بمجرد عرض حلقاته الأولى، أثار مسلسل “دفعة لندن” من تأليف الكويتية هبة مشاري، والذي يُعرض ضمن خريطة الموسم الرمضاني هذا العام، عبر قنوات “MBC” السعودية، حالة جدل وربما غضبًا لم تنته بعد بين الكويتين والعراقيين، لم تقتصر على رواد مواقع التواصل أو حتى التراشق بين بعض الكتاب والمثقفين؛ لكن أصداءها تحولت سريعًا إلى حد المناوشات السياسية والدبلوماسية، بعد أن طالب نواب في البرلمان العراقي باستدعاء سفير الكويت لدى بغداد على خلفية الأزمة.
رد الفعل الكويتي كان سريعًا في محاولة احتواء الغضب العراقي، بالتبرؤ رسميًا من العمل، على لسان وزارة الإعلام الكويتية التي أكدت أن العمل لم يحصل على أي موافقات رسمية من الدولة، ولا يمكن اعتباره محسوبًا عليها كونه عملاً فنيًا يضم عشرات الفنانين من دول الخليج وآسيا بشكل كامل. التصريح الرسمي من جانب الكويت، إضافة إلى التبرير الذي جاء لاحقًا على لسان الكاتبة، أمورا لم تكن كافية لنزع فتيل “فتنة محتملة”، وسلسلة من المشاحنات اللاحقة.
الإساءة، أين؟
القصة بدأت مع عرض الحلقة الأولى للمسلسل، والتي اعتبرها العراقيون إساءة كبيرة، بتصوير العراقيات المبتعثات بالخارج كونهن خادمات، سيئ السمعة وسارقات.
تدور أحداث المسلسل حول مجموعة من الطلبة العرب من عرقيات وجنسيات مختلفة، يدرسون في لندن في حقبة الثمانينات؛ ويختلطون مع مختلف الثقافات من الدول الأخرى، مثل الهنود والإيرانيين وغيرهم.
اشتعلت الأزمة بعد ظهور عراقيات يعملن كخادمات، ويجري اتهامهن بالسرقة، إضافة إلى قيامهن بسلوكيات تنافي الأدب العام مثل الشتم، كما أظهرت إحدى الحلقات رجلًا عراقيًا يرفض نجدة الطالبات الكويتيات، بعد أن تعرضن للسرقة، ويبصق عليهن بدلًا من مساعدتهن، الأمر الذي اعتبره العراقيون إساءة كبيرة ومحاولة للتشويه. بالإضافة إلى مشهد آخر يتعلق بظهور رجل عراقي يعمل حاملاً لحقائب الفتيات.
تذهب غالبية الآراء إلى تعمد التشويه بهدف تحقيق أعلى مشاهدة، وتضيف الكاتبة العراقية أفراح شوقي لمواطن “إن المسلسل قد نجح في إثارة الجدل رغم فقدانه القيمة الفنية، واجتذب جمهور جديد مدفوع بالرغبة في التعرف على طبيعة العمل”.
وعلى الرغم من المحاولات الجادة لتبريد الجبهات وفض النزاعات، من جانب البلدين؛ خاصة بعد انتهاء نظام البعث في العراق، إلا أن المشاحنات السياسية تبدو حاضرة كالنار تحت الرماد، تحتاج عادة لتصرف ما أو حتى تصريح، لتشتعل موجة غضب شعبي بينهما.
واعتبرت أفراح أن المسلسل لا يثير غضب العراقيين وحسب، بل والعرب أيضًا للعديد من الأسباب، أولها توجيه إساءة واضحة للعراقيات، والمجتمع بشكل عام، وثانيًا التشويه المتعمد ضمن كافة الأحداث التي تبدو خالية من المنطقية وتبعد عن الحقيقة كل البعد.
المسلسل أظهر أن هناك مجموعة من الطالبات يدرسن في لندن، وتقوم على خدمتهن سيدة عراقية، لكن على العكس من ذلك شهدت العراق إبان الثمانينات ازدهارًا حضاريًا واقتصاديًا، ولم يكن هناك أي واقعة مشابهة لعمل العراقيات مثل هذه المهن، وكانت الحكومة تقدم رواتب شهرية مجزية لجميع المبتعثين في الخارج، على حد قول الكاتبة العراقية.
تسييس الأزمة
في بيان نشره، على صفحته الرسمية، عبر مجلس النواب العراقي، يوم 27 آذار/ مارس الماضي، عن غضبه تجاه المسلسل المثير للجدل، وطالب الكويت بوقف عرضه على الفور.
