العمارة هي مرآة الأمم، والمعبر الأبرز لما وصلت له من معارف وعلوم، تعددت أنماطها واختلفت طرائق التعبير بها وعنها من حضارة لأخرى ومن أمّة لأخرى، مثلت العمارة المجتمعات بشكلين؛ أحدهما حقيقي والآخر متخيل، تبانيت الرؤى حول مدى تأثيرها؛ فلقد ارتبطت بالهوية مرّة وانفصلت عنها في أخرى، كانت هي الصفحة الأبرز في كتب التاريخ، والوجه الأول للدول الناشئة.
في العمارة ليس من الضروري أن ينجح كل مبنى في أداء وظيفته، لذا من المهم أن يكون هناك نقد معماري يبحث في مضمون فلسفتها؛ فللعمارة تقاطعات كثيرة سياسية واجتماعية وأخرى اقتصادية، ربما تراعي إحداهن وتتجاهل أخرى، والتاريخ واجب حتمي كمدخل لفهم تلك التقاطعات؛ إذ إن الأهم من كتابة التاريخ هو كيف كتب هذا التاريخ، وما حيثياته التي كتب فيها.
شغف العمارة يجمع كل هذا ويهضمه، ثم يخرجه في صورة مقالة أو كتاب أو نقد لمبنى، يتفق حولها الناس ويختلفون، لكنهم يدركون ضرورة وأهمية هذا، الدكتور ناصر الرباط أحد هؤلاء الفلاسفة المعماريين الذين راعوا طبيعة كل هذا تلك التقاطعات وأنتجوا نقدًا وكتابة عليها.
ناصر الرباط هو مؤرخ ومعماري من مواليد دمشق يعمل كأستاذ ومدير لبرنامج الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، وهو مهندس معماري ومؤرخ تشمل اهتماماته العلمية التاريخ وتأريخ العمارة الإسلامية والفن والثقافات والتأريخ الحضري، ونقد ما بعد الاستعمار والاستشراق، له عشرات والكتب الأبحاث المحكمة المنشورة بعدة لغات، ويساهم كذلك في العمل الميداني كمستشار لمشاريع معمارية وعمرانية في المنطقة العربية.
التقت “مواطن“ د. ناصر الرباط وكان معه هذا الحوار الذي نستكشف فيه مضمون أعماله وكتاباته حول العمارة والتاريخ وفلسفتهما وانعكاسهما على النهضة الخليجية الراهنة.
في البداية دكتور ناصر وأنت أستاذ كرسي الآغا خان للعمارة الإسلامية في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، أود أن أسألك كيف قادتك الأقدار إلى دراسة وتدريس العمارة؟
الموقف الحِدي من الأمور والنقاش ضد التيار السائد، كانا السبب الرئيسي في دخولي مجال العمارة. نشأت في سوريا في مجتمع الغلبة فيه للطب والهندسة كتخصصات للمستقبل، وكل ما عدا ذلك كان أقل قيمة، كان عليَّ أن أتحدى هذا. نشأت في عائلة تحب العلم والتعليم وأثر فيَّ هذا بشكل كبير، لذلك أدخلوني في أفضل مدارس دمشق في هذا الوقت، وهي المدرسة الفرنسية، وكنت تلميذًا متميزًا فيها ومن الأوائل دائمًا.
جمعت في البكالوريا مجموع الطب، لكن رغبتي بمهنة أكثر تعبيرًا وفنًا جعلني أفكر في مجالات أخرى، في البداية كنت أفكر في دراسة الفنون الجميلة، لكن أهلي كانوا متخوفين من مستقبلي كفنان؛ فاتفقنا على حل وسط، فيه الفن والعلم في آن واحد، وهو أن أدخل الهندسة المعمارية.
