منذ بدء أزمة الموازنة في الكويت، تخرج بين الفينة والأخرى تصريحات نواب برلمانيين معادية للوافدين. ولهذه التصريحات أهمّية من حيث إنّ الحياة البرلمانية في الكويت، ولو أنها ليست ديمقراطية بالكامل، تلعب دورًا في الضغط على الحكومة؛ فقد استقالت خمس حكومات في الثلاث سنوات الماضية، بسبب طلبات نزع الثقة المتكرّرة من المعارضة، كما أنّها حالت دون إصدار قانون الدّيْن العام لشكّها في قدرة الحكومة على إدارة القرْض المفترض، وتوظيفه في الإصلاح الاقتصادي.
قد يستنكر الكويتيون أن بلدًا من أهم منتجي النفط في العالم، يعاني من مشاكل اقتصادية تنعكس أساسًا في عجز الميزانية، بينما لا يجد بعض السياسيين؛ سواء من المعارضة أو الحكومة من جوابٍ سوى ذريعة: أنّ الشرّ كلّه من “الوافدين“، وذلك هربًا من طرح الأسئلة الحقيقية التي تجلب “وجع الرأس” والتي تتطلّب معالجتُها تجرّع دواءٍ مرّ.
يعتمد هذا الخطاب الشعبوي الذي يستعمله هؤلاء السّاسة، على وصفةٍ تواصلية تتألّف من نقاط ثابتة، مثل استعمال ورقة التخويف من خلال عبارات من قبيل: "التغلغل والغزو الخفي" كنايةً عن العمالة الوافدة في البلاد.
فزاعة "الوافدين"
وبالرغم من حملات الهجوم تلك، غير منظمة في شكل فرقٍ نيابية، وأحزابٍ سياسية، إلّا أنّ هذه الأصوات تلقى رواجًا على وسائل التواصل والإعلام، لكونها تصنع الفُرْجة بعباراتها الصادمة ذات الميل للشعوبية.
تأتي هذه التصريحات بهدف اقتراح حلولٍ عنصريةٍ لمشاكل اقتصادية، وذلك لتقليص عجز الميزانية من جيوب العمالة الوافدة، كما سبق وطالب أحد النواب بجلسة لمناقشة حماية الكويتيين في الداخل، مما قد يتسبب به أي قرار حكومي بزيادة الأسعار.
يعتمد هذا الخطاب الشعبوي الذي يستعمله هؤلاء السّاسة، على وصفةٍ تواصلية تتألّف من نقاط ثابتة، مثل استعمال ورقة التخويف من خلال عبارات من قبيل: “التغلغل والغزو الخفي” كنايةً عن العمالة الوافدة في البلاد.
يعرف هؤلاء أنّ اللعب بفكرة أنّ الوافدين يمثّلون ثلاثة أضعاف الكويتيين، تثير المخاوف حول التوازنات الديمغرافية وتبعاتها، ويتم تكرار هذه الفكرة ، دون فتح نقاش مفصّلٍ حولها قد يؤدّي لدحضها، بغية انتزاع مكاسب سياسية.
وقد قام أحد النواب الكويتيين سنة 2017،بالمطالبة بإيقاف ما أسماه “استيطان الوافدين”، مستنكرًا تزايد الأجانب ورافضًا “تحوّل الكويتيين الى أقليّة في بلدهم”، وكأنّ الوافدين يتوفّرون على العتاد العسكري للاستيطان!
مع أن العمّال الوافدين في الواقع هم الحلقة الأضعف في الكويت؛ فهم غير ممثّلين في البرلمان، ولا قوانين تنصفهم، ونادرًا ما تدافع حكومات بلادهم عنهم.
وفي مايو 2020 قام نفس النائب بتقديم مقترح قانون يطالب بوقف الدعم المالي الذي تقدّمه الكويت عبر صندوق التنمية للدول التي رفضت استقبال رعاياها في أوج أزمة كورونا، إثر انتفاضة هؤلاء العمال على الترحيل من الكويت.
