وأنا أقرأ في كتاب “معيد النعم ومبيد النقم” للإمام عبد الوهاب السبكي الشهير “بتاج الدين” (727 – 771 هـ)، استوقفني هذا النص الذي يعبر فيه عن رؤيته للتجسيم في الفرق الإسلامية المختلفة؛ حيث قال “وهؤلاء الحنفية والشافعية والمالكية وفضلاء الحنابلة ولله الحمد في العقائد يد واحدة كلهم على رأي أهل السنة والجماعة، يدينون الله تعالى بطريق شيخ السنة أبي الحسن الأشعري رحمة الله تعالى، لا يحيد عنها إلا رعاع من الحنفية والشافعية لحقوا بأهل التجسيم، وبرأ الله المالكية فلم نر مالكيًا إلا أشعريًا عقيدة، وبالجملة؛ عقيدة الأشعري هي ما تضمنته عقيدة أبي جعفر الطحاوي التي تلقاها علماء المذاهب بالقبول ورضوها عقيدة” (صـ 62)
وبتحليل عبارات الشيخ نراه يصف منتسبي ثلاثة مذاهب بأهل السنة الذين يعتقدون بتنزيه الله عن الجسمية، بينما المذهب الرابع “الحنبلي” يلحقه بكلمة “فُضلاء” مما يدل على أن التجسيم كان في الحنبلي مؤكدًا لديه، ومن خالف ذلك هم فضلاء، لكنه في ذات العبارة يشتم بعض منتسبي الحنفية والشافعية الذين خالفوه في مسألة الصفات ويطلق عليهم لفظ “رعاع”، علما بأن ادعاءه أن الحنفية على مذهب الأشعري خطأ، ويدل على رؤية عند أحد أكبر فقهاء الشافعية والأشعرية بحصر طريق السلف والفهم الصحيح للدين عند جماعته وأئمته؛ فالحنفية على مذهب الماتريدي الذي سبق وأن شرحناه هنا في مواطن، وأخيرا: يطلق الحكم في شأن المالكية أنهم جميعًا على مذهب التنزيه، علمًا بأن الرجل لم يكن مالكيًا بل على المذهب الشافعي كسائر أهل مصر.
إن عبارة تاج الدين السبكي كشفت أن مذهب التجسيم لم يُطلق على جماعة معروفة لها زعيم وقائد، أو تعرف نفسها بهذا اللقب، لكنها تهمة للآخر كتهمة التعطيل المقابلة لها؛ حيث درج الفقهاء الذين ينطلقون من الإثبات والجسمية على وصف مخالفيهم في مسألة “الصفات الخبرية” بالتعطيل، والعكس صحيح، أي درج الفقهاء الذين ينطلقون من التأويل والتعطيل على وصف مخالفيهم بالتجسيم، وعلى هذا الأمر كان التراث الإسلامي يشهد صراعًا عقائديًا كبيرًا لم يُعالَج حتى الآن، ولم تنحل ضفائره وعقده المتشابكة منذ قرون، في حين يتمترس كل فقيه وجماعة بتلال من الروايات والأخبار والفتاوى وترسانة هائلة من النصوص الموروثة عن أئمته، في صراع قد يراه البعض لفظيًا وهميًا، والآخر يراه حقيقيًا يستحق، لما له من أبعاد عقائدية خطيرة تهدم ثوابت الإسلام.
كانت المعتزلة أكثر طوائف المسلمين ثورةً على “التجسيم”، لعلمهم أن تجسيد الرب في صورة بشر هو عمل بدائي مما قبل العقل، ونوع من الوثنية موروث من الأسلاف.
