قبل أن يبدأ الموسم الرمضاني الحالي بقليل، عُرض مسلسل “الثمن“، وهو نسخة عربية لمسلسل تركي، تحكي القصة عن رجل كاره للنساء، علاقته بهن ملتبسة بسبب تربية الأم الذكورية التي جعلت من خيانة زوجها مبررًا لزرع الحقد على المرأة في نفس طفلها، إلى هنا تبدو القصة غريبة، وتشد المشاهد الذي اعتقد أن الأحداث ستتحول بشكل تدريجي لتسلط الضوء على قضايا المرأة وكراهيتها وممارسة الاستقواء عليها باستخدام سلطة المال، وإخضاعها بسبب الحاجة.
إلا أن السيناريست التي عرّبت السيناريو التركي آثرت أن تخذل المشاهد العربي، فغيرت من الأحداث وحولتها إلى صراعات فردية لا ناقة منها ولا جمل، فأخذت المسلسل بعيدًا بلا مغزى ولا هدف؛ بل إنها قامت بتغيير الشخصيات تغييرًا جذريًا بشكل سطحي وسخيف؛ فالرجل الكاره للمرأة تحول بكبسة زر إلى عاشق محب، وتخلى عن أفكار زرعت في رأسه عمرًا كاملاً في ظرف أيام، وهذا لا يمكن أن يحدث على أرض الواقع؛ فحرمتنا من صراعات داخلية كان لا بد للبطل أن يشعر بها ويعايشها ويتغلب عليها بالتجربة الطويلة والنضج.
من الغريب ألا يجد الكاتب العربي في مشاكل المجتمع مادة يطرحها من خلال قصته، بينما المشكلات تتراكم وتهدد بالانفجار، مما يطرح تساؤلات عن دور الكتابة والفن في التوعية، وهل هناك ما يمنع من الترفيه مع التوعية في آن معًا؟ وهل الكتاب الموجودون على الساحة اليوم مؤهلون لهذا الدور؟
لا شك أن الكتاب الجيدون موجودون، لكنهم لا يستطيعون الوصول. الكتابة نفسها أصبحت عملاً مرهقًا ومكلفًا؛ فالكاتب الجديد يضطر لدفع ثمن طباعة كتابه إن لم يكن معروفًا، ولهذا نجد الأسواق ممتلئة بالكتب التي لا قيمة أدبية أو فكرية فيها سوى أن صاحبها امتلك ثمن الطباعة وأراد أن يضيف لقب كاتب أو مثقف لاسمه.
أصحاب القرار اليوم هم صُنّاع الترفيه، لا يهمهم معالجة قضايا المجتمع أو توعيته، الأهم بالنسبة لهم هو نسب المشاهدة التي تقترن بالإعلانات، ولا أستبعد تدخلهم في ورش الكتابة نفسها، لجعل العمل يظهر بشكل أكثر إبهارًا حتى ولو كان على حساب القصة أو الحبكة أو الهدف.
يذكرنا موسم الدراما الرمضاني كل عام بالدراما والسينما في زمن العظماء، المسلسلات المصرية التي أثرت في تكويننا وتنشئتنا بما فيها من عمق الكتابة وواقعية الإخراج، لم يكن المسلسل للترفيه فقط؛ بل كان مصدرًا للتنوير والمعرفة، يضع فيه الكاتب الذي غالبًا ما كان أدبيًا زبدة حياته وتجاربه وقراءاته، فنخرج من الحلقة وقد اكتسبنا معلومة وفكرة وطريقة عميقة للحوار. أما الأفلام فكانت تسلط الضوء على قضايا المجتمع الهامة، وترصد كل تراجع وتحلله، ومنها قضايا المرأة، ولا يخفى على أحد أن بعض الأفلام استطاعت خلق حالة جدل أدت إلى تغيرات في القوانين أكثر إنصافًا، ومنها فيلم “أريد حلاً”، بطولة فاتن حمامة الذي ساهم بتغيير قوانين الأحوال الشخصية، فيما يتعلق بالخلع والطلاق، وفيلم “عفوًاأيها القانون” لنجلاء فتحي الذي يتطرق للازدواجية التي يتعامل بها القانون مع المرأة والرجل في حال جرائم القتل بسبب الزنا .
تغير الحال منذ أكثر من عقد من الزمن؛ فبدلاً من أن يكون للفن أثر في التطور والتحضر، أصبح له يد في التراجع والتقهقر والتخلف، باستثناء بعض الأعمال الفنية الجديدة التي تركت أثرًا وحصدت جوائز. فإننا أمام حالة تدهور عام بدأت قبل أكثر من عقد من الزمن، ولا يمكن هنا أن ننسى أثر مسلسل باب الحارة على البيوت العربية، لقد أعاد المسلسل الألق لزمن كان قمع المرأة فيه هو السائد، وقدمه بطريقة خيالية لا تحاكي الواقع، فضخّم الرجل ودوره وقدمه بصورة أشبه بالأسطورة، ووضع هذه الصورة في إطار القوة والحكمة، حتى رغبت الكثير من النساء بهذه النسخة المضخمة، وغضت النظر عن تقزيم المرأة وقمعها، وبسبب نجاح الجزء الأول من المسلسل أنتجت أجزاء أخرى، ومسلسلات تحاكي نفس الأفكار لم نخرج من آثارها السيئة حتى الآن .
