إن أبرز ما رسخه الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” (1727 – 1804م) هو الهجوم على الميتافيزيقا انطلاقًا من الجهل بها واستحالة إدراكها بالعقل والعلم؛ فقد خلق تيارًا فلسفيًا من بعده يرى أن الميتافيزيقا وكل ما لا يصلح إخضاعه للتجربة أو إدراكه بالحواس هي الباب الآمن لتسلل الخرافة والوهم لعقل الإنسان، وإذا تطورت تلك الأوهام لتصبح مقدسات أو مادة خصبة للصراع، يكون الخطر أكبر على البشرية انطلاقًا من حقيقة معرفية تشهد بأن الصراع على الوهم يعطي نتائج أكثر وهمًا.
ومن هذه الجزئية يمكن استكشاف ردات العقل في التاريخ، نراها حدثت على ذلك النحو، أن الصراع كان على الوهم بالأساس؛ فأعطى نتائج أكثر وهمًا، وكلما استغرق الإنسان في ذلك الوهم زاد انحداره في شتى مناحي الحياة؛ عقليًا وروحيًا وماديًا، ومن ثم يكون الانحدار الخُلقي الفظيع الذي يستحل به الإنسان كافة المحرمات، أو ما يمكن استنتاجه بالحروب العالمية التي تسببت في موجات نقد واسعة ليس فقط للميتافيزيقا؛ بل أغلب منتجات الحداثة باعتبارها منتجات فاشلة عجزت عن ترقية الإنسان؛ بل ساهمت في انحداره خُلُقيًا وعقليًا مثلما حدث في ظواهر الاستعمار والعبودية التي لم تتوقف رغم التطور المعرفي الكبير في عصر الأنوار.
في هذا السياق خرجت الفلسفة الوضعية المنطقية التي اصطلح عليها بالإنجليزية Logical positivism ونشط أصحابها بعد الحرب العالمية الأولى (1914- 1918م) التي صدمت الوعي البشري باحتراب أهلي ودولي واسع سقط فيه 17 مليون نسمة، وهو رقم ضخم غير مسبوق، كان موطن الصدمة فيه أنه جاء بعد تطور الإنسان عقليًا وعلميًا في عصر الأنوار؛ فلم تنجح حروب القرن 19م في ترسيخ الاستقرار ونشر الحداثة بالمفهوم الأوروبي؛ بل أدت تلك الحروب – التي رافقت ظاهرة الاستعمار ثم الحروب العالمية – إلى موجات نقد ورفض واسعة لمنتجات الحداثة والمناداة بعالم أكثر عدلاً وسماحة وسعة مما حدث، فخرج فلاسفة الوضعية المنطقية يشرحون الأسباب التي أدت إلى ذلك الانهيار، ويحللون سوء الأفهام المؤدي لتلك الكوارث، ورأوا أن المشكلة تكمن في غياب ثنائية (التحقق والتجربة – الدليل المنطقي والحسّي) لصالح ثنائية أخرى هي (الميتافيزيقا والمثال – تقديس الماضي).
خرج الفيلسوف الإنجليزي “ألفريد جول آير” (1910 – 1989 م) بنظرياته حول نقد الميتافيزيقا وتقديس الماضي، فقال في كتابه “الحقيقة واللغة والمنطق” الصادر عام 1936م أن الأحكام المتعلقة بالماضي لا زالت تسيطر على البشرية، ومن ذلك (الدين والعرق والقومية والتاريخ) هي السبب – حسب وجهة نظره – في اشتعال الحرب العالمية الأولى، بدليل أن أحد أطراف تلك الحرب كانت دولاً دينية هي “روسيا القيصرية والدولة العثمانية والإمبراطورية النمساوية المجرية”، إضافة للعامل القومي الذي أشعل الثورة البلشفية، وصعود القوميين الترك واليونان واليهود والعرب وغيرهم، فكان ألفريد جول آير هنا واقعيًا، ويرى أن مهمة الفلسفة الأولى هي (الظواهر) التي عن طريق تحليلها بالمنطق يصل الإنسان للواقع الصحيح ويخفف كثيرًا أو يقضي على أوهامه وخرافاته متى سنح له ذلك.