مذهب التجسيم هو رأي في الفكر الإسلامي ظهرت به أفراد وجماعات اعتمدوا دليلًا خاصًا بهم في فهم الدين؛ وهو (النصوص)؛ فهم يقدمون النقل على العقل مطلقا ويرفضون تأويل الصفات الخبرية التي جاءت في القرآن والحديث لله تعالى مثل “الوجه واليد والساق والقدم والاستواء والعين والكف والأصابع.. وغيرها”. كذلك يرفضون تأويل صفات الحواس كالسمع والبصر والكلام وينسبون لله صفاتا مثل الضحك والملل والحركة والجلوس. وغيرها، فعمدتهم في ذلك هو (النصوص) فما جاء به النص هو حق، وبالتالي لا مجال للتفكر وإعمال العقل فيها، مما يستدعي وسائل أخرى يرفضونها، كالتأويل الذي ذكرت له معان مختلفة؛ منها “صرف اللفظ عن ظاهره، والحقيقة التي يؤول لها الكلام، أو المعنى المتضمن الخفي”
وكذلك يرفضون التفويض على نوعيه (الحقائق والمعاني)، وأحيانا يقبلون تفويض المعنى دون الحقيقة، فعندما يقول الله تعالى “يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود” [القلم: 42]، فهذا إثبات لصفة الساق لله. ولا يُفوّضون المعنى هنا الذي يدل على إثبات اللفظ وتفويض معناه وحقائقه للخالق، بالتالي فالتفويض هو إقرار من المسلم أو القارئ بجهله للمعنى والكيفية التي يتضمنها لفظ “الساق”، منعا للوقوع في فخ التجسيم والقول بتماثل الله والبشر، لكن المجسمة يرون علمهم بالمعاني والكيفيات، وبالتالي فالتفويض بدعة لأهل التعطيل فما أثبته الله لنفسه يجب إثباته حسب وجهة نظرهم..
وللعلم أكثر بالتجسيم فقد طرحت مُدخلًا له شهر سبتمبر الماضي 2022 بمقال على مواطن بعنوان “الدور الأموي في وضع وصناعة الحديث“؛ حيث جاء فيه: “ولأن أديان الرومان واليونان والمصريين كانت ترى آلهتها بشرًا أو محسوسات، كثرت الروايات بهذا الخط الفكري المشهور في التراث الإسلامي “بالمُجسّمة والمُشبّهة”، رغم تحذير القرآن من هذا الاتجاه الذي يساوي بين الله والبشر؛ سواء من حيث الشكل أو المضمون والقدرة. وأضيف هنا أنه يوجد مصطلح علمي يسمى “الأنثروبومورفيزم” Anthropomorphism، ويعني تشبيه غير الإنسان بالإنسان، وهو نزعة فكرية عند الأديان القديمة البدائية التي كانت تتصور آلهتها مثلها في الواقع، وأحفاد هؤلاء في الفكر الإسلامي هم جماعة المشبهة المذكورة الذين تكاثروا داخل مذهب الحنابلة بالخصوص نظرًا لطبيعته التقليدية الحرفية التي تؤمن بظاهر النصوص والروايات دون إعمال العقل في محتواها.
علمًا بأن المعتزلة كانوا أكثر طوائف المسلمين ثورةً على المذهب “الأنثروبومورفيزمي”، لعلمهم أن تجسيد الرب في صورة بشر هو عمل بدائي مما قبل العقل، وأنه نوع من الوثنية موروث من الأسلاف بفعل السياسة التي كان الحاكم فيها حريصًا على “أنسنة الإله” لإقناع الجماهير بقدسيته وقدسية حكومته؛ فالمعتزلة في الواقع كانوا مفكرين أحرارًا مقارنة بجماعة الحديث التي نشأت جذورها في العصر الأموي، والصراع الحقيقي بين هؤلاء المفكرين والمحدثين كان حول أمرين اثنين؛ أولاهما (التشبيه) وثانيهما (الجبر)؛ أي المذهب الجبري الذي أشاعه الأمويون لتشريع أفعال الأمراء دينيًا، وإقناع الجماهير أن السلطة من عمل الرب لا من عمل البشر –راجع مقالنا “أضواء على المذهب الجبري” على مواطن في شهر أغسطس الماضي)..انتهى
