وصلت رئيسة وزراء إيطاليا السيدة جورجيا ميلوني، في الثالث من مارس الجاري إلى إمارة أبو ظبي، مرتدية لباسًا غيرَ الكلاسيكيِّ الذي جرت العادة أن يرتديه القَادَة في الزيارات الرسمية، ما أثار استغراب الكثير من المعلّقين على شبكات التواصل الاجتماعي، كما بدت متردّدة فيما يخصّ بروتوكول التحية للوفد الذين كان في استقبالها في المطار. فما الذي تنطوي عليه هذه الزيارة المُرتبكة؟
محاولة لفتح صفحة جديدة في العلاقات مع الإمارات
بعد ثلاث سنوات من التمهيد الذي باشرتْهُ حكومة الرئيس السابق ماريو دراغي، قامت السيدة ميلوني أخيرًا بزيارة للإمارات بُغية تجاوز الأزمة بين البلدين التي تعود جذورها إلى 2017.
عرفت العلاقات بين الإمارات وإيطاليا توترًا على مراحل، ولكنّ النقطة التي أجّجت حنَق الإماراتيين، هي قيام رئيس الوزراء الأسبق جوسيبيه كونتيه، في 29 من يناير 2021، بإيقاف بيع الذخائر الإيطالية لكلّ من السعودية والإمارات، مخالفًا بذلك العقود والاتفاقيات المبرمة بين الأطراف، والتي جرت بموجبها صفقات اقتناء الأسلحة الإيطالية طوال ستّ سنوات.
زادت العلاقات سوءً بعد أن باعت إيطاليا للإمارات مجموعة من الطائرات الخاصّة بالعروض البهلوانية سنة 2011، ودرّبت عليها الربابنة الإماراتيين، ومن ثمّ توقّفت عن إمدادها بقطع الغيار سنة 2021.
وجاء هذا القرار على خلفية الجدل الذي أثارته الصحافة الإيطالية حول شُبهة تصدير أسلحة مُسرطنة لاستعمالها في حرب اليمن، وباغت هذا القرار كلًّا من السعودية والإمارات؛ فقد جاء بدون سابق تحذير أو اتصال ديبلوماسي، خصوصًا أن القانون الإيطالي لا يسمح بحلّ العقود بطريقة أحاديّة، إلّا في حالة صدور قرار دولي لفرض الحصار على الطرف المعنيّ، وهو ما لم يحصل؛ مما أثار حينها استغراب البلدين اللّذَيْن قاما -ولعدّة مرّات-، بضخّ ملايين الدولارات في الاقتصاد الإيطالي رغم أنّ العديد من الصفقات أضرّت بمصالحهما التجارية.
فقد حاولت الإمارات مرارًا إنقاذ شركات إيطالية من الإفلاس، بالرغم من أن محاولاتها كانت غالبًا ما تبوء بالفشل؛ مثْل ما حصل مع بياجو آيروسبايس، إحدى أهم الشركات عالميّا المصنّعة لمحركات الطائرات النفاثة والطائرات العسكرية المسيّرة عن بُعد، والتي كانت تشارف على الإفلاس بعد فشل المخطط الحكومي لإنعاشها سنة 2017.
كانت الشركة الإيطالية تعوّل على تلبية حاجيات الإمارات للخروج من ضائقتها المالية، غير أنه في سنة 2018 قامت شركة “مبادلة للتنمية”، وهي أحد صناديق الثروة السيادية في الإمارات، بإلغاء طلبية بقيمة 400 مليون دولار، بينما كانت الشركة قد أنهت تصنيع أربعًا من الثمان طائرات المتفق عليها، وطلبية أخرى بعشرين طائرة، تقارب قيمتها 800 مليون دولار، نظرًا لما اعتبرته تأخيرًا وعدم التزام بما نصت عليه بنود العقد. و تعود أسباب تأخير تسليم الطائرات لعدم إعطاء حكومة كونتيه الأولوية لصناعة السلاح.