لقد خلقت هذه المسلسلات حالة من المفاهيم المغلوطة، فجعلت الرجل السام المعنف رجلاً قويًا، والمرأة الخاضعة أنثى محببة
أما على صعيد الدراما المصرية فقد ارتكبت جريمة بتقديم صورة البلطجي العادل، وقدمت تعريفًا جديدًا للرجولة، الرجل الذي يخرج عن القانون ليحصل على حقه وحق الضعفاء، وهو نفسه ينظر للمرأة بتعالٍ في حياته؛ فيعتبرها ملكية شخصية، ويعطي لنفسه الحق بممارسة العنف عليها بمبرر الغيرة، ويهدد من يحاول الاقتراب منها، وهذه الصورة تكررت في الدراما اللبنانية السورية أيضًا، هذه الرجولة المفرطة أصبحت مقصدًا للشباب العربي، والفتيات المتأثرات بشخصيات المسلسلات والكاريزما غير الموجودة في الواقع، ولعل أفضل مثال على هذه الأعمال مسلسلات محمد رمضان وتيم حسن الذي حصر نفسه لسنوات في إطار صاحب الكاريزما المحببة للفتيات والخارج عن القانون في نفس الوقت.
بل إني أذهب إلى جعل هذه الدراما سببًا من أسباب تزايد العنف ضد المرأة الذي شهدناه في السنوات الأخيرة؛ خصوصًا جرائم القتل بسبب الرفض، والتي راح ضحيتها شابات في عمر الزهور، لقد خلقت هذه المسلسلات حالة من المفاهيم المغلوطة، فجعلت الرجل السام المعنف رجلاً قويًا، والمرأة الخاضعة أنثى محببة، ولا يخفى على أحد إعجاب الفتيات بشخصية “زين” في الحلقات الأولى، عندما كان كارها للنساء لا يبالي بمشاعرهن، وتراجع شعبيته عندما أصبح رقيقًا محبًا.
يعاني الكثير من الرجال العرب من عدم القبول، بعضهم يملك فكرًا مستنيرًا وعقلاً راجحًا، لكنه لا يملك تلك الصورة التي روجها الإعلام للرجل؛ فهو لا يقطع الطرق ولا يعنف النساء، ولا يستقوي على الضعيف، ولا يستعرض عضلاته أمام القوي، هو رجل عادي بكل ما تحمله الكلمة من قوة وهشاشة ومشاعر، هو إنسان يعيش تجارب الحياة ويتعلم منها بعقلانية، قد يكون لطيفًا دمثًا وخلوقًا محبًا، رجلاً يحب المرأة ويحترمها؛ هذا هو الرجل القدوة الذي يجب أن يحظى بالبطولة في الدراما وحياة النساء، وهذا هو الرجل الذي يستحق أن يكون حبيبًا وزوجًا وصديقًا وشريك حياة، وبطلاً في مسلسلاتنا وأفلامنا .
المجتمعات التي تفيض بالمشكلات لا تحتاج للتسلية وقتل الوقت؛ بل تحتاج لكل منصة تحظى بالمشاهدة للتوعية والتثقيف المقترن بالترفيه
لا يمكن نسيان أثر الغناء والموسيقى في العقد الماضي في تسخيف وتسطيح الشاب العربي؛ فكلمات الأغاني لم تعد بحاجة لشاعر، وأصبحت تفيض بالذكورية والسطحية، سقف الذوق أصبح منخفضًا، وضاعف الفقر وسوء التعليم أثر هذه الثقافة، وهذا لا يعني أبدًا أن الساحة خلت من الغناء الجميل والموسيقى الراقية، لكن الإقبال عليها أصبح ضعيفًا بسبب الجو العام والتراجع الفكري والثقافي ومخرجات التعليم السيئة.
لكن هناك دائمًا صورة مشرقة، ونصف ممتلئ من الكوب يستحق أن نسلط الضوء عليه، وللكاتبة المبدعة مريم نعوم الحصة الأهم من هذا النصف، كعادتها في كل عام تقدم لنا أعمالً موغلة في الواقع، وتشرّح مشكلات المجتمع تشريحًا دقيقًا، فينظر كل منا للمشاهد ليرى نفسه في مرحلة من مراحل حياته، ويستمع صوته في الحوارات العميقة، غير آبهة بنسب المشاهدة وتصنيف منصات السوشال ميديا، وهذا العام أبدعت في سرد مشاكل الزواج وظروفه في مسلسل “الهرشة السابعة“.
الفن كان وسيبقى شريكًا أساسيًا في معارك التوعية، لكن الفن الذي لا تظلله الحرية أعرج، المجتمعات التي تفيض بالمشكلات لا تحتاج للتسلية وقتل الوقت؛ بل تحتاج لكل منصة تحظى بالمشاهدة للتوعية والتثقيف المقترن بالترفيه، وهذا لا يحصل في أجواء الاحتقان واحتكار الفكر ونقص الحريات؛ فالفن ليس أداة بيد جهة لنشر أفكارها، ولا يجب أن يكون أسيرًا للإعلانات والمال، الفن حر لا تكبله قيود ولا تخنقه رقابة، أو هكذا يجب أن يكون.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.