كذلك فالذي حمل البعض على نسب الحنابلة للتجسيم مذهب وأقوال أئمتهم الكبار كابن تيمية الحراني الذي قال في عدة مواضع: “إنّ الله ضحك إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنّة، وأيضًا قد ضحك حين دخل آخر رجل إلى الجنّة، فقال له الرجل: أتسخر بي، وأنت رب العالمين؟” (الإيمان صـ 230) وقوله أيضًا: “لا تزال جهنّم يُلقى فيها، وهي تقول: هل من مزيد؟ حتّى يضع ربّ العزّة فيها رِجْلَه، فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول: قط قط” (الرسالة الواسطية صـ 136)، وكذلك ما فعله ابن عبد الوهاب في كتاب التوحيد حيث قال: “إنّ الله جعل السماوات على إصبع من أصابعه، والأرض على إصبع، والشجر على إصبع، والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع، ثمّ اعتزّ الله وافتخر، وقال: أنا الملك، أنا الله، أين الجبّارون؟ أين المتكبّرون؟”
فابن تيمية وابن عبدالوهاب أجروا هذه النصوص الحديثية على ظاهرها ولم يسلكوا مسلك التفويض أو التأويل، وبذلك صاروا مبتدعة مجسمة وفقا لبقية المذاهب (أشعرية – ماتريدية – معتزلة – شيعة) الذي يعتمدون كُلًا من “التفويض والتأويل” في التعامل مع تلك النصوص باعتبارها من المتشابه الذي يجب رده للمحكم، فالمتشابه هو تلك النصوص التي أوردها ابن تيمية وابن عبدالوهاب على ظاهرها، والمحكم هو قوله تعالى: “ليس كمثله شيء وهو السميع البصير” [الشورى : 11].
ويحفظ الأشاعرة من ذلك شعرًا عن الإمام اللقاني في الجوهرة “وكل نص أوهم التشبيها * أوله أو فوض ورم تنزيها”. ودليلهم في ذلك حديث مرفوع للرسول عليه السلام، حيث قال: ” إنما نزل كتاب الله عز وجل يصدق بعضه بعضًا، فلا تكذبوا بعضه ببعض، فما علمتم منه فقولوه، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه). رواه الإمام عبد الرزاق في (المصنف) (11 / 216) وأحمد في (المسند) (2 / 195) وابن ماجه (1 / 33) والبغوي في شرح السنة (1 / 260)، فتكون عبارة (ما علمتم منه فقولوه) دليلًا على بيان معناه وهو التأويل، وعبارة (ما جهلتم فكلوه إلى عالمه) دليل على التفويض فيما لا يعلم معناه.
ولأن أديان الرومان واليونان والمصريين كانت ترى آلهتها بشرًا أو محسوسات، كثرت الروايات بهذا الخط الفكري المشهور في التراث الإسلامي “بالمُجسّمة والمُشبّهة”، رغم تحذير القرآن من هذا الاتجاه الذي يساوي بين الله والبشر
وعلى هذا النحو جرى الصراع الشهير بين الحنابلة والأشعرية في التاريخ، جماعة تثبت اللفظ وجماعة تسلك التفويض والتأويل، والأزمة تشتعل أحيانا في التفاصيل؛ فحين يقول الله تعالى عن المنافقين “نسوا الله فنسيهم ” [التوبة : 67]، فالله ينسى وفقًا لرأي الحنابلة لأن مذهبهم هو (ظاهر النص)، فيرد عليهم الأشاعرة أن الله لا ينسى كما قال في آية أخرى “وما كان ربك نسيًا” [مريم : 64]؛ فالحنبلي هنا وقع في التناقض حيث لا يمكن الإيمان بظاهر الآيتين لتعارضهما في الظاهر، وبالتالي فالنسيان في آية التوبة له معنىً مختلف يُعرف بالتأويل، أو يثبت اللفظ ويفوض معناه للخالق مثلما يفعل الأشاعرة، ولا يصلح قول الحنابلة هنا “نسيان ليس كنسياننا” مثلما قالوا “إن الله يضحك ليس كضحكنا، ولكنه ضحك بلا كيف أو يليق بجلاله”.
