجها الدراما، والتي تمثل المجتمع الخليجي بشكل كبير جدًا، فيما أصبحت المواضيع أكثر جرأة عن السابق؛ ففي بعض الأعمال طُرحت مواضيع جريئة ومشاهد جريئة أيضًا لم تكن معتادة في الدراما الخليجية.
وبالنسبة لإمكانيات الفنانين، تصفهم الأحمد بالمواهب الجبارة؛ سواء من الجيل الحالي أو السابق، وهناك أسماء يكفي وجودها بالعمل ليضمن نجاح المسلسل وانتشاره وارتفاع نسب المشاهدة، بسبب وجودها بالعمل، ونستطيع القول بأن الدراما الخليجية نجحت ولديها جمهورها بالوطن العربي، لكنها لم تنافس بالشكل المأمول حتى الآن.
تجاوز الخطوط الحمراء
بالنظر إلى التطورات الحاصلة في الدراما الخليجية خلال السنوات القليلة الماضية، ربما يغلب عليها سمة تجاوز “الخطوط الحمراء” ، ومحاولة القفز بعيدًا عن الأنماط التقليدية، وهو إجراء عادة ما يمثل صدامًا مع المجتمع الخليجي “المحافظ”، ويثير عادة موجات جدل أحيانًا تكون في صالح العمل وتجعله في صدارة نسب المشاهدة.
هذا التوجه بدا جليًا، خلال الموسم الدرامي الأبرز في رمضان 2022؛ حيث أثارت خريطة المسلسلات حالة من الجدل الكبير، ووصفت بأنها “تفجير للمناطق الشائكة”، وفق تقارير، كان أبرزها المسلسل السعودي “العاصوف“، الذي نقش بشكل مباشر قضية الشرطة الدينية في السعودية، وطبيعة الأفكار المتشددة التي شكلت هاجسًا اجتماعيًا لسنوات طويلة.
ولا يتوقع أن يشهد الموسم الرمضاني هذا العام جدلًا أقل، فقد أثارت الخريطة الدرامية حالة من الجدل قبل بدء عرضها، ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي وسط حالة من الترقب لما ستقدمه خلال الموسم الجديد.
ويرى الناقد البحريني، طارق البحار، أن الدراما الخليجية قد نجحت خلال السنوات الماضية في تحقيق طفرات كبيرة ووثقت أحداثًا مهمة، لكنها في نفس الوقت خرجت كثيرًا عن الخط المتعارف عليه، ما اعتبره البعض أنها جرأة زائدة.
البحار يصف خلال حديث لـمواطن، مجمل الأعمال الفنية الخليجية، بأنها “غير واقعية، تستغرق في استعراض القصص الرومانسية، وتعتمد على الخيال العاطفي إلى حد كبير، وإضافة لتكرار القصص الدرامية، يؤخذ على الدراما الخليجية أيضًا تصدير صورة نمطية حول الحياة الاجتماعية، يغلب عليها الثراء الفاحش، إضافة إلى انتشار سطوة النجم الواحد والابتعاد عن البطولات الجماعية التي حققت نجاحًا خلال السنوات الماضية.
رقابة تقوض حدود الإبداع
على الرغم من الانتقاد الأبرز الموجه للدراما الخليجية يتعلق بتجاوز الخطوط والاتجاه نحو ما هو أكثر جرأة، إلا أن الناقدة الكويتية ليلى أحمد تعتبر أن الرقابة تعد مقوضًا لعملية الإنتاج الدرامي وعائقًا أمام انطلاقة أقوى للدراما الخليجية.
“وبالحديث عن الدراما الخليجية بشكل عام، والكويتية على وجه التحديد، باعتبارها الأكثر غزارة وتغذية لغالبية المنصات، نجدها في حاجة ماسة لتخفيف يد الرقابة عليها، لأن الممنوعات كثيرة جدًا، ويفترض أن وزارة الإعلام لدينا إن لم يعجبها العمل تلجأ للقضاء”. حسبما قالت ليلى.
تعد صورة المرأة في الدراما الخليجية أحد أبرز الإشكالات التي يطرحها النقاد، لأنها أقرب للتنميط غير المحمود، رغم أن الأدوار النسائية قد نجحت في حجز مكانتها لدى الجمهور الخليجي، إلا أنها ظلت قاصرة على الثراء الفاحش
يتفق معها تمامًا الناقد البحريني، طارق البحار، الذي يصف الرقابة في بعض الدول الخليجية بأنها “مزعجة جدًا”، وتقتل الإبداع والحرية رغم أنها غير موجودة في كل الدول، والتي تمثل عائقًا كبيرًا إلى جانب مشكلات نقص السيناريو الجيد، والكفاءات الفنية.
أيضًا يمثل غياب الواقعية، بحسب البحار عائقًا محوريًا أمام تقدم الدراما العربية، وليست الخليجية فقط على نحو أكثر تميزًا، فضلًا عن التركيز المبالغ فيه على المظاهر والاعتماد على بعض الممثلين من صناع المحتوى على مواقع التواصل الاجتماعي، دون وضع أي اعتبار للكفاءة.
لكن تلك القيود، ربما تكون وقتية، بسبب انتشار منصات الإنتاج الخاص، مثل “شاهد” و”شاشا” وغيرهما؛ إذ منحت تلك المنصة مساحات أكبر من الحرية لصناع الدراما بعيدًا عن الرقابة الرسمية، على حد تقدير الناقدة الكويتية.
