الفجري فنّ نقل من الجن للإنس، وصار صوت صائدي عيون البحر؛ هكذا تنبئُنا الأسطورة التي دارت حول فن الفجري، ثلاثة من الغواصين صائدي اللؤلؤ خرجوا في تمشية ليلية بعد يوم عمل طويل، فوجدوا في طريقهم مسجدًا وسمعوا أصواتًا غريبة تخرج منه، حين اقتربوا انهالت عليهم الحجارة، ثم صُدموا حين نظروا لأهل المسجد؛ فقد كانت نصف أجسادهم العلوية كالبشر؛ بينما أرجلهم أقرب شبهًا بالحيوانات، ساعتها استطاع أحدهم استجماع شجاعته وألقى السلام عليهم فردوا عليه السلام؛ فاطمأنت القلوب بالسلام ودعا بنو الجن بنى الإنس ليشاركوهم جلسة السمر بالموسيقى، بعد انتهاء السمر لم يسمح كبير المتسامرين من الجان للبحارة بالانصراف قبل أن يقسموا على ألا يخبروا أحدًا من البشر بتلك الأغاني، وإلا كانت عقوبتهم الموت. مع ذلك وجدت موسيقى الفجري البحريني طريقها إلينا؛ إذ أفشى السر البحار الثالث المتبقي بعد وفاة الاثنين الآخرين بعد الواقعة بسنوات، وبعد إفشائه للسر عاجله الموت بعدها بأسبوعٍ واحد.
تعكس الأسطورة دهشة ناقليها من تعقيد البنى الإيقاعية في فن الفجري، ومن تنوع الفنون كالرقص والإيقاع الجسدي والعزف والغناء التي لا تستقيم جلسته إلا بهما جميعًا، وكأن هذا الزخم يحتاج لرجال من الجن؛ كل منهم له أربعة أرجل، وليكن الفجري السر الذي يدفع كل من يبوح به حياته كثمن للإفشاء، السر الغالي هدية البحارة ينسجون به أغنيات معبرة وناقلة لتفاصيل حياتهم الشاقة في اصطياد اللؤلؤ، وحكمة العيش في البحر، ووحشة الأهل ومناجاة الله.
يعتبر الفجري فنًا تقليديًا بحريًا ووسيلة البحارة للترفيه عن أنفسهم في بداية وبعد انقضاء موسم صيد اللؤلؤ، وهو مختلف عن أغاني العمل التي كانت تعزف على متن السفن” البانوش”؛ إذ كان يمارس على الشواطئ في أبنية حجرية بسيطة سميت بالدور في البحرين وقطر، وسميت بالديوان في الكويت، يرجع البعض أصوله إلى صلوات المسيحيين الذين سكنوا جنوب الجزيرة العربية، وعندما جاء الإسلام نزحوا للعيش على شواطئ الجزر، بينما يرجع البعض الآخر الفجري إلى البحارة المستقدمين من شرق وغرب أفريقيا، والذين يشكلون إلى الآن جزءً من نسيج شعب البحرين، وقد حافظوا على تقاليد أجدادهم الموسيقية ومزجها مع النمط الثقافي السائد.
البناء الإيقاعي في فن الفجري
هذا المزج متعدد الأصول سمح للبحارة من تأسيس فنهم على أسس موسيقية فنية معقدة، ترنو لأن تكون سيمفونية مكونة من خمسة فصول منوعة موسيقية هي البحري، والعدساني ، والحدادي، والمخولفي، ، والحساوي، يراعى فيها الترتيب من الأثقل للأكثر خفة، بما يتناسب مع مضمون الكلمات التي عادة ما تنقل بشجن صورة صادقة لمعاناة البحارة والغواصين ومخاوفهم من مخاطر البحر ومشاعر الوحشة إثر طول الغياب وفرحة لقاء الأحبة، ويتخللها فواصل ذاكرة للفظ الجلالة تتوسل الأمان من الله وتهوين المهمة وسعة الرزق، وتشكره على سلامة الرجوع؛ إذ تصفها الباحثة مروة الكوهجي بقولها “يتشابك حزن الاشتياق مع فرح المغامرة، ويغلّف الشعور بالحنين إلى الوطن حالة من النشوة، وتحجب المخاوف بشأن ديون الموسم صلوات قلبية موجهة إلى الله.” وبشكل عامّ؛ فإنّ كلمات الأغاني البحرية مستمدة من الشعر العربي بشكليه النبطي والفصيح.