وفي 2017 اندلع خلاف بين الاتحاد الناقل لأبو ظبي، وشركة الطيران “أليطاليا”، لأن الأخيرة طالبت بتعويض 500 مليون دولار، في حين أن الإمارات كانت قد خسرت فعليًّا أكثر من مليار دولار في الصفقة؛ فقد قامت شركة الاتحاد باقتناء حصة 49% من “أليطاليا”، مع وضع خطّة لإعادة هيكلة الشركة تعتمد على إلغاء 1600 وظيفة، ما أثار غضب مختلف اتحادات العمّال في إيطاليا؛ الأمر الذي دفع بالإماراتيين للتّوقف عن الدعم المالي.
تُعرف جورجيا ميلوني في إيطاليا بخطابها المعادي للمهاجرين؛ وخصوصًا للمسلمين، ومن ضمن العديد من الخرجات الإعلامية التي هاجمت فيها المسلمين، تنظيمُها لوقفةٍ احتجاجيةٍ في بلدة مارشانو، ضد افتتاح مكان للمسلمين للصلاة تحت شعار "لا لمسجد آخر في إيطاليا"
زادت العلاقات سوءً بعد أن باعت إيطاليا للإمارات مجموعة من الطائرات الخاصّة بالعروض البهلوانية سنة 2011، ودرّبت عليها الربابنة الإماراتيين، ومن ثمّ توقّفت عن إمدادها بقطع الغيار سنة 2021.
وتوالى تبادل الصفعات بين البلدين، على إثر حظر بيع السلاح، بإغلاق الإمارات أجوائها في وجه الطيران الإيطالي الذاهب على متنه وفد من الصحفيين بمناسبة انتهاء التدخل العسكري في أفغانستان، ومن ثَمّ طرد إيطاليا من قاعدة “المنهاد” التي تنطلق منها في عمليّاتها في الشرق الأوسط والقرن الإفريقي، و كانت هذه بداية القطيعة بين البلدن، التي تحاول روما وصْلَها حاليا.
القناعات الأيديولوجية تختلف عن منطق الممارسة السياسية
تُعرف جورجيا ميلوني في إيطاليا بخطابها المعادي للمهاجرين؛ وخصوصًا للمسلمين، ومن ضمن العديد من الخرجات الإعلامية التي هاجمت فيها المسلمين، تنظيمُها لوقفةٍ احتجاجيةٍ في بلدة مارشانو، ضد افتتاح مكان للمسلمين للصلاة تحت شعار “لا لمسجد آخر في إيطاليا”، اعترضت خلالها على “افتتاح مساجد جديدة في إيطاليا”، واتّهمت كلًّا من السعودية وقطر بتمويلها، كما وصفتهما “بالأمّتَيْن المتشدّدتين اللتين تموّلان الإرهاب”.
في الواقع هذه الراديكالية في الخطاب كانت أيّام المعارضة، وهي جزء من استراتيجية التواصل لإقناع الناخبين بالتصويت لها؛ ففي المعارضة كانت تستطيع أن تدلي بالتصريحات النّارية دون أن تغامر بدفع ثمنٍ كبير، بينما في رئاسة الوزراء من الأرجح أن لا تغامر بحكومتها وبمنصبها، ولو كان عليها أن تخالف قناعاتها الفكرية. فَفَهْمُ ما تتطلّبه كل مرحلة هي المرونة التي تحتاجها ممارسة السياسة، وخلافًا للتوقعات أبانت رئيسة الوزراء على حذر شديد فيما يخص تصريحاتها وقراراتها السياسية، لتجنب أي نتائج سلبية تضرّ بمصالح البلاد، تُحْسَبُ عليها وقد تؤدّي إلى إنهاء ولايتها.
كما أن الزيارة للإمارات تجارية بالأساس؛ فالتصريحات الرسمية أفادت بأن التعاون بين البلدين سيشمل المجالات الاقتصادية والاستثمارية والتجارية، إلى جانب أمن الطاقة والطاقة المتجددة والتقنيات النظيفة والتنمية المستدامة، والتصدي لتداعيات التغير المناخي، والأمن الغذائي، والصناعة والتكنولوجيا المتقدمة، بالإضافة إلى التباحث بشأن مؤتمر المناخ الذي سيعقد في 2028، وهذا ما يجعل السيدة ميلوني متزعِّمةً لوفدٍ تجاري أكثر من زعيمة سياسية، فباستثناء ملف ليبيا، لا توجد رهانات سياسية مهمة تجمع إيطاليا بالإمارات.
