عقب تصريحات الفنانة السورية أصالة بأنها تدين بالفضل (فنيا) للسعودية؛ فتحت عليها أبواب النقد من مصريين اعتبروا أن الفضل الأساسي والرئيسي في مسيرة أصالة ليس سوريًا ولا سعوديًا بل مصريًا، تكررت نفس الحساسية مع تكريم الموسيقار المصري هاني شنودة في المملكة، وهو ما دفع تركي آل الشيخ، رئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه في السعودية للتعليق بأن الفن للجميع، الفن ليس له بلد ولا دين، وأشار إلى أن سبب تكريم شنودة أنها أعمال دخلت وجدان كل عربي. الأول ذاته تكرر عدة مرات، وربما سيظل يتكرر كثيرا في الفترات القادمة.
ربما يتحسس بعض من الجمهور المصري الدور الجديد للمملكة في الحالة الفنية عربيًا، وربما ما تمر به السعودية خطوات موجهة نحو الريادة فنيًا، خاصة بعد الحرب الأهلية السورية، والأوضاع الاقتصادية في لبنان مع تراجع الدور المصري، أو ربما كل ما يحدث هو مجرد تبعات للانفتاح السعودي الحادث مؤخرًا، لكن الأكيد أن حالة الزخم الفني في المملكة العربية السعودية؛ من إقامة الحفلات والمهرجانات الفنية وتزايد دور عرض الأفلام، هو أمر وليد السنوات السبع الأخيرة من حياة المملكة.
وعلى الرغم من الطفرة الفنية القائمة، إلا أن لهذه الطفرة إرهاصات وتاريخًا متراكمًا، مكّن صناع القرار اليوم من اتخاذ خطوات في الاهتمام بمجال الفن، ووضع خطة متأنية للوصول لأهداف كبرى على مستويات الثقافة والترفيه والاستثمار مع حلول عام 2030.
الفن ما قبل الانفتاح
بدأت المملكة العربية السعودية في تقديم أعمال سينمائية منذ عام 1950، وكان ذلك بعرض فيلم “الذباب”، وهو إنتاج وتمثيل محلي، وكان يتواجد إبان هذا التوقيت دور عرض وصل عددها إلى 30 دار في 4 مدن، وهي الرياض والطائف وجدة وأبها، لكن توقف إنتاج الأفلام السينمائية السعودية، واقتصرت على بعض الأفلام الوثائقية.
عُرفت سينما “الأحواش” الأشهر بين دور العرض السعودية، والتي كانت للرجال فقط، بعرض الأفلام المصرية والأفلام الهندية، وبعض الأفلام الوثائقية المحلية، إلى أن عاد الإنتاج السينمائي مرة أخرى عام 1966، وهو ما لم يستمر كثيرًا بسبب قرار إيقاف الإنتاج والعرض معًا للأعمال السينمائية في السبعينات من القرن الماضي، في محاولة من المملكة في السيطرة على الغضب الديني الذي أعقب حادثة الحرم المكي، والتي قام من خلالها مسلحون بالاستيلاء على الحرم المكي مدعين ظهور المهدي المنتظر. وهو ما عطل الحالة الفنية على مستويات الموسيقى والمسرح والفن التشكيلي، ليس السينما وحدها.
وبالرغم من السنوات الطويلة من عام 1979 وحتى 2017 التي طالها التوقف داخل أراضي المملكة، إلا أنه كان هناك عدد من المحاربين الفنانين لأجل السينما، قرروا أن يتمردوا على تلك الأوضاع، وقاموا بصناعة أفلام سعودية ولكن خارجها، واستطاعت حصد العديد من الجوائز بالمهرجانات العالمية، والتي كان منها “بركة يقابل بركة”، “وجدة”.
تبعات الانفتاح
مع حالة الغياب الكبيرة للمملكة عن السينما والفعاليات الفنية على أرضها، ورغبتها في العودة بشكل قوي، مع حلول عام 2017 أقرت المملكة العربية السعودية بالسماح لفتح دور للعرض السينمائي والموافقة على إصدار التراخيص للراغبين في دخول هذا النشاط؛ حيث وافق مجلس إدارة الهيئة العامة للإعلام المرئي والمسموع برئاسة الدكتور عواد العواد، وزير الثقافة والإعلام، حينها في جلسته على إصدار تراخيص للراغبين في فتح دور للعرض السينمائي في السعودية.
شهد عام 2022 عرض 11 فيلمًا سعوديًا في دور العرض، مقابل 7 أفلام فقط العام 2021.
وأتبع ذلك قرار بالبدء بالتحضير لموسم الرياض، ليحقق في دورته الأولى عام 2017، التسجيل في موقع جينيس،أكبر احتراق متزامن لإطار السيارة عام 2017، أكبر عرض للألعاب النارية في عدة مدن في سبتمبر 2018، وحديقة مائية فى أكتوبر 2018، وأكبر عرض خلاب للألعاب النارية فى سبتمبر 2019.