إذًا فالدليل المنطقي والحسي هو الأهم، ولا يجب إغفاله لصالح الأسطورة والميتافيزيقا، وأن تكون وظيفة هذا الدليل هي تقديم العلم والتجارب كبديل عن أوهام المؤمنين والقوميين، ومن تلك الجزئية ثار بعض الأصوليين على فلاسفة الوضعية المنطقية متهمين إياهم بالإلحاد، مثلما حدث مع الفيلسوف المصري “زكي نجيب محمود” (1905 – 1993م) في كتابيه (قصة عقل – والمنطق الوضعي – وموقف من الميتافيزيقا) الذي وصل فيهما إلى أن اللغة على نوعين؛ الأول: يمكن اختباره بالحس والتجربة، وهو صادق في ذاته، ومعنى اختباره أي يمكن معاينة معناه والتحقق منه، وفي تلك الجزئية كان زكي نجيب محمود كألفريد جول أير، يرى ما لا يمكن التحقق منه أو تجربته أو إدراكه بالحس هو وهم.
كلما استغرق الإنسان في الوهم زاد انحداره في شتى مناحي الحياة؛ عقليًا وروحيًا وماديًا، ومن ثم يكون الانحدار الخُلقي الفظيع الذي يستحل به الإنسان كافة المحرمات
أما النوع الثاني: هو ما لا يمكن اختباره بالحس والتجربة وهو كاذب، ومثل هذا النوع الثاني الذي يقصده الدكتور زكي هو ما يعرفه المؤمنون بالغيبيات أو ما وراء المحسوس.
ومن تلك الجزئية هاجم المتشددون زكي نجيب محمود وكل من آمن بطريقته الوضعية المنطقية باعتبارها ثائرة أو رافضة للأديان، وفي هذا سوء فهم للدكتور زكي وفقًا لقراءاتي له؛ فالرجل يرى أن الإيمان بالآلهة هو من قبيل الوجدانيات والروحانيات، لا يتعلقان بمسائل الحس والعلوم والتجارب، يقصد نجيب محمود أن من يخلط بين الأمرين سوف يفضي الأمر به للخرافة والأدلجة والأسطورة، ويمكن قراءة كتابه “رؤية إسلامية”، الذي أفاض فيه بشرح نظرياته حول الإيمان، ومنها ما يقرر ذلك الفصل حيث قال: “فلا يجوز أن أحكم على قصيدة شعر بما أحكم به على قانون علمي في مجال الكيمياء أو الفيزياء، كما لا يجوز أن أحكم على صواب حقيقة معينة في تلك العلوم أو على خطئها، بشيءٍ مما يقع في دائرة الإيمان” (رؤية إسلامية صـ 12)
ومن تلك الزاوية كان فلاسفة الوضعية المنطقية جميعهم من أشد أعداء التيارات الحزبية والأيدلوجية القائمة على فكرة التفوق الذاتي لمجرد الانتماء؛ فلو سار المؤمن في تجربته الدينية وروحانياته بمعزل عن العلم والتجارب والتحقق لن يتضرر إيمانه بشيء، المهم قناعته الداخلية والنفسية أن هذا شيء وهذا شيء، وفي ذلك السياق يتبع الدكتور زكي نجيب محمود تيار الفصل بين العلم والدين الذي نشأ منذ القرن 19 وهيمن تقريبًا على ثقافة الإنسان المعاصر في ظل الدولة العلمانية، التي عندما فصلت بين الدين والدولة، وفصلت آليا بين الدين والعلم، على اعتبار أن العلم هو منتج من منتجات الدولة.
