كان الصهد في ليلة المنتصف من أغسطس العام 2022 يُنذر بليلة صيفية حارّة؛ إذ أوى عبدالهادي أمين، مزارع وتاجر مواشي يعيش في ولاية الجلفة بالجزائر، إلى فراشه باكرًا، برفقة أمه وابنه الوحيد، ولم تمر سوى ساعات قليلة حتى اشتد الأمر.
يصف أمين ما حدث في تلك الليلة بـ”شح السماء”؛ إذ ارتفعت الحرارة بشدة وتضرر اثنان من ماشيته بسبب الجفاف وشح المياه الذي تعاني منه الجزائر، وباتت هناك محاصيل لا يستطيع زراعتها مثل الأرز لاحتياجها إلى الغمر بالأمطار.
في مطلع العام 2022 صنف بيان أصدرته وزارة الموارد المائية الجزائر ضمن الدول الفقيرة من حيث المورد المائي، بسبب فترات جفاف طويلة ومتكررة، مع عجز في نسب التساقطات المطرية، موضحًا أن شح الأمطار بفعل التغيرات المناخية أثّر بشكل كبير على تزويد السكان بالمياه الصالحة للشرب، وقد برزت آثارها جليًا على 20 محافظة في البلاد.
اضطر عبدالهادي بعد خسارة اثنين من ماشيته وكميات من المحصول الذي لا يروى إلا بالأمطار الغزيرة، إلى الهجرة من ولاية الجلفة إلى قسنطينة بحثًا عن الأمطار والمياه ليحافظ على ما تبقى من ماشيته.
ما حدث لـ”عبدالهادي” يُعرف بالهجرة المناخية، وهي اضطرار السكان الأصليين في البلدان إلى مغادرة موطنهم الأصلي بسبب التغيرات المناخية في بيئتهم؛ إذ يشهد العالم هجرة داخلية وخارجية للسكان بسبب تغيرات المناخ الطاردة؛ سواء الجفاف وشح المياه أو الفيضانات والسيول والأمطار.
ارتفع عدد النازحين حول العالم إلى أكثر من 40 مليون شخص جراء الظواهر الطبيعية وتفاقم تداعيات ظاهرة التغير المناخي؛ خاصة ارتفاع درجات حرارة الأرض في عام 2020.
وتسبب ارتفاع درجات الحرارة في حدوث فوضى مناخية، فضلًا عن تفاقم تداعيات ظاهرة التغير المناخي، وفقًا لتقرير أصدره مركز مراقبة النزوح الداخلي.
الجفاف يحرم مربي المواشي من العمل
يوضح عبدالهادي لـ”مواطن” أن الجزائر تشهد منذ العام 2022 أكبر موجة نزوح داخلية نتيجة الجفاف، تحديدًا في المناطق الداخلية: “يتواجد عدد كبير من مربي المواشي والمزارعين، وهذه الفئة تأثرت بشكل كبير نتيجة الجفاف الذي بدأ منذ 7 سنوات وحتى الآن”.
أثر الجفاف على عدة مناطق داخلية في الجزائر، ربما نجت منه المناطق الشرقية (شمال شرق الجزائر)، بحسب عبد الهادي، ما دفع السكان إلى الهجرة نحو الشمال في مناطق قرب السواحل تعتبر أقل تأثرًا بالجفاف.
ثلث العالم مُهدد بتجريف التربة، وثلث أفريقيا مهدد بالتصحر وفق دراسة للأمم المتحدة خلال العام 2015.
تخلى عبدالهادي عن مهنته في تربية الماشية بعد انتقاله من ولايته بسبب عدم قدرته على تعويض الخسارة، وبدأ يبحث عن فرص عمل أخرى، إلا أنه لم يجد من حينها: “الوضع تتفاوت خطورته، لكن لاشك أن هناك عائلات تضررت بشكل واضح نتيجة الجفاف”.
يضيف: “بعض المربين مثلي غير قادرين على إيجاد وظيفة بديلة؛ ما يعني أنهم سيقعون تحت خط الفقر؛ لاسيما أن أغلبنا تمركز في قسنطينة أو سطيف أو باتنة أو العاصمة، وهناك هجرة من الريف إلى المدن نتيجة التغيرات المناخية أيضًا”.
11 دولة من أكثر 17 بلدًا افتقارًا للمياه في العالم، تقع في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بحسب اليونيسف.