في هذا الوقت -سبعينات القرن الماضي- كانت بدايات الانهيار لجامعة دمشق، لكن لغتي الفرنسية ساعدتني كثيرًا في الجامعة لسبب رئيسي؛ وهو أن الجامعة كانت تمتلك أساتذة فرنسيين، وغالب الطلاب لا يتحدثون الفرنسية، ولم تمتلك الجامعة مترجمين، وكانوا يستخدمون الطلاب الذين يعرفون الفرنسية -وكنت أنا منهم- في الترجمة والتواصل بين الأساتذة الفرنسيين والطلاب، مما جعل المترجمين يقضون غالب الوقت مع الأساتذة ويستمعون لهم بشكل مركز.
ساعدني هذا أن أتعلم أكثر عن التفكير في العمارة، لكن في الحقيقة كان تفكيري نظريًا أكثر، وأحببت أن أتعمق أكثر بطرح أسئلة أكثر ارتباطًا بالمجتمع والمدينة، برغبتي دائمًا في تحدي الوضع القائم، تحدي الموضوعات الاجتماعية، تحدي طرق التعامل الاجتماعي، تحدي العلاقات بين الرجال والنساء في مجتمعاتنا.
في هذا الوقت كانت لدي رغبة ساذجة كحال معظم الشباب في تغيير العالم، لكن الاكتشاف الأكبر بالنسبة لي كان في صيف السنة الثالثة للجامعة، عندما كنت في باريس -في هذا الوقت كانت الحكومة السورية جائرة، ومسألة سفر الشباب للخارج تعتبر معجزة؛ حيث يتم استخراج باسبور لفترة مؤقتة لمدة 3 أشهر فقط- زرت في تلك الزيارة المتاحف في باريس وتثقفت بالثقافة الفنية الفرنسية، وأثناء زيارتي للمكتبة اكتشفت شخصًا لم يكن لدي علم به من قبل، وهو حسن فتحي، كان عنوان الكتاب الذي اطلعت عليه Construire avec le peuple “البناء مع الشعب”.
وبما أن توجهاتي في هذا الوقت كانت اشتراكية، قمت ساعتها بشراء الكتاب، وضعته على رف مكتبتي ولم أقرأه. في السنة الرابعة طلب منا مشاريع تخرج، فكر معظم الطلاب في إقامة مشاريع تقليدية مثل مركز ثقافي ومدرسة أو مبنى لنقابات العمال.. إلخ. لكني كنت دائمًا متحديًا.
وفي ليلة من الليالي، تناولت كتاب حسن فتحي من على الرف وبدأت في قراءته، وجدت فيه مبتغاي في فكرة المشروع، لأن الكتاب كان يجيب على إشكالية تعليم الفقراء والفلاحين وكيفية تحسين مستوى محيطهم المبني. أتذكر أني قرأت الكتاب حتى الصباح في شرفة منزلنا بدمشق حتى فوجئ بي والدي عندما استيقظ لصلاة الصبح ووجدني أقرأ الكتاب. كان الكتاب بالنسبة لي مفاجأة كبيرة، وكنت في قمة سعادتي، لأنني اكتشفت حينها ما الذي أريده أن أكونه في حياتي، وهو أن أكون مثل حسن فتحي. قررت أن يكون مشروع تخرجي إقامة قرية مبنية بطرائق حسن فتحي في استخدام عمارة الطين في محيط دمشق.
في هذا الوقت كانت علاقتي قوية بالجاليات الأجنبية في دمشق، وفي إحدى الحفلات تعرفت على أحد الأشخاص في المركز الثقافي الأمريكي، وقادنا الحديث للتحدث عن عمارة الطين، ساعتها عرفت منه أن هذا المجال رائج جدًا في الولايات المتحدة الأمريكية؛ حيث خصصت له مجلة كاملة اسمها Adobe، استعرت النسخ القديمة منه، وبدأت ساعتها أتعرف بشكل أوسع على مفهوم Passive solar energy وهي استخدام العمارة في تدفئة وتهوية البيوت. لم يكن أحد يعلم أي شيء عن هذا المفهوم في سوريا هذا الوقت.