و ينبغي وضع هذه الزيارة، في سياق جولة، بدأت بالجزائر ثمّ الهند، تبحث فيها السيدة ميلوني عن مصادر للطاقة وأسواق للمنتوجات والخبرة الإيطالية، خصوصًا وأنها أعطت الأولوية منذ تعيينها للحفاظ على مصالح أرباب العمل وإعطاء الامتيازات للطبقة البرجوازية، وما يبدو أنه كيل بمكيالين ونفاق هو جوهر المنطق البراغماتي للسياسي، وهو ما يقوم به أغلب القادة في الغرب.
وبالمقابل هناك دول في منطقتنا كتركيا وإيران تتعامل مع مكيافيلية الغرب بالمِثْل، فلا تتوانى عن الضغط لانتزاع مكاسب سياسية كلّما سنحت الفرصة. ويمكن تفهّم منطق الدول الخليجية المصدّرة للنفط والغاز: أن لا مناص عن السوق الأوروبية المتعطشة للموارد الطبيعية لتحريك عجلة الإنتاج، غير أنّه في هذا الحساب ينبغي أيضًا أخذ بعين الاعتبار ميزان القوى؛ فإيطاليا في حاجة أكبر للدول الخليجية؛ إذ تعتمد على أسواقهم وعلى القدرة الشرائية للمستهلكين الخليجيين لتسويق منتوجاتهم.
وتبلغ أهمّية التواجد التجاري للإيطاليين في الإمارات إلى ما مجموعه 600 مقاولة، من أهمها شركة إيني الإيطالية، المتواجدة في الإمارات منذ 2018، والتي تنشط في كل مراحل الصناعة البتروكيماوية؛ من التنقيب وتطوير وإنتاج البترول بمعدل 60 ألف برميل في اليوم، إلى تكريره. وقد عزّزت مكانتها بتوقيع اتفاقية جديدة مع نظيرتها الإماراتية “أدنوك” من أجل القيام بمشاريع للطاقة المستدامة.
إيطاليا مثل باقي الأوروبيين والأمريكيين؛ يعتمدون على الدول غير الغربية التي لم تطوّر الصناعات والخبرات لتزيد إنتاجها وإمكانياتها في التصدير. وفي هذا الصدد، كتب نائب رئيس “معهد الشؤون الدولية”، ميكيليه نونس في يونيو 2021 في أوج الأزمة بين البلدين: “{…} ولكن، بالطبع اعتقد أحدهم أن {الإمارتيين} يمزحون، ناسين أنّ حاجتنا إليهم، كمصدّرين للنفط وكمستثمرين، وكزبائن لمنتوجاتنا، أكبر من احتياجهم لنا، وفي هذه الأثناء، يوجد منافسونا في الطابور لأخذ مكاننا” .
وإن كان الأمر كذلك قبل سنتين فيمكننا تصوّر حاجة إيطاليا اليوم في ظلّ ارتفاع أسعار الطاقة أحيانًا إلى 500 في المائة، وتبقى الحكومة الحالية في حاجة أكثر من أي وقت سابق إلى مصادر بديلة عن تلك الروسية حتى تخفّف من الاحتقان الاجتماعي، ولكي تتمكّن من الصمود في التحالف الأوروبي ضد روسيا، التي تلعب على طول نَفَس الشعوب الأوروبية في تحمّل تبعات الحرب.
وفي ظلّ شحّ التصريحات الرسمية عقب هذه الزيارة، تبقى العديد من التساؤلات مطروحة حول مدى مصداقية إيطاليا كشريك اقتصادي؛ فهل قدّمت السيدة ميلوني ضمانات للوفاء بالاتفاقيات التي تمّ إبرامها؟ وما مآل المشاكل السابقة؟ أم أنها تودّ تجاوز الأزمة بين البلدين بدون حلّها فعليًا بمجرّد الهروب إلى الأمام، وكأنّ شيئًا لم يكن؟وكيفما كان الحال أتمنّى حظًّا أوفر لإشقّائنا الإمارتيين مع إيطاليا هذه المرّة.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.