بين نهايات الطفولة وبدايات الصبا، كانت عائشة السيفي تقف أمام المرآة تتلو أشعارها، تتخيل نفسها على مسرح، يقابلها جمهور عريض، يصفق بعضهم بشدة، ويرددون عبارات الثناء، ويخاف بعضهم، ويغضبون من كونها أنثى؛ بسبب تقاليد تؤطر المرأة بعيدًا عن بعض المجالات. حطمت السيفي إحدى هذه الأطر فيما بعد، كأول امرأة تفوز بجائزة أمير الشعراء.
بداية، لم تكن سهلة
كتبت في بداياتها متأثرة بنزار قباني قصيدة “الوردة البيضاء”، ووضعتها في درج بمنزل والدها القديم، وحينما انتقلت العائلة لمنزل جديد ضاعت القصيدة، لكن ذلك الفقد جدد حبها للشعر وإلقائه؛ إذ كانت تُفسح لها المجالس على أخشاب المسارح المدرسية في عُمان.
“لازالت استحضر عائشة الصغيرة في كتاباتي، وأشعر أن هنالك الكثير من العوالم الكبرى التي لازمتني في طفولتي”. تؤكد عائشة لمواطن. فالدراما المكسيكية وشخصيات الأفلام المصرية القديمة، وأبطال الروايات العربية، كانوا العالم الموازي الذي تغوص في أحلامه، تنتقي منه التفاصيل الصغيرة، وتمزجها بتجارب اكتسبتها من الحياة في قريتها (تبتل) بولاية نزوى، التي حملت ذكريات صباها.
ولاية نزوى هي أول عاصمة لسلطنة عمان في التاريخ وقبلة زوارها، يفصل بينها وبين العاصمة الحالية مسقط، 164 كم، عرفت باسم “بيضة الإسلام” نسبة إلى دورها ونشاطها في تاريخ الفكر الإسلامي، وأطلق عليها فيما بعد السلطان قابوس، “مدينة العلم والتراث”. كما تضم الولاية أحد أهم الحصون القديمة، وهو حصن بيت الرديدة من القرن السابع عشر الميلادي، بالإضافة إلى بيوتها المتميزة والتي تشكل عاملاً هامًا لجذب السياح.
لم تكن البدايات سهلة، ولم يكن هنالك حولها من يستوعب موهبتها ويتذوق أشعارها؛ فعدد كبير من صديقاتها لا يقرأن الشعر، ولا يصغين له، لم يؤثر ذلك فيها؛ فقد كانت تعتبر من الشعر هوية شخصية لا يمكن التخلي عنها من أجل الآخرين، ولا فرضها عليهم، وتؤكد: “لم أجبر أحدًا ممن حولي أن يكون جزءً من هذه الهوية”.
كنت بداخلي أشعر أن الفوز قادم لا محالة، وأردت أن أخبر الدنيا أن هناك امرأة شاعرة قادمة من قرية نائية في نزوى، من مجتمع محافظ وقبلي، لكن بوسعها أن تشترح الفوز من فم الأسد"
لم تستطع هذه الموهبة الاختباء كثيرًا، كما لم تقبل الاندثار مع أحداث وتقلبات الحياة، فتحت الباب لخروج قصائدها للنور في عام 2005، بدأت النشر في بعض الصحف المحلية العمانية وبعض الصحف العربية، وصدر لها ثلاثة دواوين شعرية، وهم: “أحلام البنت العاشرة، لا أحب أبي، البحر يبدل قمصانه”. كما فازت في مهرجان الشعر العماني، وكانت في سابقة فريدة من نوعها، أن تذهب الجائزة إلى شاعرة للمرة الأولى من تاريخ إطلاق المهرجان.