وعمدة رفض هذا القول عند الأشاعرة أنه غير مفهوم في العربية؛ فالضحك يجري في الواقع بالابتسام والقهقهة وبصوت وشكل محسوسين، فعندما تقول إن الله يضحك فيكون المعنى العربي أن الله يبتسم ويقهقه بصوت وشكل محسوس، وهذا تجسيم صريح، ودليلهم في ذلك أن الله يخاطبنا بما نفهم، فلو كانت تلك الصفة على ظاهرها وقع التجسيم والنقص في حق الذات العلية، وهو قول قد يصل حُكمه عند بعض الفقهاء إلى الكُفر، فلا حل غير التأويل مثلما نسب للبخاري تأويل صفة الضحك بالرحمة، إذن يصبح قوله ” يضحك ربنا” أو “ضحك الله إلى رجلين” أي رحمهما، كتعبير عن رضا الله عن الفعل، وليس المقصود هو الابتسام أو القهقهة، فهي من عوارض الأجسام والله مُنزّه عن الجسمية.
أذكر أنه وفي خضم هذا الصراع أن قال الأشاعرة مقولة مشهورة رفضوا بها الجسم والمكان بعبارة مختلفة وبليغة هي: (من أيّن الأين فلا أين له، ومن كيّف الكيف فلا كيف له)، وقالوا إنها منسوبة مرة للإمام عليّ ومرة مرفوعة إلى الرسول، وقد ذكرها بعض الأشاعرة الأوائل كابن عساكر وغيره، فيكون معنى الكلمة أن الله هو الذي خلق المكان فلا مكان له، وهو الذي خلق الأجسام فلا جسم له.
فاعترض الحنابلة وأشهرهم ابن تيمية الحرّاني كونه يرى الله في مكان العلوّ والفوق كما هو مشهور، ويراه جسمًا على أشكال مختلفة منها الشاب الأمرد، فأسهب ابن تيمية في رد العبارة وإثبات عكسها، وقد ورث السلفيون المعاصرون هذا التفكير من ابن تيمية؛ فقال بعضهم (إذا كان الله لا أين له ولا كيف له بناء على أنه الذي خلق الأين والكيف، إذًا فالله حسب الأشاعرة غير موجود لأنه الذي خلق الوجود)!!.
وبناء عليه اتهموا الأشاعرة بالكفر والإلحاد، فيرد الأشاعرة: أن هذا قياس غبي من ابن تيمية علّمه أتباعه وورثه التيار السلفي المعاصر، لأن ما استقر في العقيدة أن الله (واجب الوجود)، وكافة مخلوقاته (ممكنة الوجود)، إذًا فوجود الله أزلي وقديم مختلف عن الحادث والممكن، وعليه فلا يصلح هذا القياس إلا إذا كان السلفيون يعتقدون (بأزلية المكان) وبالتالي صار السلفي نفسه ملحدًا ويردد كلام الفلاسفة والزنادقة – حسب رأيهم – بقدم المادة، وأنها لا تُستحدث من عدم، وبالطبع السلفي لا يقصد ذلك: لكن قياسه الخطأ هو الذي أوقعه في ذلك المأزق.
ومن النقاط الهامة في فكر المجسمة إنكارهم للمجاز، فما جاء به الله والرسول هو حق على ظاهره دون معنى متضمن أو خفي
ومن النقاط الهامة في فكر المجسمة إنكارهم للمجاز، فما جاء به الله والرسول هو حق على ظاهره دون معنى متضمن أو خفي، ودائمًا يصفون من يؤمن بالمجاز على أنه مُعطّل جهمي تارة، وعلى أنه باطني تارة أخرى، ويستهدفون بهذه التهم كافة الفرق الأخرى كالأشاعرة والماتريدية والشيعة، ولشرح موقفهم من المجاز فالمجسمة يجمعون أمرين معًا، الظاهراتية الحرفية وتقديم النقل على العقل؛ فإذا ملك أحدهم شيئًا من ذلك ولم يملك الأخرى صارت لديه قدرة على نقد التجسيم وعدم تفسير النص بشكل ظاهري، مثلما حدث مع ابن حزم الأندلسي – وهو ظاهري – حين ردّ على من يقولون بإدراك وتمييز الأحجار في تفسيرهم قوله تعالى: “وإن منها لما يهبط من خشية الله ” [البقرة: 74]؛ فنسبوا القدرة والإرادة والتمييز للحجر كي يهبط وفي ذلك مقدمة لتقديس الحجر وفقًا لرأي من رفضوا هذا التفسير.