كان أول ظهور للوضعية المنطقية في التاريخ على شكل جماعي نشط فيما يسمى “حلقة فيينا الفلسفية”، والتي أسسها الفيلسوف الألماني “موريتز شليك” (1882 – 1936م) الذي اغتيل على يد طالب إنجيلي متعصب دينيًا بتهمة العداء مع الدين المسيحي، وهو الأمر الذي عجّل بإنهاء حلقة فيينا وإجبار عناصرها وفلاسفتها على تخفيف حدة نقدهم للدين، حتى أشيع أن جامعات فيينا المختلفة تأثرت بتلك الحادثة وخشيت مواجهة المتعصبين، فاشترطت على الراغبين بتدريس الفلسفة أن يحصلوا على شهادة علمية في اللاهوت المسيحي، وهو تراجع يشهد على أن جوهر الوضعية المنطقية في بداياته كان حماسيًا لحد كبير مدفوعًا بروح الشباب الثائر ضد الحروب مثلما تقدم، وعندما انتفض المتعصبون دينيًا اختفى هذا الحماس وصارت الوضعية المنطقية تُمارس في إطار نخبوي واجتهادات فردية بدلاً من البداية التنظيمية الجماعية للتيار.
إن أبرز ما قدمته حلقة فيينا الفلسفية هو تقديم العلم التجريبي باعتباره أبا الحقائق، متأثرة بما أنجزه علماء الفيزياء والكيمياء والفلك والطب والأحياء في العقود التي سبقت تكوين المجموعة، لذا فقد سميت الوضعية المنطقية باسم مختلف يحاكي هذا التقديم؛ وهو “التجريبية العلمية” Scientific Empiricism الذي كان من أبرز دعاتها الفيلسوف الألماني “كارل جيوستاف هيمبل” (1905- 1997م)، وهي بذلك تتبع حركة التجريب الأولى في الفلسفة التي نادى بها كل من “فرانسيس بيكون” 1561- 1626م) و”ديفيد هيوم ” (1711- 1776م) و”جون ستيوارت ميل” (1806- 1873م) وغيرهم.
ولأنها تطورت اسميًا من الفلسفة الوضعية لأوجست كونت (1798- 1857م)؛ فقد اعتمدت تقسيم كونت لمراحل تطور الإنسان، وهي المرحلة اللاهوتية ثم الميتافيزيقية ثم الوضعية Positive Stage التي انتهى إليها الإنسان، وتعني إمكانية المعرفة؛ سواء بالحس المباشر أو بالعلم التجريبي؛ فكل حقيقة لا تخضع للحس ولا تؤمن بالعلم ولا يعرفها التجريبيون هي خرافة إلى أن تثبت بهذين الطريقين، وتحت ضغط هذا التيار الذي بالمناسبة لم ينشأ مع كونت فقط؛ بل مع أستاذه “سان سيمون” (1760- 1825م)، تبنى العديد من النخبة والمفكرين هذا الرأي بحماس، حتى هيمن طيلة القرن 19، وأدى به الحال لتقديم عنصر الإنتاج والمادة على المثال مستفيدًا من أطروحات كل من “كارل ماركس” في الاجتماع والمال، و”تشارلز داروين” في التطور والأحياء.
إذًا فالوضعية المنطقية هي تطور تاريخي طبيعي للفكر البشري مستفيدًا من أطروحات الوضعيين والماركسيين والتطوريين من قبله، إضافة لاكتشافات العلم التجريبي والثورة المعرفية الهائلة التي حدثت للعالم خلال 100 عام، بدأت من منتصف القرن 19 حتى منتصف القرن 20م، ومن الطبيعي أن يفكر بنفس الطريقة شيوخ الدين في بعض البلدان رافعين سلاح (التأويل والاجتهاد)، ليخرج النص الديني موافقًا للعلم من ناحية، ولتجاوز إشكاليات المعرفة التي حدثت وأدت لارتقاء العقل من ناحية أخرى، وكان من أبرز علامات هذا الأمر خروج مفكرين مسلمين ينادون بحريات المرأة والمذاهب الأخرى، ولإنكار الخلافة الإسلامية ونقد التاريخ الإسلامي مثلما حدث مع “طه حسين وعلي عبدالرازق وقاسم أمين ومحمد عبده. وغيرهم”؛ فكل أولئك كانوا تطورًا طبيعيًا للعقل الإسلامي في تصور نصوصه الدينية دون مساس بالعلم والحس.