لن يكون الخليج صالحًا للعيش في 2050 بسبب المناخ
لم يكن الخليج بمنأى عن ما يحدث في العالم من هجرة مناخية؛ إذ تعاني السعودية من التصحر، وفي بعض الأوقات من السيول المدمرة والتي أدت إلى النزوح والهجرة الداخلية للمواطنين، كان من بينهم سعود راكان، مواطن سعودي، كان يقطن في مدينة العيص شمال غرب المدينة المنورة.
في ديسمبر الماضي شهدت تلك المدينة وعدة مدن أخرى بالمملكة، أمطارًا، وغمرتها السيول التي وصفها المركز الوطني للأرصاد بأنها الأعلى في تاريخ جدة منذ عام 2009؛ إذ بلغت حينها 111 ملليمتر؛ بينما سجلت في 2011 نحو 90 ملليمتر.
دفع الأمر راكان بعدما غمرت المياه منزله وسيارته إلى النزوح من تلك المنطقة؛ لاسيما أن الأمطار استمرت عدة أيام: “كنت أعاني من قبل من أزمات التصحر والتي كانت عائقًا أمام عملي بالزراعة خلال الأعوام 2020 و2021، لكننا الآن نعاني أكثر من السيول”.
يوضح راكان لـ”مواطن” أنها ليست المرة الأولى التي تشهد فيها السعودية هطول أمطار غزيرة؛ ففي العام 2020 وقت الكورونا شهد طريق الهجرة جنوب المواريد سيولاً عارمة أدت إلى عمليات نزوح: “ديسمبر لا يمر بخير على السعودية بسبب كثرة الأمطار”.
يتوقع البنك الدولي ووكالة التنمية الفرنسية بحسب دراسة قاما بها، أن عدم انتظام هطول الأمطار والجفاف يمكن أن يؤدي إلى مزيد من الهجرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي.
بينما أوضحت وكالة “ناسا” في تقرير لها أن أجزاء كثيرة من منطقة الخليج لن تكون صالحة للعيش بحلول عام 2050 بسبب ارتفاع متوسط درجات الحرارة، وستواجه المناطق الصحراوية في السعودية بعضًا من أقسى تأثيرات الاحتباس الحراري، بما في ذلك موجات الحرارة الممتدة التي تستمر لأشهر وليس لأيام.
إزاء ذلك أطلقت المملكة عدة مبادرات للحد من التغيرات المناخية، منها: “السعودية الخضراء، لنجعلها خضراء، الشرق الأوسط الأخضر”، إلى جانب مبادرة زراعة 10 مليارات شجرة لإعادة تأهيل نحو 40 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة.
توضح الدكتورة عائشة القرشي الخبيرة العمانية في شؤون المناخ والحماية من الفيضانات، أن آثار التغير المناخي في دول الخليج تطول مختلف جوانب الحياة: “بعض دول الخليج مثل سلطنة عمان والمملكة العربية السعودية شهدت عواصف وسيولًا كان السبب الرئيس في حدوثها هو التغير المناخي الذي يؤدي إلى النزوح”.
العواصف والسيول التي وقعت في السعودية لم تقتصر عليها فقط، ولكن شملت دولاً خليجية مثل الإمارات وسلطنة عمان والكويت، وهي مشاهد باتت تتكرّر بكثرة في الآونة الأخيرة في منطقة الخليج.
نزوح مليون و200 ألف عراقي بسبب التغيرات المناخية
العراق ليس أفضل حالًا من السعودية والجزائر؛ فقد شهدت أكبر موجة نزوح داخلية نتيجة الهجرة المناخية بها وفق الدكتور علي البياتي، عضو المفوضية العليا لحقوق الإنسان في العراق، الذي يؤكد أن 20% من المحافظات الجنوبية بالعراق تخلت عن الزراعة، و30% من الأسر هاجرت من الجنوب نتيجة التغيرات المناخية.
يرى البياتي أن ملف الهجرة المناخية يواجه تحديات كثيرة؛ فهناك ما يقرب من مليون و200 شخص تضرروا من التغيرات المناخية في العراق وأصبحوا نازحين داخل موطنهم الأصلي خلال المواسم الماضية.
ويوضح لـ”مواطن” أن 25% منهم يعيشون في مخيمات غير رسمية، بينما الباقي يعيشون في مخيمات رسمية، مبينًا: “المخيمات غير الرسمية معرضة للهدم وفق التغيرات المناخية التي تمر بها البلاد؛ إذ يتوزعون في مناطق مختلفة في العراق، ولكن للتغيرات المناخية أثر سلبي عليهم باعتبار أن ظروف السكن الآدمية غير موجودة”.
