منذُ أنّ أطلَّت شمسُ هيئة الترفيه السعودية (GEA) على ربوع المملكة العربية السعودية في عام 2016 وهي تضع نصبَ أعينها إعادة تشكيل الديناميكيات الاجتماعية والثقافية داخل المجتمع السعودي، من خلال العمل على تأسيس فضاء مفتوح للفنون والثقافة، يتماشى مع الرغبة السياسية في دفع «رؤية المملكة 2030» إلى حيز التنفيذ، مخافة التأخر عن ركب التقدم العالمي، بعدما تزايدت المعرفة بالآثار الإيجابية للمجالات الإبداعية على الحضارة البشرية.
السعودية كموطن للفنون والثقافة
في أساس الأمر، يُعَدُّ الإبداع وتلقي السلع اللامادية أو غير الملموسة بوصفها منتجات معرفية السمة الجوهرية لاقتصاديات القرن الحادي والعشرين، على غرار الطريقة التي حدد بها التصنيع والتبادل العيني للسلع المادية الملموسة اقتصادات القرنين التاسع عشر والعشرين، وهو ما يفسر التواجد القوي لمختلف المجالات الإبداعية ضمن أجندة رؤية المملكة 2030 الرامية إلى تنفيذ ثلاثة أهداف أساسية، تتمثل في: «بناء مجتمع نابض بالحياة، واقتصاد مزدهر، وأمة طموحة».
وذلك سعيًا للارتقاء بالمملكة إلى أَوْج الحداثة ومَصَافّ الدُّول المتقدِّمة؛ حيث تتمتع السعودية خلال العقد الأخير بمشهد نابض بالحياة، يعكس بلا شك فعلًا سياسيًّا، لا يمكن اختزاله في تحدي النظرة القاصرة للإسلام كديانة متشددة في أعين الغرب، أو قرار مجموعة أوبك بلس بخفض إنتاجها من النفط أو حتى شؤون العائلة الملكية والأمور الشائكة في حكم البلاد.
إذ يرنو ولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، من وراء تدعيم هيئة الترفيه السعودية إلى التركيز على تكوين قيمة مستدامة عبر الاستفادة من الأصول اللامادية، أو ما يعرف بمسمى «رأس المال الفكري» القائم على الاستثمار في المعرفة الجماعية المختزنة في عقول أفراد المجتمع عبر ما يتلقونه من الصناعات الإبداعية بطابعها الترفيهي.
على النحو الذي يساهم في دعم وتنويع مصادر الاقتصاد الوطني عن طريق التقاطعات بين الإبداع والاقتصاد والتكنولوجيا، لتقديم البلاد كموطن للفنون والترفيه بقدر ما هو موطن للعلوم والتكنولوجيا، ضمن إدراك عالمي متنامٍ بأهمية قطاع الثقافة والإبداع في تحقيق التنمية المستدامة، بجانب قيمته الاجتماعية في تعزيز الانتماء والتواصل داخل المجتمعات، حتى إنّ منظمة اليونسكو العالمية قد أعلنت فيما سبق أنّ عام 2021 عام للاقتصاد الإبداعي بعدما بلغ حجم مساهمته 3% من الناتج المحلي العالمي لعام 2019.
وكانت وزارة الثقافة السعودية قد أصدرت في منتصف شهر أغسطس العام الماضي أحدث تقاريرها الرسمية عن «الحالة الثقافية في المملكة العربية السعودية 2021»، قالت فيه: «لا تنفصل ثقافة أي مجتمع عن التعبيرات والأنماط التي تظهر في الحياة العامة؛ فالثقافة -باعتبارها عادات وفنونًا وممارسات- هي ظاهرة جمعية بامتياز».
وقد أظهر التقرير نمو السياحية الثقافية الداخلية في المملكة العربية السعودية بما يقارب العشرة ملايين ونصف المليون رحلة خلال أول عشرة أشهر من عام 2021، بالمقارنة مع ثمانية ملايين ونصف المليون رحلة طوال أشهر عام 2019، كما أوضح أيضًا حجم الإقبال على مشاهدة الأفلام السينمائية، وهو ما يتماشى مع ارتفاع مبيعات تذاكر دور العرض السينمائي، بما يدل على حالة التعطش لحضور الفعاليات الثقافية والفنية لدى الجماهير عقب التخفيف من إجراءات التباعد الاجتماعي جراء الجائحة العالمية، فيما قدرت إجمالي أعداد المرافق الثقافية بــــ 304 متاحف و85 مكتبة عامة، و 262 مسرحًا و75 صالة عرض، و54 صالة عرض سينمائي و20 مقهى أدبيًا، بما ينعكس على تحسين معدلات الاقتصاد السعودي.
الاقتصاد الإبداعي يكسو السعودية بلونه البرتقالي
اكتسب مصطلح «الاقتصاد الإبداعي»، أو ما يطلق عليه أيضًا «الاقتصاد البرتقالي، زخمًا كبيرًا منذُ أن قدمه الخبير الاقتصادي «جون هوكينز» لأول مرة في عام 2001، ضمن كتابه «اقتصاد الإبداع: كيف يحوّل المبدعون الأفكار إلى مال»، واضعًا الثقافة والخيال في قلب التوسع الاقتصادي والتكنولوجي، عبر السعي إلى تحقيق التكامل بين «ما هو فني» و «ما هو اقتصادي»، عن طريق دمج الصناعات الثقافية ضمن مصادر الناتج القومي الإجمالي، لوصف الأنظمة الاقتصادية القائمة على السلع الثقافية والفنون والبحث والتطوير والألعاب بدلًا من الموارد التقليدية (العمل والأرض ورأس المال).