يقول الشيخ جمال الدين القاسمي في محاسن التأويل: “وقد ذهب بعض المفسرين إلى الاستدلال بظاهر الآية على خلق التمييز في الجماد حتى يخشى ويسبح. والمحققون على أن هذه الآية وأمثالها من المجاز البليغ، وأن الإطلاق لا ينحصر في الحقيقة؛ لاسيما وأن المجاز أكثر في اللسان منها، كما بسط في مطولات البيان، وقد رد الإمام ابن حزم في أول كتابه “الفصل” على من زعم أن للحيوان والجماد تمييزًا، ردًا مسهبا. وقال: من ادعى ذلك أكذبه العيان، ثم استثنى ما كان معجزة للأنبياء عليهم السلام ” (صـ 74).
والحديث عن المجاز يطول أكثر من ذلك لسعة المقام فيه وشدة الخلاف حوله، حتى من غير الحنابلة من أنكر المجاز في عدة مواضع ونسب لله صفات وأجزاء وحركة تؤدي إلى التجسيم، وقد قرأ الباحث حسام تمام فكر د. عبد الوهاب المسيري فنشر مقالًا في موقع إسلام أون لاين بعنوان “المسيري ونقد التفسيرات الحرفية للقرآن” قال فيه: “إن هناك لغات بسيطة واضحة كاللغة الرياضية لا تتناسب مع التعبير عن العلاقات الإنسانية؛ إذ لكي يفصح الإنسان أكثر لا يمكن أن يستخدم اللغة الرياضية الحيادية، ومن ثم يصير اللجوء للمجاز مهمًا في اللغة الإنسانية بسبب تركيبية الواقع، وهو ما يساعدنا على عبور المسافة بين النص والواقع ويحولها لمجال التفاعل
فالمجاز يجعل هناك قدرة على التعبير عن المركب واللا محدود، ويربط غير المعروف وغير المحسوس بالمعروف والمحسوس، والمعنوي بالمادي دون أن يمزجهما عضويًا فيصيرا شيئًا واحدًا. ويؤكد أنه من دون مجاز لا يمكننا إدراك الله الذي هو رب المحدود واللا محدود، وهو متجاوز (مفارق) للمخلوقات و”ليس كمثله شيء”؛ فالله موجود ولكن ليس وجودًا ككل الوجود، ونحتاج للمجازية في الحديث عن الله، فالسؤال: هل الله موجود هو سؤال علماني مادي لا يرى وجودًا إلا للمادة، ولأن الله لا يتجسد وهذا جوهر التوحيد، كان المجاز هو وسيلتنا في فهم وجوده سبحانه وتعالى.
ويقارن المسيري بين الإله في اللغة المجازية وبينه في التفسيرات الحرفية ليوضح خطورة هذا النوع من التفسير؛ فالإله في اللغة المجازية مدلول متجاوز مفارق لنا، مختلف عنا ولكنه لا يهجرنا بل يرعانا، وعلاقتنا به علاقة اتصال وانفصال، وهو متجاوز للتاريخ والواقع ولا يمكن تجسده أو تصويره، بينما هو في التفسيرات الحرفية يتجسد ويصبح مثلنا وعلاقتنا به علاقة اتصال والتحام وذوبان للمسافة، ويتجسد فينا وفي الدنيا وفي النص المقدس؛ فالمفسرون الحرفيون يرون أن القرآن هو الله، وبما أنهم قادرون على معرفة النص فهم قادرون على معرفة الله، ومن ثم فإن الله يحل فيهم! فبما أن النص عندهم يحوي التاريخ والعلم والواقع؛ إذًا يصبح الواقع والنص والإله شيئًا واحدًا! وهذا – برأي المسيري- هو النموذج الكامن الخفي وراء التفسيرات الحرفية التي ترى إمكانية الوصول للمعنى الكلي والنهائي من خلال معرفة النص والواقع والطبيعة”.. انتهى.