وعندما قدمت مشروعي بناء قرية تستخدم الطاقة الشمسية، انقسم أساتذتي بين طرفين، الأول مؤيد للفكرة والثاني هاجمها هجومًا شديد جدًا، بحجة أنني شخص برجوازي يحاول أن يبرجز الفلاحين، كانت تلك حقيقة بالفعل أدركتها مؤخرًا، بعد 20 سنة رأيت أن جزءً كبيرًا من الانتقادات الموجه لحسن فتحي كانت شبيهة بتلك الانتقادات التي وجهت لي في هذا الوقت.
بسبب تلك البيئة التعليمية، فضلت أن أسافر خارج سوريا، لكن واجهتني مشكلة أخرى؛ وهي أن الدولة السورية كانت تمنع سفر الشباب باستثناء العشرة الأوائل الذين كان لهم الحق في السفر لاستكمال التعليم خارج سوريا، لذلك كان علي أن أجتهد في السنة الأخيرة، بالفعل حصلت على المركز الرابع وكان لي الحق قانونًا السفر للدراسة، قررت بسبب ثقافتي الفرنسية أن أسافر لأوروبا، لكنهم كانوا متعالين ولم يعترفوا بشهادة دمشق.
وبفضل تلك الصدفة التي جمعتني بمجلة Adobe والمركز الثقافي الأمريكي، بدأت بالتعرف على الجامعات الأمريكية وعرفت أن UCLA فيها مركز لدراسة Passive solar energy، وقدمت على تلك الجامعة وعلى جامعات الأمريكية الأخرى، وقبلوني في UCLA وجئت إلى لوس أنجلوس.
بدأت أدرس من خلال هذا البرنامج البيوت ذات الباحات في دمشق في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، وفي عطلاتي كنت أزور تلك البيوت في دمشق، وبدأت أهتم بالتاريخ، وتعرفت على Irene A. Bierman أستاذة تاريخ الفن في UCLA التي نصحتني بأن أدرس PHD عن العمارة الإسلامية مع Oleg Grabar، وأخبرتني ببرنامج الآغا خان للعمارة الإسلامية في Harvard وMIT. بحثت عن رقم هاتفهم -الذي هو رقم هاتفي الآن بالمناسبة- واتصلت بهم صباح يوم سبت وأخبرتهم برغبتي في دراسة PHD في العمارة الإسلامية، لكني عرفت من مدير البرنامج الذي صادف وجوده في المكتب يومها أنه يجب عليَّ أن أُقبل أولاً في إحدى الجامعتين، Harvard أو MIT، ومنه يكون برنامج الآغا خان ممولًا لدراستي. وهذا ماحصل؛ إذ تم قبولي بعدها في MIT بعد جهد كبير مني على مدار ستة أشهر.
جئت إلى القاهرة في يولية 1985 بمنحة من برنامج الآغا خان لدراسة العمارة العثمانية في القاهرة موضوع الـ PHD الذي كنت أنوي العمل عليه، اتجهت إلى ليلى إبراهيم التي كانت تُدّرِس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة بتوصية من Oleg Grabar، وعرضت هي علي مرافقة فريقها في جولاتهم في القاهرة التاريخية. بدأت أتجول في شوارع القاهرة يوميًا، مذهولًا من روعة العمارة المملوكية، جئت إلى العمارة العثمانية لكني فتنت بالعمارة المملوكية.
رجعت إلى Oleg Grabar وأخبرته أنني لا أعلم إلى الآن موضوع أطروحة الدكتوارة الخاص بي، لكني متأكد من أنها ستكون عن القاهرة المملوكية.
تعلقت بحسن فتحي في بداية حياتك كثيرًا كيف تراه الآن؟
أراه بنظرة أكثر نقدية الآن بطبيعة الحال، ليس النقد الطبقي الذي طُبق ضده كونه أرستقراطيًا لا يعلم طبيعة حياة الفقراء والفلاحين والذي تجاوزه الزمن مع كونه صحيحًا.