ويصف وضع المخيمات بأنها عبارة عن مراكز مؤقتة للإيواء، لا يمكن أن تكون بديلاً سكنيًا، لكونها تفتقر لمتطلبات مواجهة التغيرات المناخية: “منها الأسقف في الشتاء والمكيفات في فصل الصيف”.
حذر البنك الدولي بأنه إن لم يتم اتخاذ أي إجراءات في العراق بحلول العام 2050 مع استمرار ارتفاع الحرارة بمقدار درجة مئوية، وانخفاض الأمطار بنسبة 10%، سيفقد هذا البلد البالغ عدد سكانه 42 مليون نسمة، 20% من مياهه العذبة.
أن مهاجري المناخ في كل تغير للمواسم يكونون بحاجة لمخيمات جديدة لا تفتقد لأبسط قواعد الحياة، بحسب عضو المفوضية: “الأزمة في أن المؤسسات الدولية بسبب الأزمات الاقتصادية الحالية سحبت تمويلها للمخيمات فأصبحت الظروف المناخية قاسية عليهم”.
ويختتم البياتي: “نسبة الهجرة المناخية في العراق مرتفعة وتزيد كل عام، ولا توجد سياسة دولية لإنهاء ملف النازحين بسبب المناخ، فلا بد من توفير سكن بديل لهؤلاء الأشخاص، ووضع حلول لإعادتهم إلى مناطقهم الأساسية وتوفير متطلبات الحياة”.
هاني يترك مهنته، وينزح داخليًا بسبب التغيرات المناخية
ترك هاني حرب، فتى مغربي، عمله الذي كان توارثه عن والده في مزرعة جبلية بوادي درعة جنوب البلاد؛ إذ ضرب الجفاف الأرض وجفت أشجار الزيتون والفاكهة التي تخصص في زراعتها.
يقول لـ”مواطن”: “مياه الأحواض جفت وعبثت التغيرات المناخية بالبلاد، وفقدنا الكثير من الثروات السمكية والزراعية، حتى إن المزارعين تركوا المهنة وقاموا بالعمل في مجالات أخرى، وبعضهم لم يجد فرص عمل أخرى”.
بعدما جفت مزرعة هاني نتيجة التغير المناخي والجفاف نزح إلى العاصمة الرباط، وعمل في مجال العمارة والإنشاءات مقابل أجر زهيد: “تحولت بعدما كنت صاحب عمل وملك إلى أجير؛ بسبب تناقص إمدادات المياه”.
أصبحت الزراعة في المغرب بحسب هاني مهنة محفوفة بالخطر وغير مضمونة المكسب، نتيجة التغيرات المناخية: “العام 2022 هو أسوأ موجة جفاف شهدتها المغرب أدت إلى نزوح المزارعين”.
الهجرة من القرية التي عاش فيها هاني لم تكن سهلة على الإطلاق بحسب وصفه، إذ ترعرع هنا وورث المزرعة والعمل بها عن أبيه: “واقع الحياة تغير للأقسى بعد الهجرة داخل الوطن؛ فالكثير من الآبار قد جفت ولا نملك موارد للهجرة”.
في فبراير أعرب وزير الفلاحة المغربي محمد صديقي، عن قلقه البالغ بشأن الجفاف، وتوقع أسوأ إنتاج زراعي في البلاد منذ عقود، بحسب حديث له مع وكالة الأنباء الأميركية “بلومبرغ”.
تحذر “باربورا سيدوفا”، الخبيرة الاقتصادية في معهد “بوتسدام” لأبحاث تأثير المناخ، من خطر عدم امتلاك موارد للهجرة تقول: “إذا كنت ترغب في الهجرة، تكون لديك حاجة إلى بعض الموارد للقيام بذلك، فهناك سكان محاصرون في مناطقهم ويفتقرون في الواقع إلى الموارد اللازمة التي تمكنهم من الهجرة”.
شمال أفريقيا الأعلى في الهجرة المناخية
محمد علي أبو نجيلة، المتحدث الرسمي باسم المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة الدولية للهجرة، يرى أن الهجرة المناخية تتضمن التغير المناخي والتدهور البيئي، وكذلك النزوح وإعادة التوطين والجمود.