من دون المجاز لا يمكننا إدراك الله الذي هو رب المحدود واللا محدود، وهو متجاوز للمخلوقات و"ليس كمثله شيء
ومن النقاط الهامة أيضًا في فكر المُجسّمة هي خلطهم بين (الصفة والجزء)؛ فالألفاظ بالقرآن والحديث التي تقول “باليد والعين والقدم والساق. إلخ” هي أجزاء، والتي تقول “بالاستواء والنزول والمجيء والإتيان. إلخ” تعني حركة تلك الأجزاء، فهي بالأصل ليست صفات إنما درج العُرف على وصفها بالصفات اصطلاحًا، لكنها فجّرت خلافًا في العمق بين الفقهاء لعدم تحريرهم ذلك الخلط منذ البداية؛ فعندما يقول الله “قميص” فهو شيء مُدرك بالحواس عرفه الإنسان باللمس والبصر، بالتالي فلفظ “قميص” هو كائن قائم بذاته ومتفرد عن غيره، فهو إذًا ليس معنى لشيء آخر مختلف، فعندما نقول “قميص أحمر أو أصفر أو أخضر” هنا يكون الوصف للقائم بذاته، ولا يسمى اللون هنا جزء بل صفة، وهذا لا يتحقق في نسب الأعضاء لله ولوازم الحركة والأعراض.
وبرأيي لو تم تحرير هذا الخلط منذ أن قام الفقهاء بالتصنيف في مسائل العقيدة لتغير الفكر الإسلامي وما ظهرت فرق المجسمة بهذه السعة وذلك الانتشار، فالمجسمة أكثر من استفادوا من إطلاق الصفة على الجزء، وصار حديثهم مقبولًا من العوام الذين رأوا أن القدم صفة لله مثبتة بنصوص الدين، وليست جزء منسوبًا للرب وجب رده أو تأويله تبعًا لقاعدة التنزيه ونفي الجزء عن الله، وأذكر أن الإمام “تقي الدين السبكي” (683- 756هـ) في كتابه “السيف الصقيل” ذكر هذا الخلط وأشار إليه كأول إمام أشعري يلحظه ويتكلم فيه بهذه السعة
حيث قال: ” وهذه الأشياء التي ذكرناها هي عند أهل اللغة أجزاء لا أوصاف؛ فهي صريحة في التركيب، والتركيب للأجسام، فذكرك لفظ (الأوصاف) تلبيس، وكل أهل اللغة لا يفهمون من الوجه والعين والجنب والقدر إلا الأجزاء، ولا يفهم من الاستواء بمعنى القعود إلا أنه هيئة وضع المتمكن في المكان ولا من المجيء والإتيان والنزول إلا الحركة الخاصة بالجسم ” (1/ 175- 176)، علمًا بأن كتاب السيف الصقيل كان ردًا من السبكي على ابن قيم الجوزية (691- 751 هـ)، وعبارة السيف الصقيل تعبير أدبي في العنوان لدى السبكي يدل على شدة المواجهة وخروجها عن إطارها الفكري الموضوعي لصراع سياسي وعسكري في الظاهر ضد الحنابلة بدعوى التجسيم.