ومع هذا حققت دور العرض السينمائي نموًا في إيراداتها وصل إلى 9.47% عام 2022، مسجلة نحو 905 ملايين ريال سعودي (240 مليون دولار أميركي)، حتى 25 ديسمبر، مقارنة مع إيرادات سنة 2021 التي وصلت 874 مليون ريال (232 مليون دولار أميركي).
وشهد عام 2022 عرض 11 فيلمًا سعوديًا في دور العرض، مقابل 7 أفلام فقط العام 2021، في مؤشر على إدراك القائمين على الصناعة أهمية الأفلام المحلية التي تعكس حياة الجمهور السعودي، باعتبارها مفتاحًا رئيسيًا لنمو شباك التذاكر، بعد أن كان الاعتماد بشكل حصري على الأفلام الأجنبية (أميركية و هندية)، أو المصرية لجذب الجماهير، عقب افتتاح دور السينما لأول مرة في المملكة عام 2018.
كسر موسم الرياض حالة الروتين في أراضي السعودية، وخلق حالة من البهجة المستمرة، بفعالياته المختلفة من حفلات لكبار النجوم في الشرق الأوسط والعالم، بالإضافة إلى البرامج المفتوحة الفنون والألعاب الرياضية والترفيهية.
دور المؤسسات الترفيهية في المملكة
مع حلول عام 2020، كان هناك قرار من هيئة الترفيه بالمملكة العربية السعودية، لوضع الخطوات الأولى لعالم السينما داخل أراضيها، وكان ذلك من خلال مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، والذي يحاول حاليًا إحداث طفرة كبيرة بعالم السينما في الشرق الأوسط ككل؛ فقال أنطوان خليفة، مدير البرامج العربية والأفلام الكلاسيكية بمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، لمواطن: “إن المهرجان حاول خلال عامه الأول أن يقدم الدعم للأفلام السعودية، لكي ترى النور في محاولة منه لتعويض صناع السينما بالمملكة على ما مر من سنوات دون أعمال، ومن ثم تم دعمها ماديًا، كما أنه تم إنشاء معمل البحر الأحمر، والذي يهتم بالمشاريع الفنية قبل عملية التطوير وقبل الإنتاج، وبالفعل ساهم في تقديم 20 مشروعًا سينمائيًا من الدول العربية.
فيما أشار الناقد العراقي كاظم سلوم لمواطن، إلى أن السعودية في الوقت الحالي تسعى إلى تعويض ما فاتها خلال السنوات الماضية، وهي تتخذ في سبيل ذلك الخطوات الصحيحة؛ فالمال جعلها قادرة على توفير كوادر فنية محترفة يمكن أن تحقق إنتاجًا جيدًا، ويمكن أن يستفاد منها الكادر المحلي، كما أنها الآن وضعت قدمها على الطريق الصحيح ، وقامت بجذب الفنانيين الأجانب، وهو ما يجعلها صاحبة خطوات سليمة في تلك المرحلة. مستطردًا، بأن موسم الرياض ومهرجان البحر الأحمر هما اللبنات الأولى لبناء قد يستغرق عقودًا من السنين.
كسر موسم الرياض حالة الروتين في أراضي السعودية، وخلق حالة من البهجة المستمرة، بفعالياته المختلفة من حفلات لكبار النجوم في الشرق الأوسط والعالم، بالإضافة إلى البرامج المفتوحة الفنون والألعاب الرياضية والترفيهية.
ويعلق الناقد الفني عبد الرحمن الناصر، لمواطن؛ “أن المملكة طوال تاريخها العميق تهتم بالأغنية وتعتبرها العمود الرئيسي في ثقافتها، كما حاولت استغلال المنابر الخارجية من مهرجانات وحفلات لتسويق الفن الغنائي، أما المشكلة السابقة فكانت انقطاع المسرح الغنائي لسبع سنوات، آخرها مهرجان (جدة غير)، والذي توقف في العام 2010، وبالتالي تسع سنوات كانت فترة طويلة، عوضتها مواسم المملكة وموسم الرياض، والذي بدأ عام 2019، و تلا ذلك الفعاليات الترفيهية في جدة والمنطقة الشرقية والعلا وغيرها في أماكن أخرى، لتعيد البهجة من جديد على محيا الجمهور في المملكة”.
هل تسعى المملكة للريادة الفنية؟
توافر رأس المال القوي لا يعني الريادة، لكنه يعني اتخاذ خطوات يمكن خلال السنوات القادمة أن تجعل المملكة صاحبة الصدارة في المشهد الفني
مع ظن الكثيرين من دول الشرق الأوسط أن ما تفعله المملكة العربية السعودية من فعاليات خلال السنوات الأخيرة، هي خطوات لسحب بساط الثقافة تحت قدميها، ومحاولة منها للتحليق في سماء الريادة الفنية والثقافية في المنطقة، أشار الناقد “عبد الرحمن الناصر”، بأن الخطوات التي انطلق موسم الرياض في تنفيذها منذ عام 2019، والتي كانت بدايتها كسر الحواجز التي تم الاعتياد عليها، وتقديم الفن كثقافة مجتمع، عن طريق بدأ المسارح السعودية في العمل، وتزامن ذلك مع توقف المسرح في عدة دول، كانت هذه هي خطوات الريادة الحقيقية للملكة العربية السعودية في عالم الترفيه الغنائي والمسرحي، والتأكيد على كونها تتخذ خطوات هامة من أجل تحقيق تلك الريادة.