حتى إن شيخًا أصوليًا شهيرًا كان عرّابا وداعياً للوهابية، والذي أنشأ مجلته المنار لهذا الغرض وهو الشيخ “محمد رشيد رضا” (1865- 1935م)، تأثر بمنتجات الفكر الوضعي في معيارية الحس؛ فدفعه ذلك لإنكار خرافات عديدة في التراث الإسلامي كفتن وملاحم آخر الزمان والدجال والمهدي المنتظر وانشقاق القمر وغيرها؛ فبرغم ثبوت أغلب هذه القصص في الأحاديث الصحيحة لكنه كان متحررًا منها بشكل واضح؛ فاندفع بوسائل التأويل والاجتهاد الفقهي للخروج برؤى دينية مستنيرة للنص الإسلامي رغم انتمائه في الأخير للفكر الوهابي ودعمه للسلطة العثمانية والحُكم الديني، وهذا يثبت أن تطور الإنسان معرفيًا لا يعني تحرره من الاستبداد؛ فهذا شيء، وذاك شيء مختلف.
إنما هذا لا يعني أن الوضعية المنطقية شيء جديد، أو ليس لها امتداد في فلسفات أقدم؛ بل على الأرجح – والمشهور في الفلسفة – أنها خرجت من رحم الفلسفة التحليلية، وأحيًانا يشار إلى أن أحد أكبر رواد الفكر التحليلي وهو “لودفيج فيتجنشتاين” (1889- 1951م)، وهو الأب الروحي للوضعية المنطقية الذي اشتهر بكتاب “رسالة منطقية فلسفية”؛ حيث حاول فيه علاج مسائل الأنطولوجيا من خلال اللغة والمنطق، وتدور الفكرة بين الرؤيتين – التحليلية والوضعية المنطقية – على مركزية “المنطق والتجريب” في حل مشكلات الفلسفة، وقد شرحت على مواطن الفلسفة التحليلية من قبل تحت عنوان “الفلسفة التحليلية والفكر الإسلامي، عالم ما بعد الشمولية”
وهذا ليس اتجاهًا حديثًا أيضًا؛ فالتحليلية قدمت هذه الرؤية انطلاقًا من جهود التجريبيين من قبل كالفيلسوف الإنجليزي “فرانسيس بيكون” (1561- 1626م) والأسكتلندي “ديفيد هيوم” (1711 – 1776م)، وهو ما يطلق عليه بالتجريبية البريطانية، نظرًا إلى ظهور هذا النوع من التفكير العلمي التجريبي أولاً في المجتمع البريطاني، مما يعني أن للوضعية المنطقية اهتمامًا باللغة مثلها كسائر فلسفات ما بعد الحداثة، التي انتبهت لمعيارية اللغة في حل مشكلات المعرفة، لكنها في ذات الوقت تولي اهتمامًا بالمنطق في اتجاه حديث يجمع بين الاثنين بعد افتراق لمئات الأعوام في عز سيطرة اللاهوت الديني على الفلسفة بالقرون الوسطى.
ويمكن تلخيص فكرة الوضعية المنطقية تجاه المنطق في أن الإنسان يجب أن يفكر بشكل جيد عن طريق أسلوب بسيط مع نتائج عظيمة واقعية، مما يلزمه اهتمامًا أصيلاً بالعلم والتجريب لضمان النتائج بعدما تبين عند فلاسفة الوضعية المنطقية عمومًا أن الميتافيزيقيا لا تضمن النتائج، وتفتح أبوابًا للخلاف العبثي وغير العلمي، وهذا التفكير الجيد لا يمكن الحصول عليه سوى بثلاثة أشياء:
الأول: تحديد المفاهيم والرموز والمعاني والدلالات، وهذا يلزمه تشريح ثنائي الجهد عن طريق “اللغة والمنطق” معًا؛ فالذي أوقع السابقين في مشاكل المعرفة هو عدم تحريرهم للمصطلحات بشكل جيد، انطلاقًا من قاعدتين معرفيتين توصل لهما الإنسان مؤخرًا ولم يعرفهما علماء القرون الوسطى:
- أن ثمة قوة للكلمات في توجيه المعاني هي التي تمنع أحيانًا فهم السياق لفهم الكلمة، وهذا الذي يحدث خلافات كبيرة دون إمكانية معرفة الأسباب، وبالتالي صارت ضرورة معرفة المعنى مرتبطة شرطيًا بالفهم، ويمكن التعبير عنها بعبارة أخرى، وهي أن الكلمة/ اللفظ هو الذي يرسم المعنى، والمعنى هو الذي يشرح حدثًا أو فكرة ما، فصار اللفظ مرتبطًا بالأشياء والحقائق والأحداث بشكل مؤكد؛ فالكلمة ليست مجرد صوت وحرف منطوق ومسموع ومقروء، لكنها حقيقة وحدث يجب فهمه لتحرير السياق .