أصوات مرتفعة، تتحدث باسم الكويت
في الكويت تكرر أصواتًا من الحكومة والمعارضة علَنًا ما تفكّر فيه شريحة من المجتمع سرًّا، لكسْب رضاها، والادعاء أنّ هذه الفئة هي التي تمثّل الكويتيين حصرًا، وأن الرأي العام كلّه موحّد يتبنى نفس وجهة النظر.
وهو أمرٌ غير صحيح لأن الكثير من الكويتيين يستنكرون التصريحات المستفزّة، والحالة السيئة التي يعيشها الوافدون، وهناك أصوات كويتية ذات شعبية تندّد بالممارسات العنصريّة؛ مثل الإعلاميّيْن ليلى أحمد وعلي خاجة.
ينصب أصحاب خطاب الكراهية ضد الوافدين أنفسهم كحماةٍ للكويتيين من “الآخر”، الذي عوض أن يكون شريكا يتم اعتباره عدوّا، عن طريق تكريس فكرة أن كل المهاجرين مخالفين للقانون، وتعميم تجارب شخصية سيئة على الملايين من الأفراد، وبالتالي كسر أي إمكانية تعاطف معهم.
كما يسوّقون لفكرة الهويّة الأحادية للكويت، مع تجاهل أنّ العديد من “الوافدين” بعد سنين من الإقامة لم يعودوا “وافدين”؛ بل أصبحوا جزءً من المجتمع، كما أنّ هذا “الآخر” يشمل أحيانًا “البدون” ومزدوجي الجنسية أيضًا.
و لا يبدو أن أصحاب خطاب الكراهية من النواب في الكويت، يتبنّون مشروعًا سياسيًا واضح المعالم؛ بل نوعًا من المزايدة على الحكومة، عبر تبني العنصرية كسياسة، وكان آخر مظاهرها إيقاف استقدام العمالة المصرية عبر تعليق إصدار تصاريح العمل، والإعلان عن الموازنة الجديدة تحت شعار: إعطاء الأولوية للكويتيين.
وقد قامت إحدى الحكومات السابقة، في خطوةٍ من الفصل العنصري، بتخصيص مستشفى جابر الأحمد للكويتيين دون الأجانب، مع كلّ ما يترتب عن هذا العزل من رداءة في الخدمات الصحية المقدّمة للأجانب وصعوبة في الولوج لها بسبب رفع رسوم التأمين.
يزيد بعض السياسيين راديكاليةً في الخطاب عن الحكومة من أجل كسب أصوات الناخبين، تحت مسمى ما يعتبرونه إرادة الشعب، واتهمت برلمانية سابقة الوافدين بتردي الخدمات الصحية وبـ “التمارض”، وعلّت على سقف الحكومة بالمطالبة بتخصيص مزيدٍ من المستشفيات للكويتيين حصرًا.
وعلى الرغم من أن البترول هو السبب في الأزمة الاقتصادية؛ إلا أن ارتفاع الأسعار من جديد بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. ساهم في درء جزء من الفارق، ولكن ليس كلّيًا.
هذا الاتجاه الشعبوي يسعى لإرضاء الكويتيين بإجراءات وشعارات لا تناقش جذور الأزمة الاقتصادية؛ بل تخلق أزمة أخرى اجتماعية وقِيَميَة تزيد الأمور تعقيدًا. ودون إيجاد حلٍّ لعجز الموازنة مبني على دراسات علمية ووقائع، وليس مشاعر أو انطباعات شخصية، كمن يكنس بيته ويخبئ التراب تحت السجاد.