ويدعم قول السبكي أن المسلمين لا يتسمون بأسماء (عبد الساق – أو عبدالمقدم – أو عبد العين – أو عبد الوجه) مثلا، لما استقر في أذهانهم كبشر أن هذه أجزاء وليست أشياء قائمة بذاتها، وبالتالي هي ليست صفات يتسمى بها المسلم عبد الرحمن وعبد الرحيم لعملهم أن هذه أسماء حسني مشتقة من صفات الكمال الواجبة للخالق، وهو تصرف فطري للمسلمين – ولسائر البشر – يرى أن الساق واليد والعين هي مجرد أعضاء حسية لا معنى للانتساب إليها أو اعتبارها صفة؛ بل هي حوادث وأعراض للممكنات تعبر عن الفقر والنقص والاحتياج، بينما الخالق والرب منزه عن ذلك الفقر والنقص وهو واجب الوجود لا ممكن الوجود مثلما اتفق عليه في علم اللاهوت الإسلامي/ علم الكلام.
ويجدر بنا في هذا المقام أن نتحدث عن واحد من أهم فقهاء المسلمين ردًا على المُجسمة وعرضًا لأفكارهم؛ وهو الإمام “محمد زاهد الكوثري” الحنفي (1879 – 1952م)؛ فهو الذي علق على كتاب السيف الصقيل للسبكي وكتب كتابًا في ذلك بعنوان “تكملة الرد على نونية ابن القيم”، هاجم فيه ابن قيم الجوزية بشراسة وصلت للإشارة أن ابن قيم ليس مسلمًا بل من المُجسّمة الصرحاء، وتراث الكوثري يدل أنه كان يملك عقلية ثورية أعاد بها الاعتبار والقوة للمذهبين الأشعري والماتريدي في العقائد، وللتصوف وجاهته العلمية بعدة كتب ومصنفات أذكر منها مقدماته على “الأسماء والصفات للبيهقي” و “العقيدة النظامية للجويني”، وكلا العملين تقرير وإثبات على أشعرية البيهقي والجويني؛ فالرجل كان معتزًا بمذهبه ويجاهر بمعتقداته ولم يسلك رأي البعض في الحياد أو اختيار منهجي الرمز والإشارة خوفًا من سطوة المُجسّمة وانتقامهم، خصوصًا لما عرف عن هذا التيار عنف لفظي وبدني مشهور في التاريخ.
ومن النقاط الهامة في فكر المُجسّمة هي خلطهم بين (الصفة والجزء)؛ فالألفاظ بالقرآن والحديث التي تقول "باليد والعين والقدم والساق. إلخ" هي أجزاء، والتي تقول "بالاستواء والنزول والمجيء والإتيان. إلخ" تعني حركة تلك الأجزاء فهي بالأصل ليست صفات إنما درج العُرف على وصفها بالصفات اصطلاحًا
لكن الكوثري في هذا الكتاب لم يكن أقل عنفًا منهم، ومن عباراته ضد ابن القيم كثير من الاندفاع والتكفير أذكر منها مقالاته في المكتبة الأزهرية للتراث بعناوين “تخدير الأمة من دعاة الوثنية” و “فتن المجسمة وصنوف مخازيهم”، و أذكر منها أيضًا وصف كتاب النونية أنه “من أبشع كتب ابن القيم وأبعدها غورًا في الضلال، وأشنعها إغراءً للحشوية ضد أهل السنة، وأوقحها في الكذب على العلماء”.