يؤكد أيضًا التنوع في طبيعة وأشكال الآلات التي تعزف بها ألحان الفجري، المزج الثقافي الذي نسج خلفيات موسيقيين هذا الفن، يعزف الفجري باستخدام الطبل البحري والطوس أو الصنج، بالإضافة إلى المرواس والطار والجحلة، تمتزج هذه الآلات والأدوات البحرية التي طورت لتكون آلات موسيقية من أجل عزف مقطوعات أساسها إيقاعي غني بالأصوات من الأشد حدة الى الأكثر غلاظة، تضيف توليفات الإيقاع للموسيقى روحًا هندية ممزوجة بالأفريقية وفقًا لبول روفنسغ أولسن الذي يتتبع في كتابه الموسيقى في البحرين، علاقة التاريخانية الثقافية لمهنة صيد اللؤلؤ على الموسيقى التقليدية البحرينية.
عيون البحر وأهله.. يحمون الفجري من الاختفاء
لما كان لأغاني الفجري وظيفة محددة ومعروفة في حياة أولئك المرتبطين بصيد اللؤلؤ أصل لهذا الفن في منطقة الخليج فكان يغني في البحرين، بالإضافة إلى دول الكويت والإمارات وقطر وشرق المملكة العربية السعودية، و تأثر فن الفجري بكافة الأحداث التاريخية التي خلخلت تواجد هذه المهنة حتى اختفائها، بدأت هذه التوترات عام 1893 عندما استطاع الياباني كوكيتشي ميكيموتو استزراع اللؤلؤ لأول مرة، وأصبحت بعد ذلك اليابان مصدرًا رئيسيًا للؤلؤ المستزرع، حتى إنها استطاعت أن تهيمن على 51.6% من الإنتاج العالمي للؤلؤ حتى الآن.
عام 1947 أعلنت الهند كجمهورية ، مما قضى على طبقة الحكام الأرستقراطية المعروفة بالمهراجات، والتي كانت المستهلك الأول في سوق اللؤلؤ، عام 1948 تداعى عدد سفن صيد اللؤلؤ البحرينية إلى 83 سفينة بعدما كانت حوالي 1500 سفينة في العام 1833. توتر آخر كان بيد الاحتلال البريطاني الذي دمر جزءً من أسطول الصيد البحريني أثناء محاولتهم للقضاء على نشاط القرصنة في الخليج العربي، كما قام بالتضييق الشديد على الدور الشعبية خوفًا من أن تكون حاضنة لأي نشاط سياسي مناهض للاحتلال البريطاني.
يعزف الفجري باستخدام الطبل البحري والطوس أو الصنج، بالإضافة إلى المرواس والطار والجحلة، تمتزج هذه الآلات والأدوات البحرية لعزف مقطوعات أساسها إيقاعي غني بالأصوات من الأشد حدة الى الأكثر غلاظة
كان من المتوقع أن تتوارى فنون الصوت والبحري والفجري؛ خصوصًا حسب قول الباحثة البحرينية هدى عبدالله” خلال حديثها مع “مواطن“: هذه الفنون كانت ممارسات مطلوبة أثناء الغوص ولم تقدم بمقابل مادي يدعم استمرار هذه الفرق، ولا حتى اعتدنا لأن تدخل كطقس في المناسبات الخاصة كالأفراح”، لكن الباحث المصري عمر الراوي صاحب كتاب نغم البحر يقول لـ”مواطن“: “الفجري فن ولد من معاناة الغواصين وما تعرضوا له من ظروف عمل قاسية: “لم يكن الغوص بأدوات وأنابيب كما هو الآن، ولكن الغواصين اعتمدوا على النفس الحر في النزول إلى الأعماق واصطياد اللؤلؤ والصعود إلى السطح، وبعد اكتشاف النفط وتغير شكل الحياة في دول الخليج توقف الغوص لوجود مجالات للعمل أكثر راحة وأمنًا وأكبر في عائدها المادي، لكن فناني الغوص لم يتركوا فنونهم للزوال”.
في البحرين مثلاً كان للفنان أحمد بوطبنية والذي تسع ذاكرته معظم الأغاني المنتجة، فضلاً عن سالم العلان الذي قيل عنه إنه أكمل الغناء رغم أن الطبيب حذره من العمى إذا ظل يغنى أغانيه التي تتطلب صوتًا قويًا يضغط على أعصاب الوجه، الفضل في الاستمرار في عقد جلسات لغناء الفجري فيما تبقى من الدور الشعبية”.