إنما نقدي لحسن فتحي الآن نابع أكثر من منظور معماري أوسع؛ وهو ظاهرة ما أطلق عليهم الأنبياء المعماريون. “سذاجة توقع أن العمارة هي الحل لمشاكل اجتماعية وبيئية واقتصادية عويصة ومعقدة”، لأنه مع التعمق في الشخصية الإنسانية أو في الظروف الإنسانية تجد أن العمارة هي ناتج وليست مسببًا، ولكي نصل إلى عملية عمارة قادرة على الاستجابة لمناحي حياة الفقر والتلوث وما شابه ذلك، لا بد أن تكون العمارة جزءً من منظومة أكبر منها، والتي بطبيعة الحال تكون جزء من منظومة سياسية وفكرية اجتماعية.
إن العمارة كعمارة لا تقدم حلولًا لمشاكل مجتمع، العمارة دائمًا تكون جزءً من الحل التي يجب أن ينظر إليه المرء كتفتيش عن حلول لمشاكل اجتماعية.
هناك نوع من السذاجة الطوباوية في العمارة، حسن فتحي يمثله بطريقة ممتازة، وهو هذا الاعتقاد بأن العمارة من الممكن أن تكون حلًا بدون التطرق إلى المشاكل السياسية والاجتماعية الأكبر ،وبالتركيز فقط على المواد والكلفة والجمال والتراث والحرفية وما إليها.
لهذا فشل مشروع قرية القرنة بمدينة الأقصر؟
فشلت الفكرة بشكل عام وليس في قرية القرنة فقط لأسباب اقتصادية وسياسية بشكل كبير؛ فشلت على سبيل المثال في القرنة حيث كان الهدف من عمارة القرية تحسين حياة الفلاحين، لأن المصمم والممول (أي الدولة في هذه الحالة) لم يتطرقا إلى عملية كون سكان القرية مهربي آثار بالدرجة الأولى.
لذا فإن بناء القرية بعيدًا عن الجبل الذي يحتوي مقابر الفراعنة منعهم من الاستمرار في تجارة الآثار. لم يعد أحد منهم يمتلك القدرة على التنقيب عليها بالحفر أسفل بيوتهم أو التكسب من ورائها؛ حيث وضعتهم القرية الجديدة في منطقة مختلفة عن بيئتهم التي نشأوا فيها.
لهذا السبب في رأيي أن المعماري كفرد لا يستطيع تقديم الحل الكامل. الحل لا بد أن يكون بين مجموعة مشتركة من المصممين والمخططين، لا بد أن يكون فيها الاقتصادي والمؤرخ، وأحيانًا الفيلسوف وعالم الاجتماع الذي يفهم طبيعة المجتمعات، وعالم السياسة كذلك الذي يحدد كيفية التعامل مع الدولة.
انتقادي لحسن فتحي ليس انتقادًا لشخص حسن فتحي أو لإخلاصه المبهر لرسالته كمصلح، بقدر ما هو انتقاد لمهنة العمارة التي تظن نفسها حتى الآن أنها قادرة على أن تخلق المعجزات. وهذا بحقيقة الأمر نابع من من تحول العمارة تاريخيًا في القرن الخامس عشر من حرفة إلى مهنة فكرية، عندما ابتدأ المعماريون في فلورنسا وفي أماكن أخرى في العالم يكتبون وينظرون عن أنفسهم. ليس فقط كونهم ينحتون الأحجار ويرفعون الأقواس ويحددون مواضع الأبواب وفتحات النوافذ، أصبحوا إلى ذلك مفكرين أيضًا، وتفكيرهم أصبح له أبعاد اجتماعية وتاريخية وثقافية، عندما بدأوا يفكرون في هذا أصبح المعماري يظن أن بإمكانه تجاوز واقع العمارة والعمل على مشاكل اجتماعية أو بيئية أو اقتصادية، تتطلب حلولًا أشمل مما تستطيع العمارة وحدها تقديمه.
العلمانية الحقيقة هي صفة إيجابية، حيث تعني الانفصال الكامل بين الدين والسياسة أو بين الدين والحكم، في حين أن دول الخليج العربي إلى الآن تقوم بشكل رئيسي على التمسك بالدين كمسيطر على السياسة.