ومع تهافت الفنانين العرب على المشاركة في فاعليات المملكة مؤخرًا بموسم الرياض، أكد “الناصر” أن الهاجس الأهم حاليًا لدى الفنانين بالوطن العربي، هو التواجد بتلك الفعاليات الترفيهية؛ خاصة مع تحقيق هيئة الترفيه كافة المغريات والإغراءات التي تخلق الرغبة لدى الفنانين العرب بأن يكونوا جزءً من هذا التطور والإعمار الفني؛ سواء في الغناء أو المسرح من تنظيم مبهر والذي يضاهي أهم مسارح العالم، إضافة إلى المتابعة الجماهيرية، وهي أشياء كثيرة جعلت المملكة تحتل مكانًا رياديًا على المستوى العربي، والدليل على ذلك تعامل النجوم العرب وتفاعلهم وطلب الالتحاق بليلة تكريم صوت الأرض، والتي أقيمت مؤخرًا.
المملكة تعمل على دعم تطوير السينما السعودية والمواهب الناشئة، من خلال برامج خاصة لتحقيق ذلك ماديًا؛ سواء على مستوى الأفلام القصيرة، أو طويلة.
وعلى عكس الرأي السابق؛ فيرى الناقد العراقي كاظم سلوم، أن المملكة لا يمكنها حاليًا المنافسة على الريادة الفنية بالمنطقة العربية على الرغم مما وصلت إليه في فترة قصيرة، مستدلًا على ذلك بمدى تاريخية الريادة كفترة زمنية، فالريادة تعني القِدم والخبرة سواء في الإنتاج الفني أو الجوانب التقنية الأخرى، وتوافر رأس المال القوي لا يعني الريادة، لكنه يعني اتخاذ خطوات يمكن خلال السنوات القادمة أن تجعل المملكة صاحبة الصدارة في المشهد الفني، وأرجع ذلك لصعوبة الإقبال على الأفلام العربية بشكل عام، وصعوبة إقناع المشاهد العربي على مشاهدة فيلم سعودي في وسط الاعتياد خلال سنوات طويلة على الأعمال المصرية بسبب تصديرها للعالم العربي لأكثر من 60 عام.
خطوات نحو التفوق
ومع اختلاف الآراء حول ما تسعى هيئة الترفيه السعودية بالوصول إليه تحديدًا، إلا أنها أصبحت على أرض واقع، متخذة للعديد من الخطوات الفعلية إلى جانب خطة حكومة المملكة ككل خلال الفترة القادمة، وهو ما قال عنه أنطوان خليفة، مدير البرامج العربية والأفلام الكلاسيكية بمهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي، بأن المملكة تعمل على دعم تطوير السينما السعودية والمواهب الناشئة، من خلال برامج خاصة لتحقيق ذلك ماديًا؛ سواء على مستوى الأفلام القصيرة، أو طويلة، و يتم هذا الدعم عن طريق وزارة الثقافة ومهرجان البحر الأحمر ومعمل البحر الأحمر أيضًا.
موضحًا أن وزارة الثقافة السعودية لديها خطة محددة تعمل من خلالها لكي يتم دعم الإنتاج المحلي الفني على أرض المملكة والتصوير بمناطق متفرقة داخل الحدود، وليس هذا فقط؛ بل أنه تم تصوير عدد من الأفلام العربية والعالمية داخل أرض السعودية خلال الأشهر الماضية بمناطق العلا والبوك، وذلك في إطار التطور الفني الذي تشهده المملكة.
ومع الخطوات الفعلية التي تتخذها المملكة العربية السعودية حاليًا، نجد أنها من الممكن بعد عدة سنوات قليلة تكون ساحة فنية لتصوير وتقديم أعمال فنية من أرضها، إلى جانب قدرتها على خلق جوانب ترفيهية عدة، حتى وإن لم تستطع خلق سينما ذات شعبية كبيرة لها في الشرق الأوسط بسبب حداثة تاريخ السينما على أرضها وتصدر غيرها من الدول منطقة الأعمال السينمائية على أرضها.
ومع ما تم طرحه في السابق من محاولات للمملكة العربية السعودية في الاصطفاف في الصفوف الأمامية للفن بالشرق الأوسط وتحقيقها لأرباح كبيرة من عالم الترفيه، وإنجازها فعاليات متعددة في فترة قصيرة، يظل السؤال مطروحًا أمام الجميع ومثيرًا للتحقق لكثير من الأطراف؛ هل حقًا تسعى المملكة العربية السعودية لتحقيق الريادة بالشرق الأوسط تجاه الفن والترفيه؟ أم أنها فقط تسعى لتعويض ما فاتها خلال فترات الإغلاق التي كانت تعيشها؟