الدولة كحافظ للتراث
في السبعينات تبنت الحكومات الخليجية في معظمها عملية حفظ الفولكلور البحري، وتسجيله، وتوثيقه، وإعادة إنتاجه وعرضه، كعنصر من عناصر الهوية الثقافية، ظهر اهتمام من التليفزيون الخليجى في البحرين والكويت بهذا الفن، وسجلت بعض جلسات السمر التي غنى فيها فني البحري والفجري، يشيد بالمحاولات الجادة للحفاظ على هذا التراث الباحث البحريني جاسم بن حربان والذي أنشأ باسمه مركزًا للفنون التراثية، وأسس فرقة للغناء التراثي؛ ففي ورقته البحثية المقدمة في مهرجان التراث التاسع 2001 تحت عنوان ” قراءة حية لفنون الفجري” يكتب عن التجربة الإعلامية التي خاضتها دولة الكويت من خلال وضع برنامج أسبوعي لشرح وتقديم مقطوعات فن الفجري للجمهور، أما قطاع الثقافة بوزارة شؤون مجلس الوزراء والإعلام في البحرين؛ فقد أتاح لعديد من الباحثين خلال دورات مهرجان التراث الفرصة للكتابة والبحث والجمع والتوثيق للفنون التراثية، ومنها الفجري الذي خصصت له كافة الفعاليات الدورة التاسعة، كما تدرس موسيقى الفجري للأطفال في المدارس بمنهج يجمع بين الأداء الموسيقى وتاريخ الفن.
دمّر الاحتلال البريطاني جزءً من أسطول الصيد البحريني في محاولة للقضاء على نشاط القرصنة في الخليج العربي، كما قام بالتضييق على الدور الشعبية خوفًا من أن تكون حاضنة لأي نشاط سياسي مناهض للاحتلال.
في حديثه لـ“مواطن”، يلفت نظرنا الباحث البحريني جاسم بن حربان لثلاث تجارب غنائية حديثة استلهمت روح الفجري في إنتاجها” الأولى تجربة الفنان الكويتي عبدالله الرويشد الذي أصدر عدة أغان تختتم بتنازيل من الفجري، نقلت هذا الفن لجمهور الأغنية الخليجية التجارية، أما التجربة الثانية فكانت للفنان أحمد الجميري الذي نجح في وضع صيغ لحنية مقامية لنهمة البحر ملازمة لإيقاعات الفجري، ومزجها مع جمل لحنية حديثه، لم يكتف جميري بهذا؛ بل وضع على عاتقه جزءً من مسؤولية توثيق فن، وأطلق مشروعًا لتدوين جميع أنواع فن الفجري أما الثالثة فكانت للفنان مبارك نجم الذي استخدم الكثير من إيقاعات الفجري في بعض المسلسلات البحرينية منها البيت العود وفرجان لول وحزاوي الدار”.
هكذا يتحول الفجري من فن لتجربة في نقل وحفظ التراث، بدأت بإخلاص فنانيه لهذا الفن وتقديره، وبدعم الدولة لهم ولشباب المطربين وتشجيعهم على تأسيس فرق تستمد قواها من المشاركة في الاحتفاليات والمراسم الدولية كشكل معبر عن الهوية الوطنية لدول الخليج، مرورا بفنانين الخليج الرواد الذين اختاروا استلهام روح التراث في أغانيهم وتقديمه لجمهورهم الواسع، فضلاً عن الدور القوي الذي يلعبه الباحثون العرب وغير العرب في التوثيق والجمع وتحليل هذا الفن وتقديم رؤية نقدية وفنية له، إضافة إلى تدريسه للصغار وللشباب لينقل هذا الفن عبر الأجيال ليس بالسمع فقط وإنما بالدراسة والممارسة.
ربما تكون تجربة الفجري ملهمة لدول المنطقة العربية الغنية بمئات الفنون التراثية البصرية والموسيقية، والحاشدة لعشرات من العادات والتقاليد الثقافية، التي تتوارى غير قادرة على الصمود في وجه الحداثة التي نقلت إليها دول المنطقة وأحدثت تغيرات راديكالية في النمط الثقافي لكل من شعوبها.