طيلة قرون من الزمن والنسوة في الخليج يستقبلْن رجال الأسرة العائدين من الغوص بالغناء: “توب توب يا بحر، ما تخاف من الله يا بحر، يا بحر جيبهم …”، ويحرقن أسعفة النخيل لكَيِّ البحر كعقابٍ رمزيٍّ له حتى تاب البحر وظهرت أولى قطرات البترول. لم تعد النساء تخفن من لعنة اللؤلؤ؛ إذ ولّى الغياب من الماضي، وتحوّلت المجتمعات الخليجية من الضّيق إلى الرخاء.
باستثناء السعودية وعمان، كانت تجارة اللؤلؤ هي المصدر الرئيسي للعائدات المالية في الخليج؛ ليس فقط لأنها وسيلة عيش أغلب أهل الخليج، ولكن لأن بفضلها يجبي الشيوخ الضرائب اللازمة للحفاظ على سلطتهم.
ولهذا كان تجار اللؤلؤ أحيانًا أقوى من الحكّام، وكان لهم تأثير حقيقي على شيوخ الخليج وعلى قراراتهم السياسية؛ فسَخط التاجر يعني أن يحمل سفنه وطواقمها ويرحل إلى مشيخةٍ أخرى، ما يعني الأزمة الاقتصادية.
ويكفي الاستشهاد بالعبارة المشهورة لمحمد بن ثاني آل ثاني سنة 1877، لإدراك أن تجارة اللؤلؤ كانت عصب الحياة في الخليج العربي؛ إذ قال: “من أرفع منزلة إلى أدنى عبيد، نحن جميعًا لنا سيّد واحد؛ هواللؤلؤ.”
مفارقة اللؤلؤ التاريخية
قصة اللؤلؤ الحقيقية لا تقلّ غرابةً عن الأساطير التي تحاك حوله، فبينما تسود فكرة أن ظهور البترول هو السبب في اضمحلال صيد اللؤلؤ، يُجمع أغلب الباحثين في الموضوع على أن هناك ظروفًا أخرى هي التي كان لها التأثير الأكبر؛ إذ أن استخراج النفط لم يتطور إلاّ بعد الحرب العالمية الثانية، بينما تدهور تجارة اللؤلؤ بدأت منذ العشرينات.
يكفي الاستشهاد بالعبارة المشهورة لمحمد بن ثاني آل ثاني سنة 1877، لإدراك أن تجارة اللؤلؤ كانت عصب الحياة في الخليج العربي؛ إذ قال: "من أرفع منزلة إلى أدنى عبيد، نحن جميعًا لنا سيّد واحد؛ هواللؤلؤ."
فابتداء من 1916 أخذت اليابان بإنتاج اللؤلؤ المستخرج من مزارع الصّدَف، بمبادرة من رجل الأعمال ميكيموت وكويتشي، فأُغرِقت الأسواق الأوروبية باللؤلؤ الياباني الوفير، والذي لا يتعدى سعْرُه عُشْرَ ثمن اللؤلؤ الخليجي الطبيعي. كما أنّ أزمة 1930 المالية خفّضت بشكل كبير مبيعات الدُّرة الخليجية.
واستمر تدهور هذه التجارة في الأربعينيات بسبب تقلّص السوق الهندية التي كانت تأخذ النصيب الأكبر بقضاء السلطات البريطانية على سُلْطة “المَهْرَاجات” الذين كانوا أهم زبائن اللؤلؤ، ثم حظرها استيراد اللؤلؤ سنة 1948 على اعتباره مادةً كمالية، واستمرّ الانحدار جرّاء تبعات الحرب العالمية الثانية التي أثرت على القدرة الشرائية للأوروبيين.
وبالرغم من محاولة بعض رجال الأعمال الخليجيين إنقاذ المهنة في الخمسينات باستخدام الطّرق الحديثة؛ إلاّ أن مردود رحلات الصيد لم يكف حتى لتغطية مصاريفها، فأدّى ذلك إلى انصرافهم عن هذا القطاع. أما البترول فلم يكن في واقع الأمر سوى البديل عن مهنة شاقّة ذات مردودٍ ضئيل، ساهم في ترك الصيادين الأكفاء الغوص والبحث عن فرص عمل أفضل في مختلف الشركات النفطية.
ومن التناقضات التي طبعت تاريخ اللؤلؤ هي أنّ الخليجيين لم يتّجهوا إلى التحلّي باللآلئ إلاّ بعد اندثار مهنة الغوص. يسوق الباحث خالد ع.ع زيارة، شهادة أحد أهم التجار القطريين حسين الفردان، الذي عاصر تحوّلات صيد اللؤلؤ، فيحكي أن أغلب سكان الخليج لم يكونوا يتزينون باللؤلؤ؛ بل كانوا يوجّهون كل صيدهم إلى التصدير.
فكان من النادر إيجاد خاتم من اللؤلؤ حتّى عند العائلات الميسورة، وفقط حينما تباطأ النشاط التجاري أقْبل الخليجيون للتّزيّن باللآلئ؛ فسافر التجار الخليجيون للهند لإعادة اشتراء اللؤلؤ الذي باعوه في السابق.