واقع الأزمة الاقتصادية، بعيدًا عن الوافدين
النفط؛ هو ما صنع غنى دولة الكويت، وهو ما يشكل نقطة ضعفها اليوم إذ تعاني الدولة من الاعتماد شبه الكلّي على البترول؛ حيث يشكل 91% من العائدات، مما خلف تداعيات سلبية على الاقتصاد؛ فبالإضافة إلى رهن ميزانية البلاد بتغيّر أسعار البرميل في السوق الدولية، يؤدّي عدم تنوّع اقتصاد البلاد إلى اشتغال أغلب الفئة النشيطة في الوظائف العمومية.
الكويت لم تتأقلم بعدُ مع الاتجاه الدولي نحو الحدّ من الانبعاثات الكربونية بالانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة، وما زالت لم تقم بتبنّي الغاز لتوليد الكهرباء، الذي من شأنه التوفير في مصروفات الدعم، والحفاظ على البيئة.
وعلى الرغم من أن البترول هو السبب في الأزمة الاقتصادية؛ إلا أن ارتفاع الأسعار من جديد بسبب الحرب الروسية الأوكرانية. ساهم في درء جزء من الفارق، ولكن ليس كلّيًا، لأن هناك مجموعة من “الهفوات” التي ساهمت بدورها باستمرار العجز.
يلقي أستاذ الاقتصاد القياسي عبد الله الشامي الضوء على طريقة حساب الدعم المقدّم للمواطنين على الكهرباء والبنزين، التي لو تمّ تعديلها سينخفض حجم المساعدات الاجتماعية بما يقارب ملياري دينار، وذلك عبر عدم ربط مبلغ المساعدات بأسعار بيع النفط اليومية المتغيّرة، التي إذا ارتفعت ينبغي أن يرتفع الدعم كذلك، وهو ما لا يتماشى مع منطق إدارة الدولة؛ بل ينبغي تحديد قيمة الدعم بحساب قيمة التكلفة الفعلية لتوليد الكهرباء.
كما أنّ الكويت لم تتأقلم بعدُ مع الاتجاه الدولي نحو الحدّ من الانبعاثات الكربونية بالانتقال إلى مصادر الطاقة المتجددة، بسبب تعثّر مشروعي “الدبدبة” و”الشقايا”، وما زال لم يقم البلد بتبنّي الغاز لتوليد الكهرباء، الذي من شأنه التوفير في مصروفات الدعم والحفاظ على البيئة.
ضعف الحكامة أيضًا هو من بين الأسباب التي تساهم في عجز الموازنة؛ فهناك فرق بين ما يُكتب في الموازنة على الورق وما يجري على أرض الواقع. يتمثل الفرق فيما اعتبره الخبير الاقتصادي نادر العبيد مشاكل في “الحِرَفِيّة والشفافية في هيكلة الميزانية”؛ فبحسب تحليله أن هناك مصاريف مبهمة وغير مبرّرة.
كما أن الصحفي محمد البغلي سبق وأن انتقد ما وصفه “هدْرًا وغموضًا في الميزانية”، متحدّثًا عن بنود تحتوي على نفقات غير مفصّلة ولا لزوم لها يناهز مجموعها ملياري دينار، من مخصصاتٍ لـ “الرحلات والمؤتمرات والمهمّات الداخلية والخارجية”.
ناهيك عن مجموعة من الأخطاء أشار إليها الباحث الاقتصادي سلمان نقي، من بينها قيام بعض الجهات الوزارية بتخصيص نفقات لمشاريع والمماطلة في إنجازها، وأخطاء حسابية جسيمة خفّضت رقم الإيرادات الحقيقية التي قامت بتحقيقها.
يستمر العجز في ميزانية 23-24 التي دخلت حيّز التطبيق في فاتح إبريل الجاري، بما يقدّر بأكثر من خمسة مليارات دينار، ولكن بالطبع لن يحدّثنا سياسيٌّ من أصحاب خطاب الكراهية، عن هذا الجزء من الصورة، طالما أنّ خطاب الكراهية يلقى إقبالًا جماهريًا أكثر من الخطاب المتعقّل، وطالما أنّ المحاسبة القانونية غائبة وأنّ صوت الوافدين غير مسموع.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.