وفيما بدا استدعاء لحالة التوتر السياسي القديم بين الدولتين، قالت لجنة الثقافة بالبرلمان العراقي، وفق البيان ذاته إنها “تأسف لتناول المسلسل المذكور المرأة العراقية بهذه الطريقة المفبركة والتي لا أساس لها من الصحة”.
وتابعت أن: “التفسير المنطقي لولوج كاتبة المسلسل في محاولة الانتقاص من النساء العراقيات، إنما تعبر عن عقدة لديها من أخطاء النظام السابق الذي أذاق الشعبين العراقي والكويتي الأمرين، ولا يخفى على الجميع معاناة الشعب العراقي من ويلات الحروب الدموية وسنين الحصار الاقتصادي والدوائي الذي خلف الكثير من المآسي لأبناء شعبنا الصابر على مدى ثلاثة عشر عامًا”.
ولا يمكن تجاهل التوتر القديم بين البلدين، والذي ألمح إليه صراحة بيان مجلس النواب العراقي، كان حاضرًا، وربما تسبب في تأجيج حالة الغضب والحساسية عقب إذاعة المسلسل.
ومرورًا على تاريخ التوتر بينهما، فإن العلاقات السياسية والدبلوماسية قد شهدت مراحل متفاوتة من الخلاف تاريخيًا، كان المنعطف الأكبر فيها هو الغزو العراقي للكويت عام 1990، ما سمي بحرب الخليج.
"القصة إسقاط لرؤية سرقة العراق من العراقيين، سرقة تاريخها وإرثها الحضاري ومستقبل أبنائها بسبب الحرب والانقلابات العالمية، هذا الإرث الذي يعرض في التاريخ، ومع الأسف كان التلقي سطحيًا"، حسبما صرحت مؤلفة المسلسل، هبة مشاري
وعلى الرغم من المحاولات الجادة لتبريد الجبهات وفض النزاعات، من جانب البلدين؛ خاصة بعد انتهاء نظام البعث في العراق، إلا أن المشاحنات السياسية تبدو حاضرة كالنار تحت الرماد، تحتاج عادة لتصرف ما أو حتى تصريح، لتشتعل موجة غضب شعبي بينهما.
من بين ردود الأفعال، طالب النائب العراقي مصطفى جبار سند، باستدعاء السفير الكويتي للتحقيق معه بتهمة الإساءة للمرأة العراقية، وقال في كتاب لمجلس النواب: إن “مسلسل “دفعة لندن” تعمد محو قيمة الكفاءات العراقية المعروفة؛ أمثال المهندسة زها حديد وغيرها، ليشوه صورة الشعب العراقي ككل وليس المرأة فقط”.
إبان حالة الهجوم الكبير الذي تعرضت له، لجأت المؤلفة الكويتية هبة مشاري لمحاولة تهدئة ردود الفعل، وكتبت عبر خاصية القصص في “انستغرام” ردًا على أحد العراقيين: “سيدي الفاضل تاريخكم أكبر من أن يخبروني به مجموعة من المشحونين عاطفيًا، تاريخكم يخصنا نحن العرب نستند عليه ونتباهى به، المصيبة من المتلقي قصير النظرة المعبأ بفكرة المؤامرة”.
وأضافت: “أنا شخصيًا أراهن على أنك لم تر العمل من أوله، لأن العمل يتحدث عن بنات أستاذ تاريخ عراقي من وارثي الحضارة تم إعدامه، وكان قد ائتمن صديق عمره على بناته اللاتي تنتظرهن ثروة باذخة ولديهن بيت في لندن، هذا الصديق ترك البنات على رصيف المطار وهرب بالمال”.
ثم ختمت بأن “القصة إسقاط لرؤية سرقة العراق من العراقيين، سرقة تاريخها وإرثها الحضاري ومستقبل أبنائها بسبب الحرب والانقلابات العالمية، هذا الإرث الذي يعرض في التاريخ، ومع الأسف كان التلقي سطحيًا جدًا؛ فالعراق أكبر من تخليص الحسابات، ولكن أخذكم الحماس والغيرة، والله يعلم أننا نغار على عراقنا أكثر منكم، لكم الظنون ولله النوايا”.
ردود أفعال الكويتين، كيف جاءت؟
لم تقتصر ردود الفعل الغاضبة على العراقيين فقط؛ لكنها امتدت لتشمل الكويتيين أيضًا، في حين دافع البعض عن المسلسل، أو على الأقل اعتبروا حالة الغضب ورد الفعل مبالغًا فيها، رأى آخرون يمثلون القطاع الأكبر من الآراء أن الكاتبة قد أخطأت وأساءت بالفعل للعراقيات ووجب عليها الاعتذار.