والمعماريون الأنبياء أمثال لو كوربوزييه وفرانك لويد رايت وحسن فتحي أو زها حديد، استطاعوا أن يكونوا أصحاب فكر ولم يكتفوا بكونهم أصحاب إنتاج معماري فقط. لاحظ مثلًا الثلاثة الذين ذكرتهم “لو كوربوزييه وفرانك لويد رايت وحسن فتحي” كتبوا ونظروا؛ أما زها حديد فهي تنتمي لمرحلة أخرى حيث إنها لم تنظّر ولم تكتب؛ بل كُتب عنها وأصبحت علامة تجارية وفنية.
وأعتقد أن هذا تطور جديد في العمارة بما إن العمارة أصبحت الآن مهنة رأسمالية؛ فالتنظير الدعائي أصبح مهنة منفصلة عنها أيضًا، حيث تجد أن المعماريين المهمين في العالم يستجلبون من يكتب عنهم، لأن مسألة الكتابة عن الذات والتاريخ المهني لم تعد كما كانت حيث أصبحت أكثر تعقيدًا وتحتاج إلى متخصصين أكثر.
لنتحدث عن المعماريين العرب في الوقت الحالي، هل هناك صحوة فعلًا خاصة مع كثرة البنايات أم لا زلنا نعاني؟
في الحقيقة لستُ مطلعًا على واقع العمارة في العالم العربي بالطريقة التي تسمح لي بأن أصدر أحكام عليها. اطلاعي فقط على المنتج الذي يُبنى. لا أعلم الديناميكية في العالم العربي الآن، لكن العمارة تواجه بعض المشاكل البنيوية المهمة؛ أولها وأكبرها الجهل في التعليم.
المعماري الذي يذهب إلى مدرسة عمارة عربية باستثناء مدرستين على حد علمي؛ (الجامعة الأمريكية في بيروت والجامعة الأمريكية في الشارقة). يبدأ حياته بعاهة الجهل التي يعاني منها قطاع التعليم في غالب البلدان العربية بشكل عام.
وأنا أقول إن التعليم في العالم العربي من المغرب إلى البحرين -ولن أتحدث عن الجزائر لأني لا أعلم طبيعة التعليم فيها- سيئ وقائم على التلقين ومراجعه قديمة، ولا يعرف المعماري كيف يبحث أو يذهب إلى مكتبة، هذا إن وجدت أصلًا في جامعته.
بالإضافة إلى المشكلة الثانية؛ وهي أن الموقع الاجتماعي للمعماري ليس متقدمًا مقارنة بغيره من أصحاب المهن، حتى إن العمارة لا نقابات تمثلها؛ بل تلحق كالأخت الصغيرة والضعيفة بنقابات المهندسين.
ثم ضعف الاستقلالية التعليمية وانعدام حرية التفكير والتعبير في الوطن العربي، بسبب السلطة الديكتاتورية التي تقمع النقابات والأفراد والأفكار، ربما يكون هو السبب الأول والرئيسي لتخلف كل مناح الإبداع في العالم العربي.
هناك من استطاع أن يفلت من سلطة تلك الأسباب، وغالبيتهم تخرج في مدارس أجنبية خارج النطاق الشمولي العربي المستبد؛ حيث أرى أن غالبية المشاريع المتميزة التي أعرفها لمعماريين عرب متميزين قد صممها معماريون من خريجي جامعات أوروبية وأمريكية. أو جامعات أمريكية في العالم العربي كبيروت والشارقة.
في كتابك عن المقريزي، تحدثت عنه بعمق إنساني كبير جدًا، كيف توصلت إلى تلك الدرجة؟
في الحقيقة بدأت التفكير في المقريزي من 24 سنة، بعد ما نشرت أول كتابين لي: الأول كان عن قلعة القاهرة التي كانت كتابات المقريزي مصدرًا مهمًا لدراستها، والثاني كان فصلًا عن عماد الدين الأصفهاني في كتاب السيرة الذاتية في الثقافة العربية؛ حيث كنت كاتبًا مشاركًا في مجموعة مكونة من تسع أشخاص.