تضيف ليلى: “ليست الرقابة هي العائق الوحيد، في الحقيقة؛ فهناك مشكلات أخرى تتعلق بالموضوعات التي تطرحها الدراما، التي تحتاج معالجتها بصدق كما هي بالمجتمع، وأيضًا بالكتاب الجيدين القادرين على صياغة تلك القصص بشكل جاذب، وأيضًا ورش تدريب وتأهيل للقائمين على صناعة الدراما، والبعد عن الإثارة والترند”.
صور نمطية للنساء.. بين المغالطة والتسليع
تعد صورة المرأة في الدراما الخليجية أحد أبرز الإشكالات التي يطرحها النقاد، لأنها أقرب للتنميط غير المحمود، رغم أن الأدوار النسائية قد نجحت في حجز مكانتها لدى الجمهور الخليجي، إلا أنها ظلت قاصرة على الثراء الفاحش، وبالتالي المغالاة في الملابس والمظهر الخارجي، أو الفقر المقدع.
وحول هذه الإشكالية تؤكد بدور الأحمد أن قبول بعض الممثلات بسبب جمال مظهرهن يعد أحد أهم عوامل ضعف بعض الأعمال الدرامية، بعضهن يصبحن عارضات أزياء فخمة، ويعرضن حياتهن المرفهة، يحملن حقائب ماركات أمام الكاميرا ويبتعدن تمامًا عن لعب أدوار حقيقية تمس الواقع الاجتماعي.
أيضًا تنتقد الكاتبة الكويتية المبالغة في استخدام مستحضرات التجميل، وعمليات الوجه التي تفقد بطلة العمل قدرتها على إظهار مشاعر وتفاعلات حقيقية، وتؤدي لضعف العمل الدرامي برمته.
وتستغرب الأحمد من كون هذا التشويه في تقديم معنى التمثيل والإحساس بالدور، صار مقبولًا لدى قطاع كبير من الجماهير؛ خصوصًا النساء، ولا يفهمون أن هذا الاستعراض الشكلي لا علاقة له بفن التمثيل.
أين وصلت دراما الخليج من المنافسة العربية والإقليمية؟
شكلت المنافسة، بين الدراما الخليجية ونظائرها في مصر سوريا ولبنان، ومؤخرًا تركيا، هدفًا لدى صناع الدراما منذ بدايتها في ستينات القرن الماضي، لكن هدف الانتشار العربي لا يزال بعيد المنال في الوقت الراهن لأسباب عديدة؛ أبرزها اللهجة على سبيل المثال، إضافة لعوامل أخرى تتعلق بنقص الكفاءات والمواهب أو الكتابة غير الجيدة.
وحول طبيعة المنافسة الراهنة ترى ليلى أحمد، أن الدراما الخليجية لم تصل للتركية، وإن قاربتها فهو تقليد ردئ، وبالنسبة لمصر وسوريا ولبنان، ترى أن لهم موقع الصدارة لجودة الأعمال نصًا وتمثيلًا وإخراجًا.
أما في الموسم الدرامي بشهر رمضان تتحول بلاد العرب إلى أقاليم، على حد تعبيرها؛ فالمصريون يشاهدون أعمالهم، وكذلك أهل الشام يتابعون أعمالهم، والمهتمون فقط يتابعون الأعمال المصرية واللبنانية، أما الخليجيون فيشاهدون مسلسلاتهم المحدودة الانتشار عربيًا بسبب اللهجة المحكية ذات الخصوصية فتظل في إطارها الخليجي.
وعلى المستوى الخليجي- الخليجي، هناك منافسة أيضًا تشتد في الفترة الماضية بين الكويت والسعودية حول موقع الريادة في صناعة الدراما الخليجية، ويرى الناقد البحريني طارق البحار في هذا الصدد، أن الريادة الدرامية في دول الخليج تذهب إلى الكويت، التي بدأت مبكرًا في الستينات، وهي تحاول الحفاظ عليها في الوقت الراهن في ظل منافسة كبيرة مع الرياض التي تسعى لإنتاج ضخم وأعمال أكثر تميزًا عبر مختلف المنصات الحديثة، إضافة للقنوات الفضائية.
وحول مستقبل المنافسة بين السعودية والكويت تتوقع ليلى أن يتراجع الإنتاج الكويتي بسبب ضعف المحتوى وضعف التمثيل، وأن السعودية ستكتسح، لأن الصدق الفني أعلى، مثل مسلسلات: “طاش ما طاش” و “سيلفي” من حيث تناول المحتوى الاجتماعي النقدي الكوميدي الساخر، وسقف حريات التعبير العالي، وأداء تمثيلي واقعي متمكن من فريق التمثيل وإخراج جميل.
إجمالًا، تبدو تطورات الدراما الخليجية جيدة، لكن المستقبل يبقى مرهونًا بالعديد من التحديات؛ أهمها تجاوز عقبات الرقابة، والابتعاد في التركيز على المظهر، وتدريب كفاءات أكثر قدرة على صياغة محتوى درامي أكثر اتصالًا بالواقع، أيضًا الاهتمام بتدريب وتأهيل الممثلين، والأهم هو تجاوز حدود النمطية في القصص أو آليات الإنتاج والتسويق والعرض، للتمكن من منافسة أكثر قوة وحجز مكانة في الصدارة.