وقال أيضًا “إن ابن القيم كلما تراه يزداد تهويلًا وصراخًا باسم السنة في كتابه هذا يجب أن تعلم أنه في تلك الحالة متلبس بجريمة خداع خبيث، وأنه في تلك الحالة نفسها في صدد تلبيس ودس شنيعين، وإنما تلك التهويلات منه لتخدير العقول عن الانتباه لما يريد أن يدسه في غضون كلامه من بدعه المخزية كما يظهر من مطالعة النونية بتبصر ويقظة، وإنما اختار طريق النظم في ذلك ليسهل عليه أن يهيم في كل واد”. وقال أيضًا: “لولا أنها (أي النونية) طبعت مرارًا وتكرارًا ممن لا بغية له من طبعها غير عدد من القرش يملأ به الكرش، قام بذلك الدين أم قعد، بدون أن يقوم أحد من العلماء المعاصرين بالرد عليها لكان إهمال الرد عليها أنسب، لكن لم يبق بعد تكرار طبعها مع تقاعس أهل العلم عن ردّها مساغ للإهمال، فوجب تقويض دعائمها بنشر كتاب السبكي مع تعليق عليه في مواضع رأيناها في حاجة إلى التعليق”. انتهى
خلاصة رأي الكوثري في ابن القيم أنه كان يراه مُجسمًا بل من كبار المُجسمين وزعمائهم، وأن كتاب النونية هو من أفحش الكتب والقصائد الشعرية التي نشرت التجسيم في الفكر الإسلامي، وعلى هذا النحو قلنا إن التجسيم تهمة وليس فرقة معروفة، بيد أن لابن القيم نفسه ردودًا على المجسمة، وكان يرى نفسه على مذهب السنة والجماعة، وما حدث بين الكوثري وابن القيم هو لمحة من المعارك الثنائية والصراعات البينية للفقهاء التي وصل مداها للتكفير ورمي الآخرين بالردة والمروق من الدين فقط لغياب الحوار آنذاك، وثقافة التواصل والتعايش؛ فكان مجرد أن تقول رأيك تصبح متهمًا على الفور، فابن القيم مثلما لم يحترم خصومه ويناقشهم بهدوء، وأقدم على تكفيرهم وذمهم في كتبه وشتمهم مرة بالمعطلة والجهمية، وتارة بالزنادقة، وقد فعل الأشاعرة والماتريدية معه نفس الأمر؛ فوُصفوه بالزنديق الكافر والمُجسّم الصريح .
أختم بحدث طريف يكشف عمق الأزمة الفكرية التي صنعها المجسمة في التاريخ الإسلامي، حين أقدمت بعض المطابع السلفية على طبع كتاب “العواصم من القواصم” للإمام “أبي بكر بن العربي” (468- 543 هـ) المالكي الأشعري، فحذفوا منه تكفير ابن العربي لإمامهم “أبي يعلي الفراء الحنبلي” (380 – 458 هـ)؛ فالمشهور أن ذلك الكتاب (كفّر) فيه ابن العربي كبير الحنابلة في زمنه بتهمة التجسيم والتشبيه لما قاله أبو يعلى في كتابه (الصفات)، وقد اطلعت على نسخ كتاب العواصم لدور نشر سلفية كدار الجيل ووزارة الأوقاف السعودية فلم أعثر على كلام المالكي في شأن أبي يعلى. وهو تزوير فاضح في مكتبات ودور نشر سلفية لكتب التراث بلا رقيب ولا حسيب.
الحكمة من نشر كتاب المالكي وقبوله من دور نشر سلفية أن هذا الكتاب كان يرد فيه الإمام “أبو بكر بن العربي” على مؤرخين وفقهاء نقلوا أخبارًا مسيئة للصحابة، وفيه تكفير للشيعة بالطبع، لذلك نشروه، لكن المالكي كان هجوميًا لم يفرق بين شيعي وحنبلي، فنشروا ما يخص تكفير الشيعة وحذفوا ما يخص تكفير الحنابلة. ومن الطريف أيضًا أن ما كتبه أبو يعلى في كتاب “الصفات“ وأدى لتكفير ابن العربي له، دفع حنابلة آخرين “كابن الجوزي البغدادي” (510 – 597 هـ) للرد عليه في كتاب “دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه”، لكن السلفيين لم يطبعوا كتاب ابن الجوزي أيضًا لهجومه على أبي يعلى ولشكوك حول انتساب ابن الجوزي للأشاعرة بهذا الكتاب، وهو ما يؤكد حدوث عملية تزوير واسعة للعقل الإسلامي قامت بها مكتبات ودور نشر سلفية أنفق عليها بالمليارات مع حذف وإضافة متعمدة ليخرج التراث موافقًا للمذهب الوهابي التيمي، وما زالت عمليات كشف التزوير تحدث تباعًا، والمطلوب هو تدخل الدول لوقف تلك المهازل التي تمس صميم عقل المسلمين ودينهم.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.