خلق هذا لدي الرغبة أن أكتب عن المقريزي كمصدر تاريخي بالإضافة إلى صوته عن نفسه وعن حياته الخاصة كإنسان، وبمرور الوقت بدأ الاهتمام بالمقريزي يتزايد أكثر؛ خاصة أني كتبت أيضًا عن الفن والعمارة في المصادر العربية التي كان المقريزي أيضًا مصدرًا مهمًا لها.
بدأت أفكر في الموضوع أكثر. لهذا كتبت عدة أبحاث عن المقريزي، كان الاهتمام العلمي والأكاديمي بالمقريزي يتزايد. لكني كنت أراه اهتمامًا منقوصًا بما أن غالبية من درسوه ركزوا على نقد كتاباته التاريخية، أما أنا فلقد كنت مهتمًا بالمقريزي كإنسان، كمفكر وكمؤرخ أكثر من اهتمامي بنقد كتاباته.
كان لقيام الثورة في 2011 أولًا في مصر ثم في سوريا، دور كبير في تعزيز علاقتي بالمقريزي. كان تصوري عن المقريزي أنه “الثائر الجبان” الذي كان يعترض دائمًا على نظام الحكم المملوكي بسبب من عقيدته الإسلامية التي تعتبر النظام الأصلح هو أن تكون الخلافة في قريش وتطبق فيها الشريعة الإسلامية. في نفس الوقت لم يفعل المقريزي أي شيء ضد المماليك؛ بل سعى في بداية حياته للحصول على مناصب في دولتهم. ولكنه كان دومًا ناقدًا لما يراه من جور وعسف وإهمال.
الثقافة العربية المعاصرة متراجعة باستثناء الخليج الذي يصنع ثقافة عربية جديدة، أما الثقافة العربية المعاصرة في عواصمها القديمة الأربع (القاهرة، بيروت، دمشق، بغداد) فهي الآن مهزومة ومتهالكة وفقيرة.
ينطبق هذا الأمر عليَّ مثلًا حيث أني ناقد للنظام العربي. لكني لم أشارك في أي ثورة فعلية عليه؛ بل أقيم خارجه وأتمتع بحريات لا تتاح لمن هو بالداخل. وجدت للمقريزي سنة 2011 صدى لما أعرفه عن نفسي، حتى أني ابتدأت بالتماهي معه كنموذج للمؤرخ الناقد الذي أردت أن أكونه أنا أيضًا.
عاش المقريزي معي لفترة طويلة جدًا، لدرجة أن والدتي -رحمها الله- ظلت منذ سنة 2002 تطلب مني أن أنجز إتمام الكتاب قبل وفاتها لكي تتمكن من قراءته، لكنها ماتت سنة 2018 قبل أن تراه.
أصبح الكتاب هاجسًا؛ ليس فقط بالنسبة لي ولكن أيضًا بالنسبة إلى عائلتي، حتى أن ابني وزوجتي دائمًا ما كانا يسألان: “إزي المقريزي النهارده؟”.
وبالتالي حاولت كثيرًا أني أستخلص مما كُتب عن المقريزي. أو ما كتبه المقريزي عن نفسه أو ما كتبه المقريزي عن الذين من حوله بعض المعلومات عن شخصية المقريزي نفسها. لقد تماهيت مع المقريزي، حتى أصبح كتابه الذي كتبتُ؛ ليس عما كان هو؛ بل عما كنت أنا، يحمل كمية كبيرة من الشعور الشخصي.
ما هو مشروعك القادم في التاريخ؟
مشروعي القادم سيكون عن مؤرخ من القرن الثالث عشر، أقل شهرة من المقريزي، ولا نملك معلومات كافية عنه، لذلك سيكون جزء منه روائيًا وتاريخيًا أكثر. هذا المؤرخ هو أبو شامة الدمشقي؛ حيث كان أكثر مؤرخي عصره إنسانية، لذلك أفكر في عنوان “أبو شامة إنساني قبل عصر الأنسنة”.