ويعزو هذه المفارقة إلى أن تحسّن مستوى معيشة الخليجيين وتكوين الثروات، مكّنهم من اقتناء اللؤلؤة التي حُرموا منها في الماضي، وأصبحت رمزًا يدلّ على التّرَف والغنى . وأول من سارع لاقتنائها هم أمراء الخليج الذين أرادوا الحفاظ على ما يعتبرونه رمزًا لتاريخ المنطقة وتراثها.
وبعد استهلاك السوق الهندية، توّجه التجار والسماسرة الخليجيون إلى السوق الأوروبية، وكانوا يشترون أحيانًا اللؤلؤة بعَشْر أضعاف الثمن الذي باعوها به، وهذا التّحرك التجاري ساهم بطريقة غير مباشرة في رفع قيمة اللؤلؤة الطبيعية في السوق الدولية وإدراك قيمتها بالمقارنة مع اللؤلؤة المُسْتَزْرعة.
تغيّر نمط الاقتصاد وتأثيره على المجتمعات الخليجية
كان ما يزيد عن خمسين في المئة من الذكور في الخليج العربي يعيشون على اللؤلؤ، ما بين صيد وتجارة وصناعة المراكب والأدوات المرتبطة به؛ حسبما أشار زيارة في كتابه “لؤلؤ الخليج”، وكان صيد اللؤلؤ يشكل 95% من الناتج القومي، ولا تشكّل الزّراعة والرّعي والتجارة إلاّ 5%.
وبعد التدهور الذي عرفته تجارة اللؤلؤ واكتشاف البترول، اتّجه العمال تدريجيًا للعمل في الصناعة الجديدة التي تمنح راتبًا ثابتًا وأعلى من عائد اللؤلؤ؛ فتحوّلت حياة الخليجيين من شظف العيش والمحنة إلى رخاء نسبي غذّى لديهم الرغبة في الاستهلاك.
كان من النادر إيجاد خاتم من اللؤلؤ حتّى عند العائلات الميسورة، وفقط حينما تباطأ النشاط التجاري أقْبل الخليجيون للتّزيّن باللآلئ؛ فسافر التجار الخليجيون للهند لإعادة اشتراء اللؤلؤ الذي باعوه في السابق. ويعزو هذه المفارقة إلى أن تحسّن مستوى معيشة الخليجيين وتكوين الثروات
وكان للانتقال من اقتصاد اللؤلؤ إلى الاقتصاد النفطي نتائج متضاربة”؛ فمن جهة ساهم التحول الاقتصادي في تحديث الإدارة وتعميم الخدمات العمومية، ومن جهة أخرى رافقت هذا التحول الاقتصادي السريع صدمات ثقافية؛ فنمط العمل الجديد حمل معه قِيَمًا جديدة نتيجة للاحتكاك بالوافدين من أوروبا وأمريكا، وتغيرًا في أدوار النساء في المجتمع من الاقتصار على العمل في البيت إلى الولوج إلى الفضاء العام والعمل المأجور.
تغيّر نمط العيش بتغير نمط الاقتصاد، فلم يعد يغيب رجال الأسرة ثلاث مرات في السنة ولمدة أشهر؛ بل أصبح هناك دوام يومي وراتب شهري عكس ما كان عليه الغواص، الذي لم يكن يتقاضى راتبًا لقاء مجهوده؛ بل وعدًا بنصيب من الأرباح، نادرًا ما كان يحصل عليه.
وحسب الباحث البحريني محمد غ الرميحي، كان الصياد يأخذ أموالاً من قبطان السفينة مسبقًا لتمويل عائلته في غيابه وللعيش في الفصول التي لا يمكن الغوص فيها، وتسجّل هاته الدفعات كدَيْنٍ على الغواص في دفتر القبطان، ولكن الغواصين قليلاً ما يجنون ما فيه الكفاية لتصفية ديونهم من بيع صيدهم؛ فيبقى الدّيْن للسنة الموالية بل ويَثْقُل كاهلُهم بالفوائد المضافة.
كما يرى د. الرميحي أن الكثير من العمال لم يتمكنوا من تصفية كافة ديونهم إلاّ بعد عقدين من العمل في قطاع النفط، لأن القانون لم يكن يسقط قرْض اللؤلؤ ولوتوفّي صاحبه؛ بل ينتقل لأبنائه، وكان بعض رؤساء السفن يستحلّون الزواج من أرملة الغواص واستعباد أبنائه لاستيفاء قرضهم .
كما ساهمت صناعة البترول في تهدئة الأوضاع الاجتماعية في البحرين وتحسين العلاقات بين الطائفتين؛ السنية والشيعية. هذا ما يستخلصه الباحث كلايف هولز من خلال مقارنته للعلاقات بين الطائفتين قبل 1920 وبعدها في مقال يناقش مناظرة شعرية حول الغوص لاستخراج اللؤلؤ وآبار النفط؛ فيشرح أنّ قطاعات العمل في المجتمع البحريني كانت مِن قبْل منقسمة طائفيًا ومعزولة؛ فكان السُّنة غالبًا ما يشتغلون في صيد اللؤلؤ ولو لم يكن حكرًا عليهم، بينما الشيعة يشتغلون في الزراعة وتربية المواشي والصيد.
أمّا في سنة 1935 حيث كان قد اكتُشِفت 16 بئرًا، وفي طور حفر ستّ أخريات، فكان يعمل السني مع الشيعي؛ إذ لم تكن شركات البترول المملوكة والمدارة من أجانب تتحيّز عرقيًا أ ودينيًا في سياستها التشغيلية.
بالإضافة إلى أن تشجيع التمدرس وتوفّر وسائله بفضل التحول الاقتصادي، أعاد تنظيم العلاقات في المجتمع البحريني؛ فبدل الطائفية والطبقية أصبح الاستحقاق هو المعيار في العمل، كما أن اختلاط التلاميذ في صفوف المدارس شجّع انفتاح المجموعات العرقية والدينية على بعضها بعضًا.
صهر كلٌّ من اللؤلؤ والبترول حياة الناس في الخليج وأعاد صياغتها من جديد، بكلّ التناقضات التي يحملها أي تحوّل اجتماعي طارئ تفرضه الطبيعة، وما أصبح اليوم هواية يمارسها الشباب، كان في الماضي مهنةً قاسية يراهن فيها الغواص بحياته
وفي نفس السياق ساهم الانتقال الاقتصادي إلى إعادة ترتيب الهرم الطبقي في الكويت، وقد أدّى انصراف الغوّاصين إلى الاشتغال في شركات البترول وتوجّه ربابنة السفن إلى التهريب، إلى فقدان التجار لثرواتهم وهالتهم الاجتماعية ونفوذهم السياسي.
أما في أبوظبي حيث لم يبدأ تسويق النفط سوى سنة 1958؛ فكانت الأوضاع أكثر سوءً لندرة الأعمال البديلة لصيد اللؤلؤ:؛ إذ كان المدينون من العاملين في اللؤلؤ يلجؤون إلى الشارقة أ وعجمان للفرار من دائنيهم، مما سبّب تصاعدًا في التوتر بين شيوخ هذه المناطق، بينما هاجر آخرون للكويت والبحرين للعمل في البترول.
وكان لهذا التحول التاريخي تأثير حتّى على نوع هجرة الهنود إلى الخليج، في الشركات الأمريكية -بناء على نصيحة الإنجليز- أخذوا في استقدام العمالة الهندية لتدريبها، لأن “اليد العاملة العربية لم تكن مؤهلة وتعاني من الأمية والأمراض وسوء التغذية بسبب الفقر الذي كانت تعيشه”؛ بحسب تعبير السيد ماكس ويستون ثورنبورغ أحد مديري الشركات النفطية.
وهذه الصورة التي رسمها انطلاقًا من المنطق الرأسمالي للربح والخسارة دون الأخذ بعين الاعتبار ظروف عيش الخليجيين وعدم تجربتهم العمل الصناعي المنظّم، ستؤدي إلى إعطاء العامل البحريني راتبًا أقل من الذي يتلقاه نظيره الأجنبي.
وهكذا تحوّلت هجرة الهنود من فئة التجار وسماسرة اللؤلؤ ذوي الامتيازات القانونية باعتبارهم رعايا الإمبراطورية البريطانية، إلى هجرة اليد العاملة، مع كلّ ما يترتّب عن ذلك من إعادة تشكيل الديموغرافيا والصورة النمطية عن المهاجر الهندي، وتغيّر في التراتبية والأدوار الاجتماعية.
بالإضافة إلى تغيّر جذري في هوية سكّان السواحل الخليجية، التي كانت متعدّدة ومرتبطة بالسواحل الهندية، لتصبح بعدها أكثر ارتباطًا بالداخل الخليجي نظرًا لسهولة التنقل المستجدّة بفضل عائدات النفط.
وعلى هذا النحو، صهر كلٌّ من اللؤلؤ والبترول حياة الناس في الخليج وأعاد صياغتها من جديد، بكلّ التناقضات التي يحملها أي تحوّل اجتماعي طارئ تفرضه الطبيعة، وما أصبح اليوم هواية يمارسها الشباب، كان في الماضي مهنةً قاسية يراهن فيها الغواص بحياته.
وبالرغم من أن الغوص لاستخراج اللؤلؤ كان مرادفًا للأمراض والتضحية بالحياة الأسرية والرزوح تحت الدّيْن، ولكنّه يظلّ حلقةً من كفاح الخليجيين من أجل لقمة العيش في بيئة عجفاء بين الصحراء والجبال، ولعلّ التراكم التراثي من الموسيقى والمعمار والحكايات الشعبية التي تم استلهامها من اللؤلؤة هي أكبر غنيمة للشعوب الخليجية.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.