ولأن تضخم معدلات النمو الاقتصادي وحده ليس كل شيء في تحقيق تقدم الشعوب، ويجب أن يدعمه مجموعة من الأهداف الاجتماعية والثقافية ذات القيمة العالية في تنمية رأس المال الفكري بصورة هادفة، عن طريق تدعيم مخرجات الاقتصاد البرتقالي ذات الاستدامة والصديقة للبيئة، على النحو الذي يعزز من الاستقرار الاقتصادي بالإضافة إلى تحقيق الرفاهية الاجتماعية، وهو ما يتفق ضمنيًا مع الرأي الذي أوردته «ديان كويل» (Diane Coyle)، أستاذة الاقتصاد بجامعة مانشستر، في كتابها الشهير: (GDP: A Brief But Affectionate History) حينما قالت: إن النمو الاقتصادي لا غنى عنه كأحد المساهمين في تحقيق رفاهيتنا، غير أنه ليس المساهم الوحيد
وهو ما يحاول ولي العهد السعودي تحقيقه من خلال تبني أفكار «الاقتصاد الإبداعي» بلونه البرتقالي، والذي لم يكن يومًا مألوفًا داخل المجتمع السعودي من قبل، بهدف تنويع مصادر دخل الاقتصاد السعودي بعيدًا عن الاعتماد على عائدات النفط ومشتقاته، والذي يجعل الرياض دائمًا تحت وطأة التقلبات السعرية لأسعار سوق النفط العالمي، وتأرجح الدورات الاقتصادية ما بين ازدهار وكساد.
هيئة الترفيه وتغيير الصورة النمطية
من المعروف أنّ المجتمعات لا تتوطد أواصرها وتحدد هويتها ومدى تقدمها وحداثتها على أساس التقدم المادي فقط؛ بل تبنى وجودها على القيم اللامادية السامية السائدة في ضمائر أفرادها، وتعمل المجالات الإبداعية من فنون وآداب وثقافة وتراث وموسيقى ومسرح وسينما وغيره على تشكيلها في الوجدان، كون أنّ تلك المجالات تلعب دورًا هامًا في السمو بأرواح محبيها، والأخذ بأيديهم بعيدًا عن الحقد والعنصرية والتطرف والدسائس، حتى أن وليم شكسبير قد أشار في مسرحيته الملحمية الشهيرة «يوليوس قيصر» إلى أنّ حُبّ الفنون يرتقي بالبشر ويتنافى مع أفعال الشر، عندما جعل يوليوس قيصر ينتقد شخصية عدوه كاسيوس الحقود، قائلًا عنه لمارك أنطونيو: أنه لا يحب المسرح حبك إياه يا أنطونيو، ولا يستمع إلى الموسيقى ونادرًا ما يبتسم؛ فإن ابتسم فكأنما يسخر من نفسه محتقرًا إياها؛ إذ يدفعها أمر من الأمور إلى الابتسام. أمثاله لا يمكن أن يستشعروا الراحة وهم يرون رجلًا أعظم منهم […] ولذا فهم خطرون جدًا
ومن ثم تسعى هيئة الترفيه السعودية إلى تبديد الصورة النمطية المحافظة للسعودية في مخيلة العالم، والقائمة بالأساس على النظر إليها كمجتمع متشدد، يسوده روح البداوة والعادات القبلية، وينغلق على المقيمين فيه من الرجال الملتحين والنساء المحجوبات في الظل وراء نقاب، وإظهار ذاك الجانب المعاصر المُحبّ للفنون والثقافة في شعبه، حتى يأخذ مكانه تحت الشمس، بإقامة الفعاليات الفنية الضخمة ودعوة رموز الفن المعاصر إليها، بجانب تقديمها الطبقة الإبداعية السعودية إلى العالم، والتي نادرًا ما كان يُنظر إليها أو يعتقد في وجودها من الأساس.
غير أنّ ما ينقص تجربة «الاقتصاد الإبداعي» في السعودية هو وجود معايير تربية فنية للجماهير، تتبنى مفهوم «التنمية الهادفة» بجانب التنمية المستدامة، بمعنى أوضح التنسيق للحد من الاستهلاك العشوائي للفنون والثقافة، أو ما يطلق عليه (Content Curation)، في ظل وفرة وزخم المحتوى المعروض، مما قد يؤثر سلبًا على مستويات التذوق الفني الجمعي، حتى لا يقتصر دور هيئة الترفيه السعودية ووزارة الثقافة على مجرَّد توفير فضاء تقليديًّ لعرض الفنّ والإبداع، وبالطبع هذا لا يعني على الإطلاق تقديم محتوى نخبوي لا يصلح للاستهلاك العام من قبل جموع الجماهير، أو التسلط الفوقي عليهم بدافع حماية الفنون والثقافة، وهو التحدي الذي سنرى مستقبلاً؛ هل تنبهت له المملكة وهيئة ترفيهها وعالجته أم لا؟
التعليقات 1