يوضح تقرير البنك الدولي “العمل على الهجرة الداخلية للمناخ”، أنه بحلول عام 2050 وبدون اتخاذ إجراءات ملموسة بشأن المناخ والتنمية، يمكن أن يهاجر ما يصل إلى 216 مليون شخص على مستوى العالم داخل بلدانهم بسبب التغيرات المناخية (أحد عوامل الهجرة التي تزداد قوة يومًا بعد يوم).
وبين التقرير أن النزوح سيكون في ست من مناطق العالم سيضطر سكانها إلى النزوح داخل بلادهم، بينما التحرك السريع للحد من الانبعاثات العالمية قد يحد من نطاق الهجرة بسبب تغير المناخ بنسبة تصل إلى 80%.
وعلق أبو نجيلة على هذا الرقم لـ”مواطن” بأن 19.3 مليون منهم سيكونون في شمال أفريقيا وحدها بما في ذلك الخليج، موضحًا في الوقت ذاته إمكانية خفض أعداد الأشخاص الذين أجبروا على الانتقال بسبب آثار تغير المناخ بنسبة تصل إلى 80٪ من خلال إجراءات التخفيف والتكيف المناسبة.
أدت الكوارث المتعلقة بالطقس على مستوى العالم إلى نزوح 22.3 مليون شخص داخليًا في عام 2021 بسبب العواصف والفيضانات وحرائق الغابات والجفاف، وهي ظواهر متطرفة مرتبطة بتغير المناخ بحسب “أبو نجيلة”.
ويرى المتحدث الرسمي، أن أحد الحلول الهامة هو تطبيق الاتفاق المتعلق بالخسائر والأضرار الذي تم التوصل إليه في مؤتمر الأطراف 27 في مصر، لمعالجة قضايا التنقل البشري في سياق تغير المناخ: “يحدد تمويلات جديدة لمساعدة البلدان النامية على الاستجابة للخسائر والأضرار، والمساعدة لمعالجة الخسائر والأضرار للتغير المناخي لتجنب التشرد وتقليله إلى أدنى حد”.
وفي الوقت ذاته لا تؤيد المنظمة الدولية للهجرة التي يمثلها أبو نجيلة فكرة وقف الهجرة المناخية؛ لأن الهجرة يمكن أن تكون استراتيجية تكيف فعالة للناس في سياق تغير المناخ والتدهور البيئي إذا حدثت بطريقة آمنة ومنظمة ومنتظمة”.
تؤكد المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، إن الكوارث الطبيعية تجبر كل عام 21.5 مليون شخص على الفرار من ديارهم في جميع أنحاء العالم، متوقعة نزوح 143 مليون شخص بسبب ارتفاع منسوب مياه البحار والجفاف ودرجات الحرارة المرتفعة وكوارث مناخية أخرى.
أرقام صادمة عن الهجرة المناخية
وعلى صعيد بلدان العالم؛ فقد نزح 4.3 مليون شخص من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى بسبب الكوارث البيئية العام الماضي، و200 ألف شخص من الهند بسبب الأعاصير خلال يونيو، كما أن 80% من المواطنين الذين أرغموا على النزوح نتيجة المناخ كانوا في آسيا وأفريقيا وبعض دول الخليج خلال العام 2020 وفق مركز مراقبة النزوح الداخلي.
نزح في الصومال مليون شخص من ديارهم بسبب الجفاف، وفي النيجر هاجر 2.6 مليون شخص، وأكثر من 3.4 مليون نازح بسبب المناخ في بوركينا فاسو.
للهجرة المناخية آثار بالغة؛ منها ما سلطت منظمة “أوكسفام” الضوء عليه، بشأن المناطق التي تأثرت بشدة بالتغيرات المناخية في آخر تقاريرها لعام 2022، مبرزة أن الاحتباس الحراري يتسبب في حدوث المزيد من الظواهر الجوية القاسية ما يؤدي للهجرة.
ولازال عبدالهادي أمين يبحث عن عمل بعدما فقد ماشيته ومهنته كمزارع نتيجة الجفاف في الجزائر، بينما راكان لا يزال يتنقل في مناطق بالسعودية؛ تارة هربًا من السيول وتارة أخرى بُعدًا عن الجفاف، أما هاني حرب فاستمر في العمل بالإنشاءات مقابل أجر زهيد، في وقت يزداد فيه يوميًا أعداد مهاجرو المناخ ليضيفوا عبئًا جديدًا على العالم.