دراسة الهندسة، بدلاً من الأدب
التحقت عائشة بجامعة السلطان قابوس، كان هدفها الأساسي هو دراسة الأدب لتكمل بناء جسد الشعر الذي نبت في روحها، لكن رغبتها في استكشاف الحياة ساقتها إلى كلية الهندسة المدنية، لتصبح بذلك أول فتاة تدرس الهندسة في عائلتها، “جميع النساء تتجه إلى خيار التدريس، لأن المهن الأخرى لم تكن متاحة للنساء في مجتمعنا”.
سلكت طريقها المهني والعلمي بعد التخرج في 2010 عبر العمل في شركة استشارات هندسية، والحصول على ماجستير في الهندسة والتنمية الدولية من كلية لندن الجامعية. كان الشاعر في مخيلة عائشة، لا يجلس فوق أبراج عالية ويحدق إلى العالم؛ بل يكون معجونًا ومطحونًا بحياة الناس اليومية.
وهو ما لم يجعل من دراسة الهندسة عائقًا لأن تصبح شاعرة: “أتصور أن الشعر كذلك لا يخرج غريبًا عن ألسنة الناس وغريبًا عن حياتهم؛ إنما يخرج ليشبههم ويلتقط تفاصيلهم التي يعيشون بينها”. وكأن جزءً من تجربتها الشعرية حضورها كمهندسة وكامرأة في المجتمع وبين الناس.
تعيد عائشة السيفي للأذهان بروز ظهور الكاتبات العمانيات مؤخرًا، كجوخة الحارثي، الكاتبة العربية الأولى التي استطاعت أن تحصد جائزة المان بوكر، عن روايتها "سيدات القمر" عام 2019.
العمانيات قادرات
الشعر مثل الحبيب يحتاج إلى الاخلاص والصدق والإيمان به، وهذه العلاقة هي التي ربطت بين عائشة ونصوصها، فأدركت بذلك أنها كانت إضافة هامة لمسابقة أمير الشعراء، في الكلمة والصوت والهوية وفي النص الشعري، ومهد هذا لها الفوز بالمسابقة، والوقوف على منصة التتويج “أميرة”.
اعتنت بنصوصها التي ألقتها في البرنامج ولم تدخر الوقت أو الجهد، ولم تهمل نصائح من وقفوا على المنصة قبلها: “كنت بداخلي أشعر أن الفوز قادم لا محالة، وأردت أن أخبر الدنيا أن هناك امرأة شاعرة قادمة من قرية نائية في نزوى، من مجتمع محافظ وقبلي، لكن بوسعها أن تشترح الفوز من فم الأسد”.
وعلى مستوى شخصي واجهت تحديات عدة؛ منها تحديات مع العائلة التي لم تتقبل في البداية هذه المشاركة: “أردت أن أقول إننا كنساء عندما نفوز فإننا لا نفوز وحدنا، ولكننا نفوز حاملات الشاعرات اللاتي أتين من قبل، واللائي سوف يأتين بعدنا ويمتثلن بتجاربنا”.
واعتبرت المسابقة فرصة إخبار الدنيا بقدرات نساء عمان إلى العالم، وأنها ليست استثناءً؛ إنما هناك عمانيات أخريات قادرات على تحقيق الذات والنجاح، وأنهن يملكن الشجاعة الكافية للحديث عن عوالمهن الذاتية.
تعيد عائشة السيفي للأذهان بروز ظهور الكاتبات العمانيات مؤخرًا، كجوخة الحارثي، الكاتبة العربية الأولى التي استطاعت أن تحصد جائزة المان بوكر، عن روايتها “سيدات القمر” عام 2019، وفازت نفس الرواية أيضًا بجائزة الأدب العربي في باريس، عام 2021.
وخلال تسع مواسم سابقة، كان الفوز دائما من نصيب شعراء رجال، إلى أن جاءت النسخة العاشرة، وتكسر عائشة السيفي سيطرة الشعراء الرجال على جائزة أمير الشعراء.
بالإضافة إلى الأديبة بشرى خلفان، التي نافست روايتها دلشاد عام 2022 في القائمة القصيرة لجائزة البوكر، كما حصدت نفس الرواية جائزة كتارا للرواية العربية. هذا إلى جانب أخريات كشريفة التوبي، وبدرية الشحي وهدى حمد، وغيرهن.