تكلمت عن صدى الشخصيات القديمة في الحاضر العربي، في كتابك النقد التزامًا مثلًا تحدثت عن صلاح الدين الأيوبي ووقع سيرته في العالم العربي في ستينيات القرن الماضي، لماذا لم يعد لصلاح الدين ذكر الآن؟
أعتقد -دون أن يكون لديَّ تبرير علمي لما سأقوله- أن هناك أسباب متعددة لهذا، وأهم سبب لهذا هو انهزام الثقافة العربية المدوي في العقود الأربعة الأخيرة.
الثقافة العربية المعاصرة متراجعة باستثناء الخليج الذي يصنع ثقافة عربية جديدة، أما الثقافة العربية المعاصرة في عواصمها القديمة الأربع (القاهرة، بيروت، دمشق، بغداد) فهي الآن مهزومة ومتهالكة وفقيرة.
السبب الثاني هو صعود الهويات الإثنية – العرقية، وصلاح الدين الأيوبي الكردي عرقًا وانتماءً ولكن المسلم العربي دولة وكفاحًا استعيد من قبل الأكراد الذين أصبح صوتهم أقوى في المطالبة بالاعتراف بهويتهم وحقوقهم القومية. وبسبب تشرذم الهويات في العالم العربي، أصبح صلاح الدين بطلًا كرديًا بشكل أساسي. وربما جعل هذا بعض العرب العروبيين ينحازون عنه.
فما بين الهزيمة وبين صعود الهويات العرقية نُسي صلاح الدين.
أما صلاح الدين الأيوبي نفسه فلم يكن شخصية عالمة وإن كان مخلصًا. كان شبيهًا بالضباط الذين قاموا بانقلابات في العالم العربي باختلاف أنه كان أكثر نقاءً منهم. بحقيقة الأمر عندما شبه عبد الناصر نفسه بصلاح الدين لم يخطئ، لكنه أخطأ عندما ظن أنه يحمل من صلاح الدين جهاده ودأبه وبطولته. ونسي أنه أيضًا يحمل منه اعتداده برأيه وشموليته وتمسكه بالحكم وبعضًا من قلة معرفته.
لكن من وجهة نظر إنسانية يمكن استعادة صلاح الدين كبطل قومي، لأنه كان شخصًا ذا بعد إنساني فعلًا، كان كريمًا، ملتزمًا بدينه، خلوقًا، سريع العفو ويستجيب لاستغاثات الناس، ولذلك يمكن استرجاعه كرمز لنهضة نضالية عربية إنسانية الجذور والتوجهات.
نمتلك نحن العرب شخصيتين بداخلنا: الأول شخصية تقليدية والثانية شخصية حداثية، تحاولان التعايش معًا، وهذا أمر مستحيل، لأن الشخصية الحداثية جاءت كبديل للشخصية التقليدية.
كيف ترى المجتمع العربي المحاصر بين الحداثة والتقليد؟
تركيبتنا الاجتماعية المعاصرة منقوصة، لأننا لم نستطع التعامل مع الحداثة؛ إذ إن حداثتينا حداثة منقوصة، ونمتلك شخصيتين بداخلنا: الأول شخصية تقليدية والثانية شخصية حداثية، تحاولان التعايش معًا، وهذا أمر مستحيل، لأن الشخصية الحداثية جاءت كبديل للشخصية التقليدية.
تنتج محاولة دمجهم سويًا هذه التركيبة الاجتماعية المنقوصة الآن في المجتمع العربي، بالإضافة إلى الانفصام الثقافي الطبقي الذي تعيش فيه المجتمعات العربية؛ مثل الفرق بين مجتمع الكمبوندات الثرية الذي يمارس الناس فيه حياتهم الحداثية بحرية أكثر ومجتمع المدن القديمة والمهملة حيث الناس تلتزم بمعايير أخلاقية مختلفة.