ويؤكد الناقد الكويتي فهد الهندال لمواطن، أن تبرير الكاتبة. ردا على النقد الموجه لها، لم يكن مقنعًا، وكان عليها الابتعاد عما قد يثير أبناء المجتمع العربي، خاصة وأن شعار القناة المنتجة الدائم “رمضان يجمعنا“.
بينما جاء نقد أخلاقي للمسلسل من المدون الكويتي طلال البحيري، وشن هجومًا حادًا على الكاتبة وصناع العمل، خلال فيديو نشره عبر حسابه على “تويتر”، اعتبر بعض ألفاظ الحوار غير لائقة أو حسبما وصفها هو بـ “المسخرة”.
أما الناقدة الفنية ليلى أحمد كان لها رأي مغاير أيضًا، لم يخل من توجيه انتقاد للكاتبة، عبر حسابها على فيسبوك، وكتبت أن هبة مشاري حمادة كويتية، ولكن هذا لا يعني أن فكرها معبر عن الكويتيين؛ بل أن الكويتين هم الأكثر انتقادًا لأطروحاتها في مسلسلاتها. وأضافت “المؤلفة الكويتية؛ لا تحب النقد الموضوعي، وقد صكتني بلوك، (سعة صدر “عظيمة”- للرأي المختلف عن آرائها)”.
وعلى النقيض، دافع بعض الكويتيين عن المسلسل، كان أبرزهم الإعلامية مي العيدان التي اعتبرت الهجوم غير مبرر، وقالت عبر “تويتر” إنها مستغربة من استياء العراقيين من مشهد وجود خادمةٍ عراقيةٍ في المسلسل في ثمانينات القرن الماضي؛ حيث علقت أن هذا الأمر لا يدعو للاستياء، وأنه لا يقصد الإنقاص من شأن الشعب العراقي، وإنما هي طبيعة الشخصية في المسلسل.
#دفعه_لندن
— مي العيدان (@mayal3eidan) March 26, 2023
اشفيهم اخوانا العراقيين زعلانين ان في وحده عراقيه تشتغل بالخدمه عند خليجيات في لندن بالثمانيات بكل الدنيا في فقير وغني حتى بالكويت بالعصور القديمه الكويتيه الفقيره تشتغل في بيوت التجار العمل الشريف مو عيب ولا يخجل ولا حرام
إثارة جدل معتادة، من المؤلفة
فمن ناحية فنية “القصة مفقودة والخط الدرامي ليس واضحًا، والشخصيات جامدة في تكوينها ونموها وحواراتها سطحية جدًا، وهذا أمر معتاد في أعمالها السابقة”، بحسب فهد الهندال، ومن غير المتوقع أنه سيختلف لاحقًا؛ فالكاتبة وكما صرحت في أحد البرامج، أنها تكتب وليست صاحبة قرار، وهناك من يدفع وهو صاحب القرار، وختم متسائلاً: “أين الفكر الدرامي في كتابة النصوص إذا كانت الغاية تحقيق إيرادات ومبيعات فقط؟”
وهو ما تتفق فيه ليلى أحمد مع الهندال، إذ وضحت أن هبة مشاري وقناة الإنتاج والعرض السعودية (MBC). يبحثان دائمًا عن الإثارة للحصول على الترند ونسبة مشاهدة عالية، حتى لو كانت الأعمال غير مكتملة النمو الدرامي وغير واقعية.
أما الكاتبة العراقية حوراء النداوي فترى إن هناك تسطيح وتتفيه للقضايا التي يطرحها المسلسل، وكما يبدو فهي مشكلة لدى الكاتبة؛ فهذا النمط يتكرر لديها في كل الأعمال، من سرايا عابدين؛ حيث جعلت من شخصية مهمة ومفصلية في تاريخ مصر كالخديوي إسماعيل، مجرد رجل غضوب تعبث به المؤامرات النسائية، في محاكاة عجيبة لمسلسل حريم السلطان.
هناك شبه اتفاق عراقي/كويتي تقريبًا، بأن دفعة لندن مسلسل “تجاري” يستهدف إثارة الجدل، من أجل تحقيق أعلى نسب مشاهدة، ويبدو أن ذلك ما حدث بالفعل، بعد حالة الجدل المُثارة منذ بداية الموسم الرمضاني. بين شعبين يجمعهما تاريخًا من التوتر، وحكومتين تأملا إلى تعزيز مصالحهما المشتركة، إثر تغيرات سياسية في المنطقة، وهو ما يسر من احتواء الأزمة سريعًا، خاصة مع تبرأ الجانب الكويتي من العمل.