من بعد سيطرة ذكورية، أول امرأة أميرة للشعراء
تحتل مسابقة أمير الشعراء مكانة هامةـ ويتسابق عليها آلاف كتاب الشعر من كافة أقطار الوطن العربي، منذ إطلاقها حتى الآن، وتستهدف الارتقاء بشعر الفصحى العربي، وإعادة إحياء قيمته الأدبية.
تنظم المسابقة هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، وتقوم أكاديمية الشعر، في الإمارات بتوثيق الإنتاج الشعري للمشاركين عن طريق إصدار دواوين خاصة بأعمالهم الأدبية، ونجحت المسابقة في تقديم مواهب شعرية شابة متعددة للجمهور العربي.
تتكون لجنة التحكيم من ثلاثة محكمين، تعطي جائزتها إلى خمس فائزين في كل موسم، جائزة المركز الأول مليون درهم، والمركز الأخير بينهم مائة ألف درهم، ويكون عمر المتقدم ما بين 18 عامًا إلى 45 عامًا، وتنتهي فعاليات البرنامج التنافسية بالتصويت بنسبة 60% لصالح الجمهور، و40% خاصة بلجنة التحكيم.
وخلال تسع مواسم سابقة، كان الفوز دائما من نصيب شعراء رجال، إلى أن جاءت النسخة العاشرة، وتكسر عائشة السيفي سيطرة الشعراء الرجال على جائزة أمير الشعراء.
وكان الإيمان بالذات لديها، بالإضافة إلى الحرص على تسخير كتاباتها لتكون ذات معنى وذات رسالة، وأن يكون النص أصيلاً لا يشبه أي نص آخر؛ بل يشبهها هي وحدها، وأن يكون صوت الأنثى حاضرًا فيه، وألا يستورد شيئًا لا يشبه صورة الشاعرة التي تقف على المنبر، أن تكون ذاتًا أنثوية متفردة، كانت هذه استراتيجية تفوقها.
حصولها على لقب أميرة الشعراء، زادها مسؤولية ورغبة في مواصلة الرحلة، وتوسيع رقعة جمهورها الشعري، لاسيما هؤلاء الذين يزيدهم فضول معرفة تجربة الشعر العماني: “الفوز ليس فوزًا إن كان سينتهي عنده الشاعر، وأن يبني ويستكمل ما بدأه، أنا مسؤولة أمام الشعر واطفالي وأمام مجتمعي وأمام من دعموني ووقفوا خلفي في رحلة الفوز”.
تقاليد تؤطر المرأة بعيدًا عن بعض المجالات. حطمت السيفي إحدى هذه الأطر، كأول امرأة تفوز بجائزة أمير الشعراء.
وعقب الفوز باللقب، تبرعت بمبلغ 10 آلاف ريال عماني، لمبادرة فك كربة، التي تنظمها جمعية المحامين العمانية، وتتبنى مساعدة المواطنين المحبوسين بسبب الديون في عمان: “ليس أعز على الإنسان من أن يفك كربة إنسان آخر، أردت أن تكون رسالة نبيلة لنقف مع الضعفاء، وأن الشاعر يجب أن يقف مع من يحتاج إليه من المهمشين، وهذه هي مسؤوليتي أنا كشاعرة”.
لم يكن الفوز فوزًا تقليديًا، وإنما كانت مغامرة فريدة من نوعها، مليئة بالتحديات؛ خاصة ضد أصوات ذكورية لا ترحب أن يكون للشعراء العرب أميرة، لكنها سحبت البساط من تحت أقدام الرجال، الذين استحوذوا على لقب المسابقة لتسع مواسم ماضية، منذ انطلاقها عام 2007. لم تواجه فقط الشعراء المتنافسين معها في المسابقة، بل واجهت ثقافة، لا تحب لها أن تكون شاعرة.