ذكرت "النهضة الخليجية" كيف تراها؟ وهل هي بحاجة إلى استعادة شخصية تاريخية معينة؟ أم أن الأمر يختلف؟
الأمر يختلف جدًا؛ فمحاولة الاستعادة هنا عامة أكثر منها تركيزًا على أشخاص معينين أو حقبة معينة؛ فهناك تغيير في المركز؛ حيث إن الخليج غير قادر على استئثاره لنفسه؛ إذ إن الشخصيات التي لها علاقة بمراكز الثقافة القديمة، صعب انزياحها حتى تصير بمراكز ثقافية جديدة. ولكي يحدث هذا لا بد أن يكونوا من الشخصيات العابرة للثقافات المحلية، أي شخصيات ذات وزن عروبي أو إسلامي أو إنساني شامل.
عندما يتحدث الخليج الآن عن التراث الإسلامي في العمارة كتراثهم، فهذا لأنه تراث عابر للحدود. وهو والحالة تلك تراثهم كونهم مسلمين؛ فهم يتحدثون مثلًا عن قصر الحمراء ومسجد السلطان حسن كتراث لهم على أساس أن المبنيين علامتان مهمتان في التراث المعماري الإسلامي، لكن هناك بعض المباني وبعض الشخصيات التي لا يستخدمونها في محاولات الاستعادة القائمة حاليًا لأنها متجذرة في المكان الذي نشأت فيه.
بالإضافة إلى أن هناك اتجاهًا دينيًا جديدًا (السلفي التطهيري)؛ حيث تلاحظ أنه من الصعب بمكان استعادة شخصيات تاريخية فاعلة مثل المتصوفين المهمين ابن عربي أو جلال الدين الرومي، لأنهم يعتبرون خارجين عن الإسلام أصلًا من وجهة نظر سلفية. لذلك أقول إن الاستعادة انتقائية؛ حيث يتم استعادة أشخاص يمكن استخدامهم في تعزيز اتجاه ما، الوسطي أو العالمي مثلًا، والابتعاد عن أشخاص آخرين.
هذا يتناقض هذا مع من يسمون الاتجاه الحالي في الخليج هو اتجاه علماني؟
في الحقيقة أنا أستغرب ممن يسمونه علمانيًا؛ إما لجهلهم بالعلمانية، أو أن الجهل مقصود حيث طور مفهوم العلمانية إلى كفر وزندقة في القرن الماضي من قبل قوى دينية محافظة أو سياسية شمولية.
وبالتالي أعتقد أن الناس الذين يسمون الثقافة الخليجية الجديدة ثقافة علمانية، هم أناس يريدون الحط من قيمة الثقافة الخليجية عن طريق اتهامها بالعلمانية كصفة سلبية. في حين أن العلمانية الحقيقة هي صفة إيجابية، حيث تعني الانفصال الكامل بين الدين والسياسة أو بين الدين والحكم، في حين أن دول الخليج العربي إلى الآن تقوم بشكل رئيسي على التمسك بالدين كمسيطر على السياسة.
في مقدمة كتابك عمارة المدن الميتة كتبت، إلى والدي الذي عاش ومات وهو يحلم بسورية أفضل، هل نعيش لنرى سورية، مصر، لبنان، العراق أفضل؟
لا، لا أعتقد هذا؛ بالظروف الحالية المحلية والدولية وجيلي أنا على أقل تقدير لن يرى لا سورية أفضل ولا عراق أفضل ولا لبنان أفضل، ولا فلسطين أفضل، ولا مصر أفضل؛ بسبب من الاستبداد بالدرجة الأولى، وتدخلات مصالح خارجية عدوة بالدرجة الثانية. دول الخليج فقط هي من ستحيا في مستقبل أفضل، لأنهم يسعون حثيثًا لإرساء أسس البديل الاقتصادي للنفط قبل نفاده، وهم في سبيل ذلك يقودون نهضة معرفية وثقافية، وبدرجة أقل اجتماعية، في بلادهم. لا أستطيع الجزم بنجاحهم في هذا، لأن هناك بعض المعوقات البنيوية التي لم يحلوها بعد، ولكنهم على الأقل يحاولون وبزخم شديد.
حوار هام
تحياتي للمحاور و د ناصر الرباط
Thanks for sharing. I read many of your blog posts, cool, your blog is very good.