- أن ثمة خلاف مؤكدًا بين اللفظ والمعنى، وأن العلاقة بينهم يجب أن تُحرر بشكل جيد لكي يفهم البشر بعضهم من جهة، ولقراءة أسهل وأبسط للنصوص سواء كانت دينية أو أدبية أو علمية، وسيضمن المنطق استقامة التفكير إلى حد بعيد، وعدم وقوعه في مغالطات التفكير المنطقية التي شاعت بين الآباء والأجداد في القرون الوسطى؛ خصوصًا بين رجال الدين الذين درسوا علم الكلام الإسلامي واللاهوت الدفاعي المسيحي، وما يقابله من الفلسفة المدرسية التي نشطت لإثبات الإيمان المسيحي عن طريق الفلسفة، وأذكر في هذا الصدد مغالطات ابن تيمية الحراني في المنطق، والتي كانت متفشية في كتبه خصوصًا “مجموع الفتاوى”، الذي وصفته من قبل بكتاب “رجل القش”، وعندما جاء التيار السلفي المعاصر ليُحيي ابن تيمية وينشر كتبه ورث كافة مغالطاته المنطقية وادعاءاته على خصومه، وما ابن تيمية إلا نموذج لنتائج هجران فقهاء المسلمين للفلسفة والمنطق معًا، وعدم قدرتهم على فهم أو رفضهم لكافة أعمال الفلاسفة.
الثاني: الشمولية في الطرح، وهي التي يلزمها استقراء صحيح لضمان الاستنتاج الصحيح، وهذا الشرط قد يخص مسائل العلم والتجريب بشكل أوّلي المعتمد أكثر على الاستقراء والجمع للخروج بحقائق علمية جديدة، والشمولية التي أقصدها هنا ليست هي التي ثار عليها التحليليون ونجحوا في تفكيك الفكر الشمولي القروسطي؛ بل إثبات أن تفكيكهم لشمولية القروسطيين لا يعني رفضهم لأي حقائق مرتبطة شرطيًا بالشمولية، وأن رفضهم لشمولية الماضي مصدره الشرط الأول الخاص بتحديد المفاهيم والرموز والمعاني والدلالات. علمًا بأن لديفيد هيوم – رغم تجريبيته – موقفًا من الاستقراء، إضافة لمشاكل التعريف بين الاستقراء التام والناقص، لكن الثورة العلمية والصناعية التي حدثت بعد موته في القرن 19م دفعت مجتمع الفلاسفة لعدم الاهتمام بمشاكل الاستقراء مؤقتًا نظرًا لنجاح الإنسان علميًا دون الحاجة لعلاج تلك المشكلات.
الثالث: حرية التفكير المنضبط على نحو ما تقدم؛ فالتفكير يهدف لجمع الحقائق والربط بينها للوصول إلى نتائج وأحكام، وبدون التفكير لن يصل الإنسان إلى نتائج وأحكام صادقة وحقيقية، وهذا الشرط بالطبع هو مرتبط جذريًا بأولوية “العلم التجريبي” وتقديمه على ما سواه؛ خصوصًا الميتافيزيقا التي وصل كافة فلاسفة الوضعية المنطقية إلى ضرورة تجنبها كونها مصدرًا أصيلاً للخرافة والأوهام من جهة، وللتفكير غير المنضبط من جهة أخرى، فتكثر المشاكل والصراعات والحروب، ويضل الإنسان عن العلم ويعطي أولوية لرغباته الشخصية وأمنياته فوق الحقائق، وكذلك مرتبط جذريًا بالانفتاح ، نزولاً لكون وضعية الإنسان الحر والمنفتح هي الأكثر أهلية وقدرة على التفكير المنضبط دون قيود وسجون، حتى إذا عانى الإنسان في بحثه من أحكام مسبقة وميول وانحيازات، لكن أولوية التفكير الحر والمنضبط تخلق لديه الأهلية والاستعداد لمراجعة نفسه وقتما يتسنى له ذلك من أثر الضغوط العلمية والاجتماعية والنفسية.
الغالب على الوضعية المنطقية أنها علم وتجريب أكثر مما هي فلسفة، ويظهر ذلك من روّادها الذين كانوا علماء طبيعة واجتماع، وأن اجتماعهم كان على رفض الميتافيزيقا بالأساس، وبحثهم عن المعنى الكامن وراء غموض اللغة هو الذي دفعهم للقول بأولوية العلم التجريبي
إن تركيز الوضعيين المناطقة على المنطق له وجاهة حسب وجهة نظرهم؛ فلا يمكن معرفة الحقيقة سوى بكسر اللغة وردها إلى أصولها المنطقية، والسر يكمن في أن جذور اللغة الأولى كانت عن تفكير منطقي أساسًا، مثال على ذلك قبل تعريف الآخر كإنسان مختلف، يجب أن نعرفه كشخص موجود أولاً ونثبت بالواقع الحسي أنه ينتمي لمجموعة كذا وكذا، التي تقول كذا وكذا، وترتبط مصالحها بكذا وكذا.
بالتالي فلا نخلط بين هذه المجموعة ومصالح مجموعة أخرى، أو نزعم أقوالاً لمجموعة لم تقلها بل تعود في الأصل لمجموعة مختلفة، وأن هذا الأسلوب سوف يكشف لنا الآخر بطريقة واقعية، لأن مركزية الحس والواقع لدينا يدفع الباحثين المناطقة للانفتاح على الآخر ومحاولة التعرف عليه عن قرب، ومن ثم جمع المعلومات اللازمة واستقراء ما لدينا منها لاستنتاج حقائق جديدة، بينما الطريقة القديمة تفتقر للأسلوب الأمثل للمعرفة، والتي عادة ما تكون مقيدة بحواجز اللغة واللفظ والمعنى من جهة، ومن كافة الأصنام العقلية والاجتماعية – التي شرح بعضا منها فرانسيس بيكون – من جهة أخرى.
وإذا شرحنا هذا الأسلوب الوضعي المنطقي حسب التفكير الإسلامي سيكون من المفيد للمسلم أن لا يُعمم على غيره من الأديان الإبراهيمية أو التعددية، وسيدفعه لمعرفة الآخر مذهبيًا وفقهيًا وعقائديًا بشكل صحيح يخلو من الغلطات المنطقية التي كان يعاني منها ابن تيمية الحراني كمثال، فالذي يدفع المؤمنين بالأديان للتطرف والعدوانية – مثلاً – هو بناء موقف أيديولوجي قد تكون له مسحة ميتافيزيقية عن الآخر، هو عبارة عن أوهام وأكاذيب عن الغير لم تحرر علميًا ومعرفيًا بشكل كاف، فيصل المؤمن هنا لصورة سوداوية شريرة عن الآخر من فرط عزلته وانغلاقه
بينما حسب التفكير الوضعي المنطقي سوف يفرض عليه الاعتماد على الحس ومركزية الواقع أن يقفز ويترك ويتخطى كثيرًا من فتاوى أئمته أو قواعد مذهبه أو بعضًا من نصوصه الدينية وثوابته في سبيل معرفة الحقيقة، لأن المعيار هنا لم يعد ذاتيًا بل موضوعيًا، وهو الزبدة التي رآها الوضعيون المناطقة في قولهم بمركزية الحس وأولوية التفكير المنطقي الحر على أي شيء آخر.
ويبدو أن أصول الفلسفة التحليلية ضاربة عند الوضعيين المناطقة في اعتماد “الذرية المنطقية” التي شرحناها من قبل، فكان برتراند راسل (1872- 1970م) يرى أن الحقائق تُعرف بتقسيم الكليات إلى جزئيات، ورد كل شيء إلى مُكوّنه الفردي الذي يُبصره الذهن بشكل متناسق ومُنظم، واعتماد الوضعيين المناطقة للمنطق هنا لم يخرج عن نفس التصور؛ بل طوّره بالجمع بين الوضعية القديمة والفكر التحليلي إضافة للتجريب والتصريح بأولوية المنطق.
ولكي نسقط ذلك على الفكر الإسلامي سأفترض مقولة نسبت لبعض الشيعة؛ حيث يشتهر في المجتمع السني أنهم يسبون الصحابة، فحسب الوضعية المنطقية لابد وأن نعرف أولاً من هم (الصحابة – الشيعة – السنة – السبّ)، ثم نبحث في أسئلة (هل كل الشيعة يسبون؟ – هل السنة لا يسبون؟ – وما موقف الإسلام من ذلك؟)..وهكذا.
فما فعلناه هنا هو (تقسيم الكلي لجزئي وفقًا للتحليلية)، وهو ما ورثه الوضعيون المناطقة واستعملوه، ثم طرحنا أسئلة لتفكيك الادعاء ورده إلى مكوّناته الفردية بالذهن كي يخرج الادعاء في الأخير بشكل منطقي، وبالتالي يصبح من الإمكان معرفة الحقيقة، وبدون هذا التحليل وضبطه بأصول المنطق سيكون من الصعب تأكيد الادعاء، وأن إطلاقه يُحدث فوضى وظلمًا وأوهامًا تشعل صراعات عبثية على لا شيء، وإذا تأملنا في تاريخ المسلمين – قديمًا وحديثًا- نرى أن تلك الصراعات العبثية اشتعلت بالفعل من جراء عدم التزام المنطق والتفكير بشكل واقعي.
أخيرا: إن الغالب على الوضعية المنطقية أنها علم وتجريب أكثر مما هي فلسفة، ويظهر ذلك من روّادها الذين كانوا علماء طبيعة واجتماع، كمثال الذي تحدثنا عنه قبل قليل “موريتز شليك” (1882- 1936م) وأوتو نوراث (1882- 1945م) وردولف كارناب (1891- 1970م) .. وغيرهم، وأن اجتماع هؤلاء العلماء كان على رفض الميتافيزيقا بالأساس، وأن بحثهم عن المعنى الكامن وراء غموض اللغة هو الذي دفعهم للقول بأولوية العلم التجريبي، علمًا بأنه قد ثار خلاف خرج من رحم الوضعية المنطقية والفكر التحليلي في تحرير العلاقة بين (المعنى وقابلية الاختبار)؛ فأصحاب فلسفة العلوم أشهرهم “كارل بوبر” (1902- 1994م) يقولون بأن الوصول إلى المعنى لا يكفي لإمكانية اختباره، وبالتالي فكل ما لا يصلح اختباره أو نفيه بالتجربة هو عمل غير علمي، حتى لو كان له معنىً واضح، وقد اشتهرت هذه المقولة “بقابلية الدحض”.
وهكذا كان المجتمع الأوروبي نشط فكريًا وعلميًا للوصول إلى صيغة تُمكنه من معرفة الحقيقة، في مشهد إنساني نجح فيه ذلك المجتمع لإنجاز حضارته. في وقت كان المسلمون والعرب يعتقدون أن لديهم “أم الحقائق والمعارف المطلقة، وأنهم الأفضل بلا منازع”، وفي اللحظة التي نهض بها الأوروبيون عن طريقة الفلسفة والعلم كانت مجتمعاتنا تعج بالخرافة والوهم والصراعات الطائفية العبثية، وكي لا أستغرق في التنظير فضّلت أن أختم هذا المقال بتلك اللمحة النقدية الذاتية لإيقاظ الضمائر، وأن ما حكيناه عن الوضعية المنطقية لا يهدف لتقليدها، ولكن للتفكير بسبل وأشكال مختلفة مناسبة للعرب والمسلمين، وعدم الاستسلام للتقليد الذي كان ويظل حجر عثرة أمام نهضة الأمم ، وهو المتسبب الأول في ضعفهم وتخلفهم وفنائهم